يبدو الإنتاج السينمائي العراقي هذا العام أفضل من إنتاج سابقه، غير أنه لا يرتقي إلى مستوى السنوات الأولى، التي أعقبت سقوط نظام صدام حسين مباشرة. أفلامه تختلف قطعاً في مستوياتها عن تلك التي أُنتجت بمناسبة «بغداد عاصمة الثقافة العربية»، فجلها تقاربت أساليبه مع البدايات وأخرى ابتعدت بدرجات قليلة عنها. هكذا يبدو المشهد السينمائي العراقي لمتابعه اليوم، متذبذباً ومتفاوتاً، كمّاً ونوعاً لدرجة يصعب عليه إيجاد علامات واضحة تشير إلى تطور ما يمكن التدليل به على تفرّدات أو خصوصيات سينمائية، عدا طبعاً تقاسم أغلب أفلامه الهمّ السياسي وملاصقة الواقع بكل فجاجته وإفرازاته ورفض صنّاعها بعناد الابتعاد عنه مسافةً تُسهِّل عليهم النظر إليه بذهن متأمل وعين لاقطة للمختلف وغير المألوف فيه! تجاوز خط القحط في الأحوال كافة تمكن الإشارة إلى عام 2017 بوصفه عاماً تجاوزت السينمائية العراقية فيه خط القحط، ما يعيد الأمل بإمكانية بقاء فن السينما العراقي حياً بعد انقطاع طويل نسبياً لأسماء ناشطة فيه وبعد صدمة بغداد عاصمة الثقافة 2013. بإعلانه ظهور مجموعة أفلام، أخذ بعضها طريقه مباشرة إلى مهرجانات عربية وعالمية، مثل «الرحلة» لمحمد الدراجي، الذي قبل مهرجان تورنتو أن يكون منطلقه الدولي الأول، أعقبه لندن ثم دبي قبل أيام، ومعه فيلمان طويلان اشتركا في مسابقة المهر الرسمية في مهرجان دبي، هما «73 درجة مئوية» لباز دينخا شمعون و «قصص العابرين» للمخرج قتيبة الجنابي. قَبله في يوليو (تموز)، قدّم مهرجان وهران الجزائري فيلمين متفاوتي المستوى بحدة، الأول وثائقي بعنوان «الفرقة» والثاني «صنع في العراق» روائي طويل، يقترب من موضوع سجناء سجن «أبو غريب». دعائي مسطح لا يرتقي في أي شكل إلى مستوى بقية الأفلام المعروضة هذا العام وإن شاركها هاجسه السياسي. كل واحد من صنّاع السينما العراقية أخذ هذا العام جانباً سياسياً وراح يشتغل عليه وكأن العالم والعراق لا حياة فيهما من دون السياسة! بعضه آني الطابع مثل فيلم الدراجي «الرحلة» الذي اقترح فيه العمليات الانتحارية في العراق موضوعاً من خلال مسار قصّتَي سارة وسلام المختلفتي الاتجاه. فبينما سارة متجهة إلى تفجير نفسها بحزام ناسف في محطة للقطارات، يسعى سلام إلى إنقاذ نفسه والآخرين من دمارها، فيما يذهب شمعون لعرض «السبي» الإيزيدي والخراب العراقي وثائقياً، عبر ملاحقته قصص ثلاثة أطفال مختلفي الأصول المذهبية والعرقية، ملازماً من خلالهم التحولات الاجتماعية والأخلاقية للفترة التي أعقبت الاحتلال الأميركي بلادهم. فهم عنده نتاج الخراب الذي حل بالعراق وسهل نينوى وأهله. محاولة باز فيها مسعى لعرض الذات على الشاشة، والانطلاق منها إلى الأوسع، وهذا ما غاب عن غالبية الأفلام الوثائقية العراقية، التي تشير قلة عددها واستنكاف المشتغلين في الحقل السينمائي من الاقتراب منها، إلى مفارقة صارخة في بلد أقبل على تغيّرات بنيوية هائلة، كل متر فيه كان ولا يزال مسرحاً لقصص تستحق التوثيق. ربما في محاولة العراقي الباقر جعفر إدراك واع لأهميتها حين راح في فيلمه «الفرقة» يوثق تفاصيل فكرة مشروع تقديم عرض موسيقي في مدينة «الصدر» الفقيرة في بغداد. وراح في فيلمه الجريء يراكم طبقات من المشهد العراقي المشحون ب «الفِرقة» والاختلاف حد الاقتتال، ويعرض التحوّلات التي مرّت بها المدينة طيلة عقود وكيف صارت مناخاتها المتلبسة الغطاء الديني طاردة للفن والموسيقى ميّالة إلى البكائيات والاستعراضات المشحونة بالعواطف المذهبية. ليس موضوعه وحده المثير بل طريقة اشتغاله البارعة، وعلى رغم المشكلات التقنية فيه يبقى منجزاً يستحق الإشارة إليه واحداً من أهم أفلام هذة السنة، المتوّجة بفوز فيلم الشاب مَجد حميد بجائزة أفضل فيلم قصير في مهرجان الجونة. تاريخ في 3 دقائق يختصر «مصوّر بغداد» تاريخاً طويلاً من الحروب المدمرة، التي مرّت بها البلاد، خلال ثلاث دقائق فقط، عرض خلالها بتكثيف رائع خسارات بشر لا حد لها وعرض مآلات أجيال من النساء فقدن بسببها أعزّ ما يملكن. موهبة مجد لا تُخطئها عين، يَعِد بالكثير، وما قبوله بالقصيرة بداية سوى مؤشر إلى وعيه أهمية التأسيس والتجريب والاعتماد على ميزانيات بسيطة شخصية غالباً، وهو بذلك يعاند السائد ويحاول تجاوز «عقدة» مستأصلة عانت منها السينما العراقية طويلاً، تمثلت بالاستنكاف عن الوثائقي والاستهتار بالقصير. مجد أراد بفيلمه تجاوز تلك الفكرة الراسخة، ليس وحده بالتأكيد، فهناك من سبقه، وهذا ما وشت به كلماته عند استلامه الجائزة: «جاء الوقت الذي علينا نحن العراقيين أن نقوم بسرد حكاياتنا ونقلها إلى العالم». هل من الضروري التذكير بأن عام 2017 مثل سابقاته في ما يتعلق بضعف حماسة مؤسسات الدولة الثقافية لدعم الفيلم العراقي وضعف دور المؤسسات المختصة بها إلى جانب نقص الخبرات الأكاديمية والامكانات التقنية؟ ربما يكون الأجدى تأكيد ما جرى فيه من ناحية تعزيز فكرة التكامل بين الخارج والداخل، وميل المخرجين والمنتجين إلى الاستعانة بالمؤسسات العالمية والمهرجانات العربية وبعض الجهات المانحة للحصول على تمويل جزئي يكملون به مشاريعهم، وثمة حماسة واضحة عند أبناء «الموطنين» للتكامل بينهما، كما في تجربة العراقيين الدنماركيّي الجنسية، فنار أحمد وعلاوي سليم صاحِبا «أرض الآباء»، ومعهما الكردي البلجيكي سهيم عمر خليفة ومنجزه الأخير «زاغروس».