تترافق ذكرى تحرير لبنان من الاحتلال الإسرائيلي 25 ايار/ مايو مع متغيرات سياسية تستتبع الانسحاب السوري، وتشخص الأنظار الى اثر هذه المتغيرات على القوى الموجودة في جنوبلبنان، خصوصاً حزب الله المطلوب نزع سلاحه وإدراجه في سياق القوى السياسية اللبنانية، مع ما يعني التطبيق الكامل لقرار مجلس الأمن الدولي 1559 من إثارة ملابسات اتصال حزب الله بالنفوذين السوري والإيراني ومتطلباتهما في"الساحة"اللبنانية. هذه الدراسة تقدم صورة لوضع الشيعية السياسية في لبنان في العقود الثلاثة الأخيرة، وقد تساعد في توقع ما يحدث في المستقبل القريب، أي بعد الانتخابات النيابية اللبنانية، والدراسة اعدت قبل تبلور القوى المتنافسة في هذه الانتخابات. وفي ما يأتي نص الحلقة الأولى: لم يكن انجاز دمج الشيعة في الدولة اللبنانية عملية قسرية بل محصلة تطورات عدة تأخرت ترجمتها سياسياً وعلى صعد دستورية وادارية. فالمنجز الشيعي الأهم في النصف الثاني من القرن الماضي أن الكم تحول الى نوع على صعد الثقافة والمال والاجتماع. وكان الجنوبيون والبقاعيون الشيعة يزاحمون في كل الميادين للوصول الى المواقع التي يستحقون. فمن المعروف ان الاحزاب اليسارية الكبرى بتياراتها الثلاثة, القومية والاجتماعية والاشتراكية, بدأت مسيحية وانتهت شيعية من حيث غلبة الشيعة في عضوية هذه الاحزاب واطاراتها القيادية. وجاءت طبيعة التحولات لتجعل من المنظمات الفدائية الفلسطينية تغرق في بحر الشيعة في الجنوب والضواحي بعدما انطلقت من الزوايا المدنية السنية في بيروت وصيدا وطرابلس, من دون ان تسبح براحتها في البحر المديني الذي يشكل السنة عصبه. في حين ظل تعاملهم حذراً مع الجبل والساحل المارونيين, وكانت العلاقة بالموحدين الدروز تتمأسس على مستوى القيادة الوطنية لكمال جنبلاط. الفاعل الآخر كان الثقل الشيعي النامي في جسم النقابات والهيئات المدنية والاجتماعية الاخرى, وفي الامثلة البارزة لحركات مزارعي التبغ وحصولهم على حق التنظيم النقابي وتحركات معلمي المدارس الخاصة والرسمية والثقل النوعي والكمي الذي ابرزته هذه التحركات لأدوار المدرسين الشيعة, والأمر نفسه في حركة عمال"معمل غندور"وتحركات اخرى، ثم الدور الذي لعبته الجامعة اللبنانية اذ كان الجسم الطلابي فيها بغالبيته شيعياً, في حين كان الأمر يمتد بتأثيراته حتى الى جامعة بيروت العربية والجامعة الاميركية. في غضون ذلك تدخلت ثلاثة تحولات لتعزيز الصبغة الشيعية على مؤسسات العمل الشعبي والنضالي والنقابي في لبنان. 1- وصول الامام موسى الصدر الى رئاسة المجلس الشيعي الأعلى وتشكيله لمجلس الجنوب بُعيد سلسلة من التحركات الجماهيرية التي حركت البعد الشيعي اللبناني بجناحيه البقاعي والجنوبي وامتدادهما في الضواحي الجنوبية والشمالية لبيروت. 2 وقوع الصدام الدموي بين الحركات الفدائية والملك الهاشمي في الاردن والذي انتهى بخروج الفدائيين من الاردن وتدفقهم الى لبنان عبر عدد من المسالك التي يسيطر عليها الشيعة وصولاً الى مواقع في بيروتوالجنوب، القوة الأكثر فعالية فيها هي قوة شيعية بالأساس. 