تتمثل الثورة الإسلامية في إيران الآن، بالدولة الإيرانية، وما تبقى في غضونها من عناصر ثورية في الفعل والعقل، على رغم ما يشي لمن يريد القول بقلته، على اعتبار ان دولة الثورة عادة، هي الدولة التي تنتجها الثورة، باعتبارها المشروع او الهدف المحمول للثورة، حتى لا تتحول الى فوضى، ما يجعلها، أي الثورة، تصحح أوضاعها وحركتها من داخل الدولة، على إيقاع الانتقال من الحلم الى الوعد، ومن الرفض الى معادلة تجمع القبول والرفض، في عملية البناء الداخلي وتحديد المديات الضرورية للاتجاه نحو الخارج، محكومة بمقتضيات وطنية او محلية، هي في العادة التعبير الحقيقي، وغير المكلف، عن عالمية المشروع، في مقابل النزعة الأممية التي تقيد الداخل بقيود الخارج بدل أن تحرر الاثنين، فتصبح أكلافها باهظة على الجميع. يحسن بهذه الدولة الآن، ان تستكمل ما لاحظنا بداياته من نقد ذاتي لنمط علائقها بالحركات الإسلامية وغيرها وبالدول الإسلامية والعربية، لجهة التقارب والتواصل، والوحدة في البداية مع الحركات الإسلامية، ثم الانتباه الى التعقيدات الكثيرة والعميقة في هذا المجال، مما كان تجاهله سبباً أحياناً لتحول التواصل الى تقابل حاد، بخاصة بعدما حققت الحرب البعثية العراقية مبتغاها، في إعادة فرز الحركات الإسلامية على موجب الفارق المذهبي المستدعى، وتسرّب الحساسية العربية - الفارسية المستدعاة أيضاً، لغرض سلطوي عراقي ليس إلا، الى عقل كثير من نماذج الحركة الإسلامية. وفي المقابل كانت القطيعة مع النظام العربي والإسلامي هي الطاغية على خطاب الثورة او الدولة في بداياتها، وعلى سلوكها، وقد تأثر ذلك بالحساسية المختزنة في الثورة وأهلها، ثم عاد وتأثر بانحياز الأنظمة الى خصمها اللدود، العراق، في مقابل الخصم الألد إيران أثناء الحرب وبسبب الثورة. الى ان وضعت نهاية الحرب حداً أولياً، لهذه الإشكالية، ما لبث النظام العراقي الراحل، ان أضاف اليه حداً فاصلاً فعلاً، بتغطرسه وإصراره على توريط العراق والعرب عموماً، في مغامرات او مقامرات مدمرة، تمثلت أجلى تمثيل في احتلال الكويت، الذي لولاه لما كان مؤتمر مدريد وما كان شطب هذا المؤتمر بسهولة، بفعل ما اكتشفته واشنطن وتل أبيب، من تصدع في الصف العربي لمصلحة الميل الشديد لدى الأطراف المعنية مباشرة سورية - فلسطين - الأردن الى الخروج من الشراكة، لعلها تحصل شيئاً وبالسر، إن لم يمكن ذلك بالعلن... وهكذا بدت أوسلو ووادي عربة، وكأنهما إذعان للضرورة، الذي ليس ما بعده سوى الخروج بوفاض خالٍ من أي شيء، فكانت الثمرة المسمومة خيراً او اقل شراً من خلو اليد وفراغها. أما الآن فإن المخلصين اليقظين، وهم كثر، يميلون الى التمني على دولة الثورة في إيران، ان تعيد حساباتها، في ما يخص علاقتها التفاهمية او التناصرية او التكاملية، بالحركات الإسلامية عموماً، على أساس ما تبلور من ضرورة الفرز الدقيق بين من يمكن التكامل معه ومن لا يمكن معه ذلك، بخاصة بعدما تحولت تأثيرات الثورة جراء مرورها بالعقل الجهادي السلفي، الى حالة تهدد كل شيء، وإيران أولاً، قياساً على خطاب"طالبان"و"القاعدة"، الذي يرفع التناقض بينهما وبين إيران الى المصاف العقائدي الفاصل كلياً، على اساس الكفر والإيمان، مستثمراً ما يتحقق له من وهج في مقارعة الحماقات الأميركية والغربية عموماً في تغطية إرهابه الجسدي للسنة المخالفين على اساس سياسي مشوب بالدين والفقه، وللشيعة على أساس مذهبي مشوب بالسياسة. لقد كانت البداية عندما حاول البعض ان ينفذ طموحه في جعل الثورة الإسلامية في إيران، مرجعية عامة للإسلام الحركي في كل مكان، واقعاً تحت إغراء من هذا الاسلام الحركي مضمونه: القبول بالتماهي او التماثل وبالتمثيل، وبسبب تراكم الإفلاسات والإحباطات التي مني بها هذا الاسلام الحركي، على مدى تشكل الدولة الحديثة - القديمة، في ظل