تقول الدراسات التاريخية عن فرانسوا رابليه، ان اهميته تعود الى كونه، من ناحية اساسية، مؤلف أول عمل نثري كبير ومهم في اللغة الفرنسية. وهذا العمل يتألف، أساساً، من اربعة أو خمسة مجلدات تروي مغامرات شخصيات، كانت وجدت من قبله، لكنها من بعده دخلت حيز الأسطورة وصارت من الشخصيات الأساسية في الأدب والمجتمع. ومن هذه الشخصيات غارغانتوا وبانتا غرويل وبانورج. هذه الشخصيات تبدو للقارئ هزلية وذات حياة ومغامرات مضحكة، تكاد في هذا تشبه شخصيات في الأدب العربي نجدها لدى الجاحظ أو الحريري أو الهمذاني، لكنها في الواقع تخفي خلف قناع الهزل أموراً اعمق بكثير. والحال ان رابليه نفسه نبه قراءه دائماً الى هذا الأمر "إذ دعاهم الى البحث، خلف الأقنعة وخلف العبارات المضحكة وخلف المواقف التهريجية عن المعنى المخبوء للنص". وبكلمات اخرى كتبها رابليه نفسه ان على القارئ ان "يكسر العظام ويمتص المادة النخاعية الجوهرية داخلها". ضمن هذا الإطار، جرى دائماً احتساب رابليه بين كبار المفكرين الإنسانيين النهضويين، ورابليه نفسه لم يخف أبداً اعتناقه، وبحماسة شديدة، الأفكار الإنسانية، خصوصاً أنه عرف بعلاقاته الوثيقة التي كان يقيمها مع ألمع العقول في زمنه، كما انه لا يكف عن اكتشاف الآداب القديمة والفكر اليوناني الفلسفي، إضافة الى اهتمامه بالعلوم الطبيعية والطب. ولا بد من الإشارة هنا الى أن رابليه وقع الجزءين الأولين - والأشهر - من بين الكتب التي تشكل سلسلة مؤلفاته الساخرة، باسم الكوفريباس نازييه في تغيير لترتيب احرف اسمه نفسها، فإنه عاد ووقع الأجزاء التالية باسمه الصريح مضيفاً إليه "دكتور في الطب". ولقد أشار رابليه دائماً الى انه في كتاباته انما هو طبيب يريد ان يشفي الناس والمجتمع من فخ الأحكام المسبقة والنفاق والكذب ومن الأسباب التي تجعل الإنسان ضعيفاً في هذا الكون. وكان في هذا، بالطبع، ما يكفي السلطات والكنيسة للغضب عليه وإعلان تحريم كتبه وهو في المقابل، لم يكن ليخفي عداءه لرجال الكنيسة، ساخراً من تشويههم تعاليم الدين الصحيح. ولذلك قدم الى محاكم التفتيش التي كادت تحكم عليه بالموت حرقاً، لولا انه عرف كيف ينجو بجلده في اللحظات الأخيرة. لكن ما لا بد من الإشارة إليه منذ الآن هو ان غارغانتوا وبانتا غرويل، لم يكونا شخصيتين ابتدعتهما مخيلة فرانسوا رابليه خلال النصف الأول من القرن السادس عشر، بل كانا شخصيتين شعبيتين يروي الناس مغامراتهما الغريبة شفهياً، منذ بدايات العصور الوسطى. كان ما فعله رابليه هو انه استعار هاتين الشخصيتين وغيرهما وجعلهما في كتبه، تعبران عن افكاره الناقدة الحادة من خلال تركيبات غرائبية كانت هي التي مهدت، من بعده، لظهور هذا النوع من الأدب في بلدان ولغات اخرى "رحلات غوليفر" لجوناثان سويفت مثلاً. كان الظهور الأول لعمل رابليه هذا، في الثالث من تشرين الثاني نوفمبر من العام 1532، خلال معرض مدينة ليون البلدي، في فرنسا، حيث انزل هذا الكاتب الى البيع، ضمن فاعليات المعرض، كتاباً حمل أولى مغامرات ذلك البطل الشعبي المعروف: بانتا غرويل. ولقد كان النجاح كبيراً وسريعاً الى درجة ان رابليه سرعان