3 وصول حافظ الأسد الى الحكم عبر حركة تصحيحية اعطت الأولوية للتضامن العربي ونهجت منهجاً انفتاحياً على مكونات الشعب اللبناني ومنها المكون الشيعي. هذه التحولات مضافة الى الاعتداءات الاسرائيلية اليومية والاجتياحات الموسمية لمناطق لبنانالجنوبي حولت هذه المنطقة ساحة من ساحات الرفض والمقاومة استقطبت اهتماماً عربياً ببعد دولي, وكان التراث الشيعي الحسيني الكربلائي يضفي مهابة خاصة على هذا الوضع ويمدها بتحركات ذات مذاق مختلف عما هو سائد في مناخات ال 1967 وبعد ال 1973 وفترة حرب السنتين. وترافق ذلك مع نمو مطرد لزعامة الامام الصدر وتحولها رقما شعبيا ضاغطا وحاضرا في ميادين شديدة الحساسية: في العلاقة اللبنانية اللبنانية. وكان احترام الامام للكيانية اللبنانية مثار ارتياح عند المسيحيين في حين كان يقلقهم خطابه المتصل بدعم المقاومة الفلسطينية. وعلى العكس من ذلك كانت اللبنانية مثار حساسية العروبيين والاسلاميين, فاتُهم السيد مرة بالعمالة للمكتب الثاني اللبناني ومرة لنظام الشاه في ايران. هذا عدا عن ان حذراً من السيد ساد سلوك علماء الدين التقليديين والسياسيين من الشيعة على حد سواء مع مجاميع اليسار المتنامية في الفضاء الشيعي جنوباً وبقاعاً وضواحي. في العلاقات الشيعية العربية. فقد تمكن الامام الصدر من اقامة علاقات وثيقة مع دول مثل الجزائر وسورية وعلاقات ذات دلالة مع كل من المملكة الهاشمية في الاردن والمملكة الشريفية في المغرب. بل ان حالات من التشيع او تفهم التشيع برزت في المناخين تعامل معها السيد بحذر وحكمة حتى لا يثير انطباعاً بأنه يحمل مشروعاً تبشيرياً. وهناك شهادات ووقائع تشير الى ان تشيعاً ما تحت القشرة في شمال افريقيا حركته زيارات السيد من دون ان يتحول الامر الى ظاهرة. فتركيز الصدر انصب على ربح التشيع القائم مع العصر وليس توسيع المدى الشيعي او استنهاض بذور شيعية تلفها عقود، بل قرون، من الاحداث المضادة لم تخل من عنف بالغ. في الموقف من اليسار اللبناني الذي كان يرى العمل السياسي الشعبي احتكاراً له ولم يستسغ ان تنافسه في الساحة قوة جديدة يتزعمها عالم من علماء الدين. ارتفعت الحساسيات الى اعلى درجاتها مع تطورات حدثت في لبنان ابتداء من منتصف العقد السابع من القرن الماضي منها: حرب السنتين 1975-1977 وكان للصدر موقف بارز ومميز منها تمثل بقيادته اعتصاماً ضد هذه الحرب وحاول اخذ مسافة من الاعمال المسلحة التي اندلعت في اعقاب حادثة بوسطة عين الرمانة في 13 نيسان ابريل 1975. وكان هذا الاعتصام بداية اهتمام ناشطين سياسيين شيعة ومنهم كاتب هذه السطور في الاقتراب من السيد ومحاولة فهم حركته واهدافها بعدما ساد لوقت طويل موقفٌ حذرٌ منها، ان لم نقل رافضاً لها. الاعلان عن تأسيس حركة افواج المقاومة اللبنانية أمل بعد انفجار وقع في احد معسكرات التدريب, وكان ذلك ايذانا للمرة الاولى, ربما, منذ عصابات العشرينات التي برزت بعد الاحتلال الفرنسي للبنان من اجل مقاومته بقيام تنظيم مسلح للشيعة في لبنان, وإن كانت سبقته ارهاصات حركة المحرومين، التي نظرَّت لحمل السلاح السلاح زينة الرجال دون ان تمارسه. ولما اندلعت حرب السنتين لم يكن لدى الشيعة اي نواة مسلحة ولم يكن الامر كذلك تماماً بالنسبة للطوائف الاخرى. الصدام السوري الفلسطيني بعد دخول الجيش السوري للبنان في حزيران يونيو 1967. وقد نفذ التحالف اليساري - الفلسطيني انقلاباً ضد سورية وحلفائها في لبنان, ففرت قيادات البعث حيث امكنها ذلك عبر المناطق الخاضعة للنفوذ الكتائبي. ولوحق البعثيون من فرع البعث التابع للقيادة في سورية والمقربون منهم في القرى والدساكر