عرض الفنانون العراقيون قبل أيام في مدينة لاهاي الهولندية خمسة عشر فيلماً وثائقياً وروائياً، هي حصيلة الدورة الأولى لمهرجان "السينما الوثائقية العراقية" صاحبتها ندوتان نقديتان مع مناقشة لبعض الأفلام التي عرضت. كما طرح عدد من المخرجين تصوراتهم المستقبلية للسينما العراقية. وكان هذا المهرجان هو الأول في تاريخ السينما العراقية الجديدة وتجمع فيه عدد كبير من المخرجين القدامى والشباب ليصبح صورة حقيقية للمخرجين أنفسهم وللأفلام العراقية في المهجر، علماً أن بعض هذه الأفلام لم ينتج في المهجر بينما قضى مخرجه عقوداً وهو مغترب. ما يلمسه المشاهد في هذا المهرجان البكر للسينما العراقية في المهجر أن الجمهور العراقي والهولندي تفاعل مع الأفلام وعلى مدى اليومين في شكل لافت، لا سيما ان الأفلام كانت مترجمة الى اللغة الإنكليزية. فقد امتلأت القاعات بالمشاهدين، لا بل أدخلت كراس كثيرة لوضعها في الممرات، بينما ارتضى البعض الآخر أن يشاهد العروض وهو واقف، في حين عاد عدد ليس بالقليل من الهولنديين والعراقيين وهم وسط دهشة أن تمتلئ القاعات بينما لم نجد في مهرجانات السينما العربية التي تعقد هنا أكثر من عشرة أشخاص في العرض الواحد. كان اليوم الأول للمهرجان من جزءين، ضم الأول الافتتاح الذي بدأ بعزف مقطوعة موسيقية لكل من عازف العود احمد المختار وعازف الرق ستار الساعدي اللذين قدما مقطوعة موسيقية بعنوان "أنغام من بغداد"، تلاها عرض فيلم "الأهوار" للمخرج قاسم حول واختتم الجزء الأول بعرض فيلم للمخرج إبراهيم سلمان بعنوان "ثلاثة أشكال لرجل الجبل الذي يريد ان يصبح كلب البحر". بينما حوى الجزء الثاني أفلام "الأزياء" للمخرج هادي الراوي و"في حقول الذرة الغريبة" للمخرج قاسم عبد و"صمت الحياة" للمخرج قتيبة الجنابي، تلتها جلسة نقدية. واختتم الجزء بفيلم "صراخ الصمت الأخرس" للمخرج قيس الزبيدي. وضم الجزء الأول لليوم الثاني للمهرجان فيلم "بغداد اون/ اوف" للمخرج سعد سلمان، وحديثاً للمخرج هادي الراوي عن عدد من أفلامه، ثم عرض فيلم "تحديات ساعي البريد" للمخرج محمد توفيق. واحتوى الجزء الرابع والأخير على سبعة أفلام قصيرة لكل من المخرجين رانية محمد "نوال" وأوروك علي "طائر آخر يتوارى" وثامر الزيدي "زعتور" وجمال محمد امين "انهم يصنعون الحياة" وطارق هاشم "يوم القدر" وفؤاد جلال ميران "البنفسج" ومحمد الدراجي "البلدوزر". محاور توزعت الأفلام على ثلاثة محاور. المحور الأول هو: محور المكان، وكانت الأهوار المكان الذي حمل تصورات المخرجين قاسم حول وهادي الراوي. ففي فيلم قاسم حول "الأهوار" أصبح المكان حاضنة تاريخية ومعاصرة. فقد تعامل الفيلم مع الهور ليس كمكان اغتراب وطبيعة رومانسية يمكنك أن تستمتع بها، بل حوله إلى بنية صلبه وقوة دافعة للتفكير بوجود بقعة مائية لا مثيل لها في العالم تثير مشكلات سياسية كبيرة، وبذلك تجاوز الفيلم حياة الناس العادية إلى الفكرة الميثولوجية التي يمكنها أن تكون حية ومعاصرة من خلال الكشف عما يعتمل داخلها. فكرة تاريخية تعيش في كل الأزمنة وتمد سكانها بما يجعلهم قدامى في كل شيء من خلال حياتهم اليومية، عندما مزج الفيلم بين الإنتاج والاستهلاك. فالهور هو الذي يمد معامل الورق بالمادة الخام لتصنيعه وهو الذي يديم حياة الناس في المدن الكبيرة المجاورة بما ينتجه، وفي الوقت نفسه هو حاضنة ميثولوجيا حياة الناس وعاداتهم وبنيتهم العقلية التي تعيش في ظلمة تاريخية مطبقة. ووسط هذه الديمومة أظهر الفيلم الأهوار بما يشبه المكان الآمن للنوى الجديدة والمقبلة، والمحطة المجهولة في وسط العراق والبعد الغرائبي الذي لا يزال غنياً بالحكايات والفرح والحب