ماذا كنا نتوقع من سلوك عراقي يحاول إعادة تأسيس دولة على معطيات صعبة ومعقدة تأتي صعوباتها وتعقيداتها من أن البدل والمبدل منه، أي النظام البائد والذي قضى على أي احتمال بتصحيح، ولو جزئياً، وبديله أي الاحتلال المتعدد الجنسيات مع قرار أميركي حصري في كل شؤونه، وطموح بريطاني مراوغ وهزيل؟ كنا نتوقع أن يكون الأميركي أقل عتواً وغباء بحيث لا يعيد انتاج النظام الصدامي أميركياً بالمعنى السلبي، أي بفارق المركزية المركزة جداً والمتجلية قمعاً شاملاً بحيث أصبح مظهر الأمان طاغياً على المشهد السطحي العراقي في العهد الصدامي، في حين أن المركزية الأميركية، أي إلغاء الآخر، الحليف أو الصديق أو الشريك، والهيمنة على كل شيء، بلغت ذروتها، من دون أن تؤدي الى الأمان السطحي الذي قد يتخذ حجة لتبرير استمرار الاحتلال تجنباً لما هو أعظم، حيث ان الآتي بعد الانسحاب ما زال يبدو أعظم سوءاً، ولكنه آت لا محالة، لأنه أعظم سوءاً على العراق! وهذا لا يدخل في اهتمام الأميركي الذي يريد أن يغطي فشله بإيثار سلامته على سلامة العراقيين... في هذه اللوحة المثيرة للخوف واليأس، يبقى فارق اللون، بين إرهاب الدولة العراقية السابقة، أي الإرهاب الوطني، وبين الإرهاب الأميركي اللاوطني... والذي قبل أن يصل الى حد الإرهاب المفضوح المتحقق بتشديد القبضة، في مقابل عمليات الإرهاب أو المقاومة، وكان هناك ميل حقيقي لدى البعض وميل منافق لدى الكثيرين، الى اعتبار الاحتلال تحريراً للعراق ليس إلا... وهنا لا بد من التساؤل، هل ان الأميركي تعمد إعاقة بناء الدولة بعد تأسيسها على السلوك الأهلي بالانتخابات ذات النسبة الديموقراطية العالية والمتكررة، أم انه فشل في ذلك بسبب نقص في فهمه العراق والعراقيين، ما أدى الى غياب الدولة الجامعة الرادعة، وفتح الباب أمام النزوع العراقي، الفردي والجماعي، الى العنف جراء تطاول مدة الإلغاء والتهميش لمكونات الاجتماع العراقي وعلى مدى أربعين عاماً على الأقل، وإن كان البعض يعيد هذا التاريخ الى تأسيس الدولة الوطنية العراقية في عشرينات القرن المنصرم؟ هذا الأمر، أي إعاقة بناء الدولة وصولاً الى غيابها الى انفجار العنف العشوائي، تعدى في التعبير عن ذاته، بالقتل اليومي، الى النهب اليومي، أي الإرهاب الأعمق بترسيخ سلوك الفساد والإفساد المغطى هذه المرة بمرونة وصبر مرجعي، مما أفسح في المجال أمام فقه ميليشيوي يشبه الفقه الإسلامي شكلاً ويؤسس ميدانياً لتقويض المجتمع بعد الدولة، من خلال الإخلال الفتاك بنظام القيم والعلائق الاجتماعية بين الجماعات وداخل الجماعة الواحدة التي أدى نزوعها المستجد أو المتعاظم الى الفصال مع الجماعات الأخرى، الى تفكك نظام علائقها الداخلية وتحولها الى جماعات فرعية عنفية تتبادل الإلغاء السياسي والجسدي. وكان لافتاً من البداية، وإن لم يلتفت اليه كثيرون، ان جيش المهدي مثلاً اعتمد الأسلوب المزدوج، قتل السنّة والشيعة معاً، وإن كان خطاب الوحدة الإسلامية لدى مقتدى الصدر انطلى على متعصبي السنّة في العراق، فإنهم تعاملوا