والاحياء. وطال الامر نفسه بعض حلفاء سورية ومن ابرزهم انصار الامام الصدر وحركة"أمل"في الساحة الشيعية وبعض التنظيمات الناصرية في الساحة السنية. زيارة الرئيس الراحل انور السادات للقدس والتي احدثت نوعاً من التأزم مع نوع من الفراغ في الوضع العربي. التأزم بدأ بعد ابتعاد دمشق عن القاهرة من جهة, وعدم قبول السعودية بهذا التحرك من جهة ثانية ما انعكس زيادة في حدة الانقسام على الساحة اللبنانية. وتصعيداً لخطاب التشدد ولد مناخ من المضاربات السياسية ازدهرت خلالها التشكيلات السياسية المسلحة وتدفق المال الليبي والعراقي على لبنان, وعلى نحو ما نما دور سوري وسعودي في مواجهة ذلك. ولم يقتصر الامر على الفعالية السياسية بل دخل سوق التسليح والتمويل، من دون أن ننسى المناخات الدولية التي رأت في زيارة السادات وتسلح فئات لبنانية زيادة للنفوذ الاميركي في المنطقة. وترافق ذلك مع تطورات غير مسبوقة في الواقع العربي والمحيط الاسلامي من بينها قيام تجمع عربي في ظل قيادة صدام حسين الذي استضاف للمرة الاولى مؤتمر قمة عربية عام 1979, وتوقيع معاهدات كامب ديفيد بين مصر وإسرائيل, وطرد مصر من الجامعة العربية أو بالأصح اخراج الجامعة من مصر, وقيام الثورة الاسلامية في إيران. ونتيجة لذلك بات لبنان على خط ثلاث مواجهات: اسرائيلية مع منظمة التحرير، وبين جبهة الرفض والسادات, وأميركية سوفياتية. وأسفر ذلك عن ثلاثة انقسامات على الاقل: 1 انقسام مسلم مسيحي على موقع الفلسطينيين ودورهم من جهة، وبالتالي على دور لبنان في الصراع الاسرائيلي - الفلسطيني. 2 انقسام لبناني فلسطيني داخل الصف اللبناني المسلم. اذ رأت اوساط أن الفلسطينيين طبقاً للانقسام الأول هم جيش المسلمين, في حين كانت اوساط اخرى تتصرف على ان الفلسطينيين هم جيش اليسار في لبنان وفي حالات ليست نادرة انهم جيش السنة في لبنان. 3 الواقع المتحرك للاحداث افرز حساسية عالية بين التجمع الفلسطيني المسلح الذي يلقي بثقله في الجنوباللبناني وفي الضواحي ذات الكثافة الشيعية, وتداخلت هنا الاعتبارات المذهبية سني شيعي والقطرية لبناني فلسطيني والايديولوجية يميني يساري. وخضعت الحال الشيعية لمؤثرات احداث تمثلت في الآتي: اجتياح مناطق واسعة من الجنوب في اطار ما اطلقت عليه اسرائيل عملية الليطاني، وتراخي قبضة التحالف اليساري الفلسطيني عن اوسع مناطق الجنوب القريبة من الحدود. قيام"دولة"الشريط الحدودي التي ضمت تنوعاً طائفياً كان الأكثر انعكاساً للطيف الطائفي اللبناني ماروني - شيعي - سني - درزي من دون ان يغيب الارثوذكس عن بعض قرى الشريط وبلداته. صدور قرار مجلس الامن 425 الذي يدعو اسرائيل الى انسحاب غير مشروط الى الحدود الدولية، ودخول قوات الطوارئ الدولية وسيطرتها على معظم المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني. وهنا بدأت العلاقات السورية - الفلسطينية في لبنان تتحول من الصدام الى اعادة التحالف بخاصة بعد تلاقي الموقفين السوري والفلسطيني على رفض السياسة الجديدة للقيادة المصرية. ايران في المشهد الشيعي العربي المواجهة التي تعرضت لها الصيف الماضي حركة"أمل"في الانتخابات البلدية من الضاحية الى البقاع فالجنوب قد تتعدد معانيها ودلالاتها لبنانياً وعربياً وربما دولياً واسلامياً. لكنها شيعياً لها دلالة واحدة, وهي استهداف الدور الشيعي الذي ينطلق من