يرى ميلان كونديرا، أن الشعوب الكبيرة ذات الميراث الأدبي الضارب في عمق التاريخ تعجز أحياناً عن التعرف على ألمعية بعض كتابها، وفرادة عملهم، وحضورهم الكبير لا في تاريخ آداب شعوبهم، بل في الآداب العالمية على مر العصور. ويضرب كونديرا، في كتابه الصادر أخيراً والمكرس للتأمل في شجون الرواية"الستارة: مقالة في سبعة أجزاء"2007، مثالاً على ذلك كيف يعمى الفرنسيون عن الأهمية غير العادية لكاتب مثل فرانسوا رابليه 1494 1553، صاحب"بانتاغرويل"و"غارغانتوا"والذي مهد بعبقرية جنباً إلى جنب مع سيرفانتيس صاحب"دون كيشوت"، لولادة النوع الروائي في تاريخ البشرية، وجعل من العنصر الاحتفالي مكوناً أساسياً من مكونات النوع الروائي. ويواصل كونديرا القول إنه قرأ مقالة لناقد فرنسي معروف يشدد فيها على أن"الأدب الفرنسي يفتقر إلى كاتب كبير مؤسس مثل دانتي بالنسبة الى الإيطاليين أو شكسبير بالنسبة الى الإنكليز". ويستغرب صاحب"الحياة هي في مكان آخر"، و"خفة الكائن التي لا تحتمل"و"غراميات مرحة"، كيف أن كاتباً مثل رابليه يسقط هكذا من الذاكرة الفرنسية وكأنه ليس واحداً من الأعلام الكبار المؤسسين للكتابة الروائية! سبب ذلك أن من الصعب أن نتبين أهمية كاتب في لغة من لغات البشر دون أن نراه في سياق الأدب العالمي، أي في مجموع آداب الشعوب، بصرف النظر عن كون هذه الشعوب صغيرة أو كبيرة، لأنها تنظر ضمن حدودها الجغرافية وسياق تعبيرها اللغوي عندما تفكر بكتابها. إنها نظرة مناطقية ضيقة لا تدرك ما يتخلق خارج الأسوار، والأهم من ذلك أنها لا تعرف أهمية ما ينجزه ابناؤها في الآفاق الفسيحة للغات والآداب العالمية. في هذا النمط من التفكير بعلاقة الكتاب بأهمية لغاتهم، وانتشارها، فإن بعض الشعوب الصغيرة تلد كتاباً عظاماً لا يمكن أن نتعرف على عظمتهم إلا في سياق العالم وآدابه الكبرى. كما أن هذه الشعوب الصغيرة تنجب كتاباً عاديين فتمجدهم وتؤرخ لهم، وتنصبهم أعلاماً في دنيا الأدب لأنهم يخضعون للمراتبيات المستقرة ويكتبون حسب الطرائق التي خبرها من قبلهم. لكن بصرف النظر عن صحة نظرية ميلان كونديرا، أو تطرفها في اتجاه تأكيد الإنساني، والكوني، والعابر للغات في الإبداع، فإن بعض الشعوب الصغيرة، والبلدان قليلة السكان أو الموارد، ينظر الى نفسه بعين تحط من قدر أبنائه المبدعين الذين قد ينظر إليهم بإكبار خارج أوطانهم، وفي سياقات أوسع من تلك التي تضمهم في هذه الأوطان. إن هؤلاء المبدعين المتفردين يحشرون في العادة في ثياب ضيقة عليهم، ويعاملون بصفتهم وقائع تاريخية، وجزءاً من الثقافة الوطنية، لا بصفتهم مبدعين كباراً وظواهر ينبغي أن يحتفل بها على نحو خاص، وتدرس في سياق الآداب الكبيرة العابرة للقوميات واللغويات. في إطار هذه النظرة إذاً، يضغط على هؤلاء المبدعين المخربين للعادة المستقرة، المتفوقين بصورة غير محدودة يصعب تفسيرها في سياق الآداب الوطنية، ليصبحوا جزءاً من السائد والمنظور والمتسق مع تاريخ آداب بلادهم. هكذا ينسون، وقد يتجاهلون، لأنهم يتسببون في مشكلات لمؤرخي آداب الأوطان، ويستدعون أدوات فحص وتفسير لا تتوافر لهؤلاء المؤرخين الذين اعتادوا نمطاً معيناً من الشرح والتأويل، ودرسوا، على مدار أعمارهم، أدباء متوسطي المواهب يمكن التعرف على التأثيرات العادية والمفهومة التي تلوح في إنجازهم بسهولة ومن دون بذل أي جهد. لكن الأديب المختلف، الذي هضم ميراث البشرية والعناصر الكونية فيه، وتخطى بناره الداخلية المشتعلة، التخوم المرسومة والحوائط المقامة دون التميز والعبقرية الأدبية الخلاقة، يمثل لغزاً بالنسبة الى هؤلاء النقاد ومؤرخي الأدب الكسالى. إنه يخرق العادة، ويسقط الحواجز المقامة، ويغير في طبيعة العلاقات بين الموهبة الفردية والبيئات الثقافية التي تنشأ المواهب ضمنها. ولعل ذلك يفسر نظرية كونديرا حول الآداب الوطنية والآداب العالمية.