والأمل، وعندما نعيد تأكيد هذه الصورة القديمة - الحديثة يتذكر المشاهد ما أحدثه النظام الفاشي في العراق في تجفيف الأهوار، لتبدو المسألة على غاية من المفارقة، فقد تم التجفيف من أجل الزراعة وتوزيع المياه كما يدعون، لكن التجفيف أظهر أنه فعل تدميري لميثولوجيا الجنوب العراقي كله، فلم تكن بعد التجفيف ثمة زراعة ولا حيوانات ولا حياة، ما يعني أن القضاء على ميثولوجيا الحياة القديمة عند بقايا السومريين والأكديين يعني أن التجفيف عمل سياسي. في فيلم المخرج هادي الراوي تبدو الصور القديمة المعاصرة للأهوار أكثر حداثة، فالفيلم أنتج لرغبة بأن تقدم دار الأزياء العراقية عرضاً لتصميمات أزياء تعتمد الثقافة السومرية والأكادية والآشورية في الأهوار، لا ليشاهدها سكان الهور، بل ليجدوا في تيمة العرض في فضاء مائي وبسماء زرقاء مكشوفة مادة فنية تضفي على الأزياء الحديثة سمة العراقة والقدم. فقد نقلت دار الأزياء العراقية أزياءها الحديثة من الصالونات والإضاءات والأنوار والدعاية إلى فضاء أرضه ماء وبيته من القصب وجمهوره من نساء ورجال وأطفال. فعندما تقدم تيمة حديثة ومتطورة مثل الأزياء وتعرضها نساء جميلات وأمام سكان الاهوار الذين لم يتصلوا بالمدنية والحداثة لا يمكنك إلا أن تصنع من المفارقة المكانية مادة سينمائية وهذا ما نجح الفيلم فيه. فقد تفاعل الناس مع النساء والملابس الحديثة تفاعلاً جعلهم قريبين فرقصوا مع العارضات وقدموا صورة متداخلة مشبعة بالمفارقة الكوميدية. شخصيات المحور الثاني هو: محور أفلام الشخصيات، وكان الفنانون التشكيليون العراقيون المغتربون هم أبطال هذه الأفلام. وقدم المخرج قاسم عبد فيلم "في حقول الذرة الصفراء الغريبة" عن عدد من الفنانين المغتربين في إيطاليا ومنهم عفيفة لعيبي وجبر علوان ورسمي كاظم وبهاء الدين أحمد وغيرهم. فصوّر أوضاعهم وحياتهم وأفكارهم السياسية ولماذا هم مغتربون وبعيدون عن العراق ومناخه وفنه وناسه وطبيعته، فكانت السيرة مادة لحكايا خفية وعلنية هي القاسم المشترك بينهم جميعاً، أما الصورة الثانية وهي الأعمق فكانت عن اللوحة فناً وإطاراً للتجربة المغتربة. فالفنانون في إيطاليا شأنهم شأن الكثير من فناني أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية يرسمون هواجس الاغتراب، حتى لو كانت صورهم "بورتريات" فعكست تجاربهم، ليس الحياة المعلنة لهم ولما يحيط بهم بل أفكارهم عن الثورة المحبطة في داخلهم ، وهذا ما يجعل اللوحة بألوانها الحديثة ذات المسحة الممتزجة بين حرارة الشرق وضبابية الغرب جزءاً من قلق حضاري تعامل الفنانون معه كما لو كانوا يعون أنهم يرسمون قضية عراقية لا يمكن حلها إلا في أمكنة بعيدة وهذا ما حدث لاحقاً. وتندرج أفلام عدة ضمن هذا المسار، منها فيلم رانية توفيق "نوال" وهي فنانة عراقية تعيش في الدنمارك قدمتها المخرجة الشابة كنموذج دراسي لمسنا فيه قدرتها على المزج بين الحال الشعرية والصورة الفنية. فالفنانة ليست ممثلة بل قدمت في الفيلم حياتها وما عانته وما يمكنها أن تكون عليه. وأهم نقطة ركزت عليها المخرجة الشابة 22 سنة أن العزلة في المدينة الأوروبية توفر لك مجالاً للعمل، ترى كيف يمكننا أن نوائم بين عزلة الروح والمكان. هذا هو محور الفيلم القصير. أما فيلم المخرج جمال أمين "انهم يصنعون الحياة" فله نكهة خاصة عندما يقدم لوحات مفترضة وواعية يمتزج فيها الخيال بالواقع والحقيقة بالحلم، إذ نجد ونحن نتابع مسار الحكاية أنفسنا في حال من سوريالية المشهد التي اكتملت بالاختيار الموفق للموسيقى التصويرية المصاحبة للعرض، وعنف الصورة المقدمة على الشاشة تتقدم لتخترق عين المشاهد، ما يعني أن سياق الحكاية