محليته ليتعاطى مع عربيته واسلاميته. ومثل هذا الاستهداف يتعرض له الاصلاحيون في ايران والحوزة النجفية في العراق ومثلهم شيعة دول الخليج وبخاصة الكويت والبحرين, وقبل الجميع المستقلون من الشيعة الافغان، كما تتعرض له بلدان بكاملها مثل اذربيجان ذات الغالبية الشيعية والتي تحكمها علاقات متوترة مع جارتها ايران الى حد ان طهران انحازت الى ارمينيا على حساب اذربيجان في الصراع بينهما على اقليم ناغورنو قره باخ. ومثل هذا الاستهداف قد تشترك فيه تيارات شيعية دون اخرى. لكن حتى اقرب المقربين يعيشون قلق العلاقة مع الحاكم في طهران وليس مع الولي الفقيه في قم حتى لو كان هو الحاكم نفسه. اذ تسود العلاقة الفة المرجعيات على تعددها او اختلافها ضمن الوحدة الضابطة لحدود الخلاف. واللوجستية المعتمدة في المنطقة تعترف عادة بدور ايران الايرانية وايران الاسيوية وحتى التركية والكردية. لكن المشكلة تبرز عند ايران العربية. وهنا يبدو ظاهر المعادلة متعارضاً مع حقيقتها وباطنها. فالامر يعود ببساطة الى حيوية دولة وأمة تتمثلها ايران الفارسية التركمانية البلوشية العربية الكردية الخ... وليست ازمة ايران مع جيرانها شيعيتها او اسلاميتها, بل"شاهنشاهيتها", بمعنى وضعها الامبراطوري السابق وظلاله الممتدة الى الوضع الحالي. وليس شيعة العالم العربي وغيره وحدهم الذين تمسهم هذه الحيوية الامتدادية والقابلة للنفوذ والتأثير, بل تمس أيضاً الاكراد والافغان والطاجيك, وتتردد اصداؤها في الهند والصين والاتحاد الروسي. ويحاول العامل الدولي, من جهة, الحد من نفوذ ايران في الخليج العربي- الايراني, وبدا ذلك اكثر وضوحاً منذ انسحاب بريطانيا من منطقة شرقي السويس نهاية ستينات القرن الماضي وأوائل سبعيناته. وهذا الحد ازداد في عصر الثورة الاسلامية في ايران ولم ينحصر به, بل كان موجودا حتى في ظل حكم الشاه, اقرب حكام ايران الى الغرب. ومظاهر ذلك كثيرة اوضحها: محاصرة النفوذ الايراني في الدول الناشئة على ضفة الخليج المقابلة وهو الذي كان مقدمة لتنامي نفوذ صدام حسين حتى قبل الحرب العراقيةالايرانية. وكان الاتفاق العراقيالايراني عام 1975 بوساطة جزائرية مؤشراً لذلك, اذ قضى ان تتخلى ايران عن ادوارها في مناطق الخليج والعراق. واوضح مثال هنا، التخلي عن دعم الحركة الكردية في كردستان العراق وما تبعه من انهيار لجهود تلك الحركة في اعقاب ذلك الاتفاق, في مقابل رسم الحدود في شط العرب وفق الرؤية الايرانية. ولولا هواجس الخليج تجاه المقيم سعيداً على عرش بغداد لكان العراق عضواً طبيعياً في مجلس التعاون الخليجي الذي تأسس مع بداية الثمانينات، بتشجيع من العراق نفسه، وفي مواجهة الثورة في ايران التي صاغت دعاوة سياسية وايديولوجية قد تؤدي الى اسقاط الاتفاقات التي وقعت مع ايران الشاه. وهنا تحول الصراع الى طبقات متراكبة وتداخلت فيه العوامل المعروفة باتجاهات تتحرك بين الضد وضده. بداية لم يستشعر النفوذ الغربي بمخاطر التغيير الا متأخراً, فهو تعامل مع الستاتيكو المفروض في المنطقة, ورأى في العامل الاسلامي القادم الى الحكم في طهران عاملاً اضافياً يدعم الجبهة ضد النفوذ السوفياتي ذي العقيدة الشيوعية المتصادمة مع الاسلام، او مع الاسلام الايراني بصورة خاصة, لمعاناة ملايين الناطقين بالايرانية داخل المنظومة السوفياتية، ولطول الحدود التي تفصل ايران عن هذه