الاستعمار قبل الاستقلال وبعده، وحيث تحولت الحداثة إلى تحديث لأساليب القمع والمنع، متواكبة مع اتفاق ضمني بين العلمانيين من العرب والمسلمين، وبين النظام العربي على تكامل بين الاستهتار الحداثي العلماني بالمكون الإسلامي والدين عموماً، كشرط للنهوض والتقدم، وبين استغلال النظام للإسلام في مواجهة الإسلام والحداثة معاً. والذي حصل، من لحظة انكشاف بعض مفارقات الفقهية والعقدية، بين الثورة والحركات الإسلامية، إلى لحظة الحرب العراقية - الإيرانية، التي لو لم تحصل ومبكراً، لكان بالإمكان تدوير الزوايا بين المضمون الشيعي للثورة في إيران وبين المضمون السني للحركات الإسلامية خارجها. الذي حصل هو استيقاظ الإسلام الحركي السني على ضرورة تشكيل مرجعيته، أو إعادة تظهيرها، حتى لا تتحول الشراكة مع إيران إلى تشييع سياسي، يحتمل أن يتحول إلى تشييع عقدي وفقهي لاحقاً، واستناداً إلى حالات فردية عدة اختارت التشييع مذهباً انتقالياً، ولتبرير عملها ذاك، تعمدت أن تقذع في القول على كل ما ومن يمت إلى السنة بصلة. ما جعل كثيراً من السنة، حتى من أصدقاء إيران، يستندون إلى ذلك لتوجيه التهمة إلى إيران، التي يرى المراقبون القريبون، أنها لم تكن مرة مشغولة بتشييع السنة، والذين شجعوا ذلك ليسوا إيرانيين فقط، وأكثرهم غير موافق على الثورة ولا على الدولة، بل من خصومها، وهم ينطلقون من مزاج شيعي خاضع لضواغط الأقلية، التي تغري بالدعوة أو التبشير لتكثير العدد. ويساعد عليها وجود وتكاثر عدد السنة الذين يحسنون البيع والشراء والإغراء، ويتحولون بسرعة إلى أعداء للسنة وسبابين، ولا يلبث كثير منهم أن يعود إلى مكانه السني بسبب نقص المردود عما توقعه، ويتحول إلى لعنة على الشيعة والتشيع. لقد كان من مفاعيل الاستيقاظ السني على المرجعية السنية احتياطاً من انحصار المرجعية الإسلامية في الأطروحة الشيعية، بتأثير الوهج والنشاط الإيراني، أن استعيد ابن تيمية والمودودي وحسن البنا وسيد قطب الخ، من داخل حركة"الإخوان"، سواء في التيار الاعتدالي النسبي منها، أو التيار الواقف على حافة الاعتدال، جاهزاً للتطرف، ممثلاً لاحقاً في كل حركات الانشقاق عن"الإخوان"وامتداداتها السياسية والفقهية، في حركات التطرف والإرهاب، التي استفادت، إلى حدّ كبير، من إحباطات الأجيال الشابة، التي خيب النظام أملها، كما خيبت الحركة الحزبية الأممية والقومية آمال الأكثرية من الذين انخرطوا فيها. وهكذا تمّ تداول ونشر وترسيخ مقولة سيد قطب عن جاهلية المجتمع التي تستدعي الأسلمة وبالقوة إذا اقتضى الأمر، فإذا ما انتقل الكلام إلى إيران كان بإمكان البعض أن يعتبر التشيع لوناً خطيراً من ألوان الجاهلية، جاهلية الردة، مقابل جاهلية الكفر الأصلي، أو الفطري بحسب تعبير الفقهاء... وعاد كتاب"معالم في الطريق"دليل النظر والعمل، وإن اختلفت الأساليب شكلاً وعمقاً. وهو، أي"معالم في الطريق"لسيد قطب، كان قد شكل مرجعية الإسلام الشيعي الحركي حزب الدعوة في فترة التأسيس، حتى اتهم هذا الحزب بالتسنن، واعترفت بعض قياداته الأولى بأن التسنن القطبي كان واقعاً لا فرضية، إلى أن كانت الثورة الإسلامية في إيران، فانكفأ الكثيرون نحوها قاطعين مع ماضيهم الحزبي، وعاد الآخرون في الحزب، إلى تدبر مرجعية سياسية شيعية، تبدأ من إيران وتتوقف عندها مرة وتتجاوزها مرة لأسباب تتصل بالشأن الوطني أحياناً العراق. من هنا ذهبت الحركات الإسلامية، أو بعضها، إلى التطرف والإرهاب في اللحظة التي كانت العقلانية الإيرانية المترددة، تميل بهدوء إلى حسم أمرها في اتجاه سلوك يستجيب لضروراتها الوطنية من دون أن يلغي تواصلها مع آفاقها الإقليمية. من هنا انصب الجهد الإيراني، على إدامة الحوار والتواصل مع الجمهور السني، وصولاً إلى الأنظمة بهدف منع أو وضع حد للفصل بين تشيع إيران وإسلاميتها، ما كان الإسلام