يعتمد الربط بين شخصية الفنان والمشاهد. ويندرج أيضاً فيلم الفنان قيس الزبيدي "فالينسا لانغر" ضمن أفلام البورتريه السياسي، فالمحامية ليست معنية بالفيلم إلا كحال مثقفة وجدت في القضية الفلسطينية نموذجاً لإعلان الحق القانوني بوجه الظلم وكان مسارها الحياتي يندمج في السياق ذاته، ليحول الفيلم لنا الصورة المبهمة عن المثقف الغربي إلى صورة حقيقية عندما نجيد طرح قضايانا بوضوح. ويكون فيلم "تحديات ساعي البريد" للمخرج محمد توفيق واحداً من أفلام الشخصيات المقتصدة جداً، فالمخرج يعرض لنا صورة لبوسطجي دنماركي كان احد المحتجزين في كنيسة المهد في فلسطين وأحداثها التي تابعها العالم كله عبر شاشات التلفزة العالمية، والفيلم يتعرض لحياة هذا الشخص ورؤيته، للقضية الفلسطينية وتداعياتها على المستوى الشخصي كمهتم، وعلى المستوى السياسي العام كإنسان يتابع تفاصيلها اليومية عبر التلفزة العالمية، ومن خلال تجوال البوسطجي بين البيوت يقدم توفيق صورة أخرى عن العمل وعن الأمكنة بشفافية سينمائية لا تصدم المشاهد بعنف المشهد بل بسلاسة على رغم ان موضوعها يجري في الأرض المحتلةفلسطين. أما فيلم المخرج قتيبة الجنابي "صمت الحياة" فكان من الأفلام التي تزخر بتقنية تصوير عالية جداً، وهذا ربما يعود إلى أن المخرج مصور فوتوغرافي من الطراز الأول، فهو يعطي الضوء في كل أعماله أهمية قصوى فيجعل الصورة المقدمة للمشاهد عبارة عن لوحة فنية صافية ومنسجمة الألوان وكأننا نشاهد منظراً طبيعياً غنياً بالتفاصيل والألوان. يتعرض الفيلم لتيمة المعاناة والقلق والخوف في آن معاً، فالمكان يوحي بالكثير من الأمور، فتارة نراه أشبه ما يكون بسجن وغرفة تعذيب وهذا ما تجسده قطرات الماء المتساقطة التي تضفي أجواء السجن على الغرفة، وتارة أخرى تمزق أصوات الآخرين هدوء المكان وتلقي بظلالها على شخصية الممثل الذي يحاول الكتابة، بينما تعبر تحركاته في الغرفة ونظراته عبر النافذة عن قلق دائم يختبئ خلفه خوف كبير من مجهول يحاول الاستحواذ عليه. عموماً كان الفيلم عبارة عن صورة إنسانية تخاف من المجهول الذي ينتظرها وتعكسه كرفض للواقع الذي تعيشه. ... والحرب أما محور الحرب فكانت الأفلام التي قدمت فيه كثيرة، في مقدمها فيلم المخرج سعد سلمان "بغداد أون/ أوف". وهو فيلم ممتلئ بالاحتمالية، فعندما يقرر المخرج - وهو هنا الشخصية المحورية - أن يتحول إلى راو وبطل في آن واحد تتحول الصورة من فكرة بناء المشاهد إلى نقل الواقع بطبيعته المألوفة، فيقدم لك صورة واقعية غير مستقرة عن هذا الواقع الذي من خلال تكراره يرسخ في ذاكرتنا وأعيننا حجم المأساة التي مر بها الشعب العراقي. "الكاميرا داخل سيارة متجولة في منطقة كردستان العراق"، أما شخصية الدليل وهي شخصية مهمة فلم نشاهدها في الفيلم فقد مزج المخرج فيها بين الدليل الحيادي المأجور، والدليل المشارك، فعندما يعد بأن يوصل الشخصية الأولى إلى بغداد نجده يعتمد الكلام فقط، بينما حينما يعجز عن تحقيق هذه الفكرة يتحول العجز إلى عرض لمأساة إنسانية لم تمر بها الشعوب. أما المشاهد في الصالة فإنه يجوب مع العربة وكاميرتها المتجولة مدن الشمال التي تعكس كم هي الظروف معقدة حينما يفكر الإنسان العراقي بالعودة إلى بيته. وتتجول كاميرا الفنان إبراهيم سلمان في المدن الأوروبية وشمال العراق معاً في فيلمه "ثلاثة أشكال لرجل الجبل الذي يريد ان يصبح كلب البحر" لتعكس لنا حالاً من التشتت والتناقض بين ما يطرحه الغرب من إنسانية وبين ما يعكسه الواقع في شمال العراق من مأساة جسدها الفيلم بمدينة حلبجة التي اجتاحها الدمار الكيماوي. والفيلم يطرح اللامبالاة الغربية في تحقيق ما نادى به الغرب.