المنظومة. والشعور نفسه كان موجوداً عند الكرملين الذي رأى في الثورة الاسلامية عامل تهديد اضافي زاد من قلقه على الوضع في افغانستان في ظل العامل الايراني الجديد. لذلك نجد موسكو تحرك جيوشها وتدخل كابول. الغرب رأى في الحدثين الايراني والافغاني فرصة ذهبية للعب على الستاتيكو وجعل الحرب الباردة تتحول حروباً ساخنة في المنطقة تضعف ثلاثة اطراف ولا تقلق الغرب، الاميركي بخاصة: تضعف الاتحاد السوفياتي والقادم الاسلامي في طهران والمنطقة ودول المنطقة الاخرى التي زادت من اعتمادها على اميركا بفعل المستجدين الايراني والافغاني. وصب في الاطار نفسه اعلان النظام العراقي الحرب على النظام الوليد في ايران قبل ان يشتد عوده ويستعيد قوة ايران الامبراطورية داخل ايران وفي محيطها الاقليمي. ففي ايلول 1980 عندما تقدمت قوات النظام العراقي نحو الحدود الايرانية وقصفت طائراته مطار مهاباد الايراني بالكاد كانت ايران قد بدأت تشكل بدايات حكومة ما بعد الشاه. ولا شك في ان الاحداث تمخضت عن انتصار مضاعف للنفوذ الغربي في المنطقة: الاتحاد السوفياتي يستنزف في افغانستان ويكون ذلك مقدمة لانهياره بعد اقل من سنتين من وقف الحرب, واستنزاف الخزين الايرانيوالعراقي وخزين المنطقة المالي والبشري من خلال الحرب الطاحنة بين العراقوايران. ولكن على الضد مما اراد الاميركيون وتوقعوا ادت هذه التطورات الى سقوط التيارات الليبرالية في الظاهرتين الافغانية والايرانية واندثار بقاياها في بغداد بعد المجزرة التي ارتكبها صدام حسين ضد بقايا الاتجاه المدني داخل حزب البعث نفسه, متمثلا بقيادة عبد الخالق السامرائي. كما ادت هذه التطورات على صعيد آخر الى قطع الطريق على تحول ديمقراطي كان يمكن ان يتقوى في مصر بعد اتفاقيات كامب دافيد. وكانت هنا الخسارة مزدوجة: عربياً من جهة انشق الصف العربي حول كامب ديفيد, ومن جهة ثانية هيمنت على الخطاب العربي قيادة متخلفة فكرياً وسلطوية استبدادية مدت اذرعها الى انحاء العالم العربي بفضل المال العراقي من جهة وبفعل الخطاب السياسي المعادي لكامب ديفيد من جهة ثانية. وكلا الامرين استثمرا في اتجاه لا يخص بأي صورة القضية الفلسطينية. بل على العكس شهدت هذه الاخيرة تدهوراً في اوضاعها فبات المشهد السوريالي, وكأن قوة"السلام/الاستسلام"قد انتصرت, في حين كانت قوة"الرفض"هي التي تهيمن على الساحة. ماذا حصل هنا في الوضع الشيعي؟ لنأخذ الامر بدءاً من ايران نفسها. فالتداخل بين صراعات القوى في الدولة مع الصراعات الاقليمية ولد اتجاها نحو التصلب في حركة الخميني التي بدأت تتخلى شيئاً فشيئاً عن حدودها اللينة وتتحول حالة مغلقة تسد نوافذ الاختلاف حتى لا يتسرب منها ما يقضي على اصل المشروع. وهنا نرصد ان الامام الخميني نفسه لم يكن يريد في بداية انتصار الثورة وصول رجال دين الى مراكز سلطوية بل دعا علماء الدين الملالي الى العودة الى حوزاتهم. وهو نفسه اتخذ من قم عاصمة الحوزة مقاماً ولم يسكن عاصمة الدولة طهران. كما انه افرز قيادة مدنية مهدي بزركان أبو الحسن بني صدر وقرب علماء ليبراليين طالقاني وغيره, وذلك قبل ان تتداخل ثلاثة عوامل لتقضي على هذا التوجه, اهمها: - ضعف القيادات الليبرالية واختلافاتها في ما بينها. وفاقم وضعها هذا أن الخمينية توجست بعد سقوط الشاه من التقاء موضوعي لثلاثة خطوط: ديني متمثلا بشريعة مداري، ومدني