السلفي الجهادي وما زال يشتغل عليه، إضافة إلى أن هناك شبكة مصالح إيرانية ? عربية خصوصاً، وإسلامية عموماً لا فائدة لإيران من تجاهلها أو تعقيد تحقيقها، بل الضرر يتربص بأي سلوك غير محسوب في هذا الشأن، هذا بعد انكشاف النظام العراقي عربياً ما ساعد على تقريب المسافات. إلى ذلك فإن هناك جاهزية عربية ما، لإحالة إيران وتطلعاتها إلى القومية الفارسية، في كل لحظة يظهر فيها اختلاف سياسي بين إيران وأي بلد عربي آخر... ولعله من هنا جاءت محاولة ايران الشراكة في إمساك الورقة الفلسطينية، التي لم يكن جسم حركة"فتح"، على ترهله، يسمح إلا بقدر ميسور منها، أي من الشراكة، بينما كانت اسلامية وذرائعية حركة"حماس"جاهزة لتحقيق شراكة لم تمنعها من تظهير سنيتها في مقابل شيعة العراق، ذوي العلاقة المعقدة مع طهران، بما يملي عليها السكوت ولو على مضض، عن مناصرة"حماس"لصدام حسين حياً أو ميتاً وعلناً دائماً، مستندة ضمناً الى حساسية عربية وسنية من ايران، المتهمة برضاها عن اسقاط النظام واعدام صدام لأسباب وطنية ايرانية تمر بالأسباب الشيعية العراقية، على رغم حرص ايران على علاقات تواصل قلقة مع سنة العراق. هذا وإن كانت ايران تستند أساساً أو بالدرجة الأولى، ومن دون اعتراض جدي ظاهراً، الى مقاومة"حزب الله"لاسرائيل، كدليل على أنها شريكة للعرب في قضيتهم الأولى، وتبعاً لذلك هي شريكة للسنة، من دون أن يمنع ذلك من احتمال استمرار"حماس"في سلوك طريق التطرف تدريجاً، ما يعيد علاقتها الودية نسبياً بايران الى القلق والتردد، خصوصاً بعدما استطاعت"حماس"أن تثقل من نمو حركة"الجهاد الاسلامي"، الاكثر قرباً وتفاهماً مع ايران، والتي تعتبر مناشئها السياسية والفكرية المتعددة، وما يمكن أن يعتبر انشقاقاً لها عن حركة"الاخوان"في السبعينات، فترة التأسيس، عوامل تؤثر في قدرتها على منافسة"حماس"في فلسطين، من حيث أن"الجهاد"أقل اندفاعاً ايديولوجياً، وأكثر مراعاة للتعدد الفكري والاجتماعي. في النهاية، ما أردت قوله، هو ان طهران مدعوة الى المراجعة لاعادة تظهير علامات التباين بين الشرعية التي تحرص عليها، واللاشرعية التي يندفع فيها التطرف، كما الى تظهير الفوارق العميقة بين المشروع أو عقل المشروع، وبين العدمية أو العقل العدمي واللامشروع، لدى أطراف التطرف، مجسداً في هذا الارهاب البذيء والتكفير الكافر. نقول هذا الكلام وقد استوت ايران دولة قوية ومجتمعاً حيوياً، كما استوت قدرتها وحاجتها، وحاجة العرب خصوصاً والمسلمين عموماً، شعوباً وحكومات على رغم كل الهنات، الى الشراكة معها، في حمل أعباء المنطقة، لعلنا ننهض ونتجنب الخسائر الباهظة معاً، وحتى لا نسقط فرادى، حيث تتحول قوة ايران المعترف بها، الى ضعف مرغوب فيه للأعداء، ولذوي النيات غير الحسنة في صفوفنا العربية، المفتوحة على التأثر بكل شيء، اذا لم نحسن تدبير المؤثرات الحميدة. وبعدما أسهمت حركة التحرر العربي في اعادة أهلنا من المواطنية الى الطائفية ينبغي على ايران ويمكن أن تسهم في ردع الطائفية أو المذهبية من ان تتحول نهائياً الى أصولية عمياء مناهضة للأصول ومؤذية لإيران. ما يستدعي من ايران المسارعة، معترفاً بقدراتها وارادتها للشراكة الكاملة، الى بلورة تيار الاعتدال العربي والاسلامي، الذي يمر بالاصلاح، اصلاح الدولة، والا بقي عرضة للانتهاك أو الاستحواذ الخارجي، الذي يفضي الى تعطيل حيويات الاجتماع العربي والاسلامي، واستشراء التطرف والارهاب، واستخدامه ذريعة لتحقيق المصالح الاجنبية على حسابنا ومن دون أي مراعاة لأوضاعنا. وهذا لا يتأتى الا اذا بقيت عوامل التباعد والتفكيك نشطة في المسافات الفاصلة بين اقطاب المنطقة من ايران الى تركيا الى المملكة العربية السعودية الى مصر الى العراق المثخن الذي اذا عوفي باتفاقنا من أجله ومن أجلنا عاد حبل سرتنا كما كان. * كاتب لبناني