ما عاد الى معرض ليون نفسه وهو يحمل معه هذه المرة كتاباً جديداً، يحمل مغامرات غارغانتوا واسمه، ولد بانتا غرويل، بمعنى أن أحداث الكتاب الجديد، تأتي زمنياً سابقة على أحداث الكتاب الأول... ومن جديد كان النجاح، وتلت ذلك ثلاثة كتب اخرى، كان من نصيب الجزء الخامس ان نشر بعد رحيل مؤلفه. ما أغاظ الكنيسة هو ان رابليه انما استعان ببطل شعبي ينتمي الى فرنسا غير الرسمية: بطل ينتمي الى المجتمع الذي كان لا يزال يحمل قيماً ما - قبل - دينية، ليعبر من خلاله عن تمجيده لعصور ذهبية عاشتها هذه البلد قبل ان يتحول الدين من فعل ايمان شعبي الى عنصر قهر سلطوي. اي من خدمة الإنسان الى خدمة الطبقات التي تستغل هذا الإنسان وتقهره. ومن المعروف ان بانتا غرويل وغارغانتوا، عملاقان طيبان يعيشان في فرنسا العصور الوسطى، ويساهمان في حياتها وأفكارها. وبانتا غرويل في شكل خاص عملاق طيب القلب يتمتع بقوة لا حدود لها وبنهم وشراهة لا مثيل لهما. والحال ان وصف رابليه لتربية هذا العملاق وتعليمه، هو الذي يعطيه الفرصة للسخرية من نظام التعليم والتربية الذي كان قائماً في فرنسا في زمنه. أما المآثر العسكرية التي يقوم بها غارغانتوا لصد الهجمات التي تتعرض لها المملكة، فإنها هي التي تعطيه الفرصة لشن هجوم كبير على الحروب - كعمل ضد الإنسانية - وعلى الغزو وما شابه. وفي الرواية حين ينتهي غارغانتوا من إنجازاته العسكرية، يقوم ببناء دير تيليم على أسس المدينة الفاضلة حيث يدعو السكان الطيبين الى ان يعيشوا حياة سلام ودعة وهدوء تبعاً للأسس الفلسفية النهضوية والإنسانية، يدعوهم لأن يعيشوا حياتهم تبعاً للحكمة القائلة: "افعل ما تشاء". وفي الأجزاء التالية من السلسلة يختفي النموذج العملاق ليحل محله نموذج الطالب المحتال والمازح بانورج. ومأزق هذه الشخصية يتمحور حول مسألة ما اذا كان عليه ان يتزوج أو لا... وهذا ما يتيح للكاتب ان يغوص في الواقع الاجتماعي عبر سخريته من مؤسسة الزواج وكيفية بنائها...الخ. لفترة طويلة من الزمن ظل الفكر الغربي ينظر الى عمل رابليه هذا بوصفه دعوة الى النقد العقلاني والى مجتمع الإنسان والتحرر، ولكن خلال العقدين الأخيرين راحت دراسات اكثر تعمقاً تأخذ على نصوص رابليه كونها تبدي عنصر الفوضوية والسخرية والعدمية على حساب كل نزعة اصلاحية حقيقية. وهكذا بدأ العمل ينسب الى تهريجية اريستوفان، اكثر مما الى عقلانية مونتاني، ولا يزال النقاش مفتوحاً. ولد فرانسوا رابليه العام 1494 في مدينة ديفينيار، ابناً لعائلة بورجوازية اختارت له منذ الصغر ان يدخل سلك الرهبنة، ففعل وندم بعد ذلك حيث نراه يكرس معظم كتاباته لمهاجمة الكنيسة وكذلك جامعة السوربون التي كانت حقل التعليم الرسمي المغلق. ومهما يكن من الأمر فإن تفاصيل حياة رابليه غير معروفة تماماً. ولكن نعرف انه درس الطب في مونبيلييه، وأن كتابه الأول ظهر في العام 1532. بعد ذلك زار روما برفقة مطران باريس، الذي كان يحميه لفترة. وخلال السنوات التالية أصدر بقية اجزاء عمله الكبير. وهو رحل في العام 1553 في باريس، من دون ان يستسلم للكنيسة التي دأبت على إدانته مع كل كتاب جديد يصدر له.