متمثلا بخط بازركان وبصورة أقل مجموعة بني صدر, ودولي - اوروبي مرة واميركي كارتري تارة اخرى، فعملت على ضرب هذه الاتجاهات بالتتابع: أولاً, محاصرة قيادة شريعة مداري واعدام صادق قطب زادة. ثانياً, اقالة بزركان وبعده اخراج بني صدر ودفعه الى احضان جماعة"مجاهدي خلق". ثالثاً, اسقاط كارتر من خلال ازمة الرهائن. وبرزت في مقابل ذلك: مجموعة الطلبة التي احتلت السفارة الاميركية, وقيادة الحزب الجمهوري المتصارعة في ما بينها والتي ذهبت الى التشدد بحسم هذا الصراع, ومجموعات محيطة بالشيخ منتظري وتنهج نهج التطرف الداخلي والخارجي بعكس ما اتضحت عليه، في ما بعد، طبيعة الشيخ نفسه. أدى ضرب هذه الخطوط الى: 1- ايرانيا, انزياح الثلاثي شريعة مداري - بازركان- بني صدر وتعاظم نفوذ جماعة"مجاهدي خلق"التي بدأت تهدد فعلاً الثورة, بخاصة انها تقف على يسار الخطاب الخميني وازيح من دربها التيار الليبيرالي الذي كان يقف حاجزاً بينها وبين الجمهور العام. 2- أميركياً ودولياً, سقوط جيمي كارتر ونجاح رونالد ريغان مفتتحاً عصر الريغانية في السياسة الاميركية التي شجعت العراق على شن الحرب على ايران وفاقمت من ازمة الاتحاد السوفياتي حرب النجوم واستغلت اغتيال السادات على يد جماعة اصولية لتنقلب على جوانب من اتفاقيات كامب ديفيد بخاصة على الحكم الذاتي الفلسطيني وغطت غزو اسرائيل للبنان عام 1982. تحول الخمينية الى التشدد داخلياً وخارجياً, ارتبط داخلياً بتنامي نفوذ"مجاهدي خلق"وخارجياً بتطور حرب العراق على ايران ودخول الجيش العراقي مناطق حدودية عدة داخل ايران. وترافق مع عمليات تخريب كبرى تمثلت بتفجير البرلمان مرة وتفجير مقر الحزب الجمهوري مرة اخرى ما أدى في التفجيرين إلى مصرع طبقة كاملة من السياسيين الذين جاءت بهم الثورة الى السلطة. ولم تكن الساحات الشيعية المحيطة في منأى عن التحولات الايرانية. فاتجهت مثلها نحو تقوية التيارات المتشددة من جهة والى خلق مناخ عربي -اقليمي يفرض حصارا على الشيعة بصورة عامة. وإذا كان مثل هذا المناخ ملائما لنمو خطوط التصلب والتشدد فإنه كان اكثر ملاءمة لاضعاف الاتجاهات الليبرالية والمدنية. على الساحة اللبنانية، بداية, شكل تغييب الامام موسى الصدر على يد الحكم الليبي بداية لبروز موجة جديدة من التصلب والتشدد داخل الشيعة في لبنان زادت منها صراعات الفلسطينيين واليساريين ضد حركة امل وتتوجت جميعها بغزو اسرائيل للبنان العام 1982, وتحولت وجوه قيادة"امل"من الاعتدال والليبرالية الى التشدد, وانقلب بعضها على خط"أمل"نفسه منحازاً الى التوجهات المتصلبة القادمة من ايران, فطارت قيادة حسين الحسيني رئيس مجلس النواب في ما بعد المعتدلة. ولكن بسبب العلاقة مع سورية والميزات الشخصية لنبيه بري نجحت قيادته بالحفاظ على نوع من المعادلة: تتشدد هنا وتتعايش هناك. وفي العراق كان اغتيال محمد باقر الصدر بداية لامور عدة: - انعزال كثير من العلماء والمفكرين داخل حدود حوزة النجف قبل ان يعمل الجلاد قتلاً بعدد منهم وتصفيتهم بدم بارد. - غياب الشخصية القيادية التي يمكن ان تتحلق حولها القوى الشيعية المختلفة. - لجوء اعداد متزايدة الى بلدان الانتشار العربي، كسورية وبعض دول الخليج, ثم بصورة اشد كثافة الى ايران واوروبا. وعلى رغم وجود تيارات معتدلة داخل شيعة المنفى مهدي الحكيم, الخوئي, بحر العلوم، وآخرون, فإن الخط الاقوى انقسم في اتجاهين: الاول اتجه الى تقبل الدعم والعون من المعسكر الغربي على قاعدة ما حصل في افغانستان عندما استعانت الحركات الاسلامية والوطنية الافغانية بالدعم الاميركي لمواجهة الاحتلال السوفياتي، وهي كانت ترى في حكم صدام حسين ما هو اشد هولاً من احتلال خارجي. والثاني ظل متحفظاً حتى اللحظات الاخيرة على اتجاه تلقي الدعم من اميركا في حين يتقبل مثل هذا الدعم من طهرانودمشق وينشده في عواصم عربية اخرى من دون ان يحصل عليه. ساد خط التشدد الايراني وطروحات تصدير الثورة حتى اوائل تسعينات القرن الماضي التي شهدت تحولات اهمها: 1- انتهاء الحرب العراقية - الايرانية في آب اغسطس 1988 وفق قرار مجلس الامن الصادر في تموز يوليو 1987. 2- وفاة الامام الخميني 1989 الذي رأى في قبول وقف الحرب كأس السم الذي اجبر على تجرعه. 3- غزو النظام العراقي للكويت. هذه التحولات ولدت ديناميات جديدة في العلاقات الايرانية - العربية من جهة والعلاقات الايرانية الغربية الاوروبية والاميركية من جهة ثانية. وفي هذه المرحلة تبلور اتفاق الطائف الخاص بلبنان واستعادت الدولة اللبنانية سلطاتها من الميليشيات وبدأت الامور تسير في اتجاه تعزيز ادوار المؤسسات الدستورية والحكومية, ومنها قيام جيش لبناني موحد بعد 14 عاما من الانقسامات. كل ذلك انعكس تحولات على علاقة"حزب الله"الذي أعلن انشاؤه عاهم 1982 بالوضع العام في لبنان بدأت بوقف الاقتتال الذي اندلع بين الحزب والحركة, وبقبول اتفاق الطائف واتجاه الحزب لتحديد برنامجه في تحرير الشريط الحدودي المحتل وفق القرار 425 الذي سبق للحزب ان رفضه وسعى لاخراج قوات الطوارئ الدولية الخاضعة لهذا القرار. ولم تأت اواسط التسعينات حتى كان مشهد الانتخابات الرئاسية الايرانية يعكس تحولاً عميقاً في التيارات السياسية الايرانية, اذ بدا التفوق ساحقاً لتيار الاصلاح متمثلاً بمحمد خاتمي الذي حقق فوزاً كبيراً في هذه الانتخابات. وليس من غير معنى التذكير بأن هذه المرحلة بالذات شهدت انعقاد مؤتمر مدريد وبعده بسنتين اتفاقات اوسلو 1993 وتوقيع اتفاق وادي عربة بين الاردن واسرائيل 1994. لكن القطيعة مع هذه التحولات تمثلت أساساً بتطورات الوضع في العراق الذي شهد المتناقضات الاكبر في هذه المرحلة. من مناقضة غزو الكويت لكل سابقة عربية منذ قيام كيانات العرب الحديثة، الى اكبر حشد عسكري منذ الحروب الكورية والفيتنامية والى ارهاصات انتهاء الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفياتي. ولعل جميعها تركزت شيعياً عند نقطة القمع الدموي لابرز انتفاضة شعبية عربية ضد حاكم عربي وفي ابرز اجماع عربي ودولي لاسقاط هذه الانتفاضة لاسباب مذهبية وهواجس سلطوية. لقد قيل ان عراقيين قادمين من الحدود مع ايران رفعوا صوراً للخميني الى جانب صور"الباقرين", الصدر والحكيم, في ساحات مدن اهوار الجنوبالعراقي وعرصاتها وفي مشاحف روافد المياه ومنازل القصب في قراه, فجعلت اجهزة الانذار توقظ قادة المنطقة من نومهم ل"يدبوا"الصوت على جورج بوش الأب: الشيعة يأتون بإيران الى حكم العراق. فأعطى الضوء الاخضر لحاكم بغداد 14 محافظة خرجت عن سلطته لاستعمال السلاح المجوقل لضرب المنتفضين رافعاً فوق دباباته التي استهدفت مقامات النجف وكربلاء ومشاهدهما، شعاراً بارزاً: لا شيعة بعد اليوم. رئيس تحرير مجلة النور - لندن.