معه بذهنية ذرائعية باعتبار أنه يمثل شوكة غليظة في حلق الجماعات الشيعية الميالة الى الوحدة وترسيخ السلام الأهلي، ما يعني غلبة الطائفي أو المذهبي على السياسي، والذي أدى بأحمد شلبي ان يذهب الى حلف غير مقدس مع الصدر، وجعل إبراهيم جعفري، قائد حزب الدعوة الذي سارع الى التفاهم مع الأميركي قبل الاحتلال، وأظهر ميلاً الى دولة مدنية متخلصاً من آثار سيد قطب في تاريخ تأسيسه، يحاول الجعفري بعد استبعاده من رئاسة الحكومة بعدما أسهمت حكومته السابقة في تأسيس حال إدارية لا تعتني أبداً بالكفاءة والأمانة وتركز على الولاء الشخصي أو الحزبي... التعويض بتحالف كيدي ومشاغب مع الصدر طمعاً في إعادة حزب الدعوة الى الالتفاف حوله والاستقواء على الدولة ومكوناتها، وتجاوز التحدي الذي واجهه بترئيس نوري المالكي للوزارة، مسهماً في إضعاف المالكي داخل حزب الدعوة، وهو الذي لم يكن يشكو من ضعف نتيجة تشبث الجعفري بموقعه... وبين هذا وذاك، كان الجميع يعتقدون بأن تغييراً جذرياً حصل في العراق الآتي، على رغم كل العوائق والفضائح، وهو أن الدولة هي شأن الاكثرية أولاً، من دون إلغاء الأقلية التي هي شأن الدولة أيضاً أي من دون استئثار شيعي وأن الشراكة المتعاظمة بهدوء وعمق هي المسار الذي يضمن بناء دولة تعددية حقيقية تحفظ وحدتها بالتعدد وتحفظ تعددها بالوحدة. والذي انكشف هو أن الاكثرية، الشيعية تحديداً، لأن الانقسام العراقي الأبرز والاعمق حتى الآن، وبسبب غياب الدولة الوطنية الجامعة، مركب من كردي عربي وپسني شيعي... هذه الاكثرية تحولت الى اقليات حزبية، ولم ينفع الائتلاف الشيعي الموحد في كشف وحدتها أو توحيدها، وإن كان قد اصبح"مقدساً"بناء على تدخلات مرجعية اعتبرت"قداسته"معبراً الى بناء الدولة ليس إلا، لكن"قداسته"هذه انتهت الى تواطؤ مراوغ على السلب أو على الفساد أو على البطالة السياسية والادارية، والاعتصام بالمكونات الشيعية الشديدة الخصوصية اللطم ومجالس العزاء حتى في مبنى رئاسة الوزراء تأكيداً للأهلية المذهبية في مقابل الاهلية السياسية والادارية المغيبة شيعياً وسنياً بسبب المحاصصة التي ألغت الكفاءات الشيعية المتراكمة على مدى عقود من التحصيل العلمي والخبرات. وفي المحصلة، تحولت الاحزاب التاريخية والمرتجلة وپ"جيش المهدي"وپ"الفضيلة"الى عشائر ريفية ريعية متناحرة، اقل وعداً بالتطور من العشائر التقليدية، وحملت عقلها الريفي الى المدينة متجردة من قلبها الريفي الذي كان يميل الى التسامح والصلح وتجاوز التارات نحو السلام الداخلي كشرط للبناء الاجتماعي والسياسي والاداري. انتهينا الى سؤال مصيري يطرحه واقع العراق، هو في الواقع سؤالان... أولهما عن قدرة أو ارادة حركات الإسلام السياسي العربي في إقامة دولة جامعة تعددية حديثة وديموقراطية ومستقلة تعتمد المركزية في حدود الضرورة وذات علاقة متوازنة اقليمياً ودولياً؟ الجواب صعب، والأصعب منه هو الجواب عن السؤال الثاني وهو قدرة الشيعة خارج ايران على اقامة أي دولة، وتجربة العراق تشجعنا على النفي، والاقتناع بأن الدولة القائمة في ايران، وهي دولة حقيقية أعجبتنا أم لم تعجبنا، هي دولة ايرانية أولاً، وشيعية ثانياً أو ثالثاً وبالمعنى الثقافي أو العصبية الجامعة لأقوام عدة من دون أن تمنع التعدد وتداول السلطة، ما يفسر ظهور ونمو وبقاء التيار الإصلاحي في ايران. وكانت المعضلة لتكون في مجال التحمل والتفهم لولا أن التجربة في العراق الآن، وفي بعدها الشيعي، وبعدها الشيعي - الأميركي، لولا أنها لا تتشابك مع ظروف اقليمية ودولية شديدة التعقيد وكثيرة المخاطر.. وعندما نقول"المخاطر"لا نشير الى استشعار شخصي للخطر على أساس التوافق أو التطابق مع التوجه الأميركي في المنطقة، باعتبار أن هناك مفارقة جارية التشكل تضعنا أمام احتمال هزيمة فادحة للتجربة الأميركية في العراق، في مستواها الشيعي - الأميركي والسني - الأميركي. ومنعاً للحساسية، نحن في حاجة الى سنّي، يقرأ الانقسام السنّي ما ظهر من فقدان الأهلية السنّية العراقية الراهنة في بناء الدولة، بحيث لا تبقى الخصوصية السالبة شيعية فقط، بل تصبح إسلامية بالمعنى الحركي والحزبي، وصولاً الى تجربة"حماس"ومستقبل تجربة"المحاكم الشرعية"في الصومال؟.. أما المفارقة فهي وعلى سبيل المثال أن الإسلام الشيعي الحركي في لبنان حزب الله ومعه الإسلام السني الحركي في لبنان المتعدد الأطراف، هم في انتظار هزيمة المشترك العراقي الأميركي، أي هزيمة الأميركي ومعه من تفاهموا معه واختلفوا في ما بينهم من الشيعة والسنّة... والسؤال السؤال: ألا تعني هذه الهزيمة في العراق انتصاراً للأخوة من الشيعة والسنّة الحركيين في لبنان وفلسطين وغيرها؟ وهل نحن موعودون بإعادة انتاج الوحدة الإسلامية الحركية المتطرفة والمعتدلة نسبياً، على ايقاع انفراط العقد الشيعي - السني والعقد الشيعي - الشيعي، والعقد السنّي - السنّي، والعقد العراقي - الأميركي؟ وان كانت هذه الوحدة المحتملة محمَّلة بكل أسباب اعادة الانقسام الحاد جداً وصولاً الى دورة عنف أخرى بناء على الانتصار الذي قد يشبه شكلاً انتصار العراقيين بالاحتلال على النظام الوطني المحتل؟ هذه الأسئلة تفتح على أفق قد يكون منظوراً، مهما يكن بعيداً، يؤكد أننا مؤهلون لتعويض خسائر الأعداء أو تحقيق انتصارهم علينا من خلال تحويل انتصاراتنا الداخلية الى هزائم، ومن خلال تحويل الوحدة الى تجزئة، وتحويل الدولة كضرورة اجتماع الى ضرر اجتماعي بحيل الى ايديولوجية باهتة! أدعو الى الانتباه الى ان ما يتحقق من وحدة طائفية أو مذهبية، أو وحدة حزبية، في بلادنا، انما يتحقق على السلب لا على الإيجاب، أي ضد طرف آخر، ولكن منابع هذه الضدية وخلفياتها مختلفة وقد تكون متناقضة في الواقع، ما يعني انها ريثما تنفجر بعد الخلاص من الآخر تعود فتمهد لعودته بانفجارها... أي ان وحداتنا هي فرصة لشهر عسل لا يلبث أن ينتهي ليعود العروسان كل الى واقعه وحساسيته ومزاجه وتربيته ومصالحه الخ... على أن هذه الوحدات، ولأنها لا تهدف الى ترسيخ الوحدة تعمد الى الغاء الدولة بإنتاجها على نظام أفكار وقيم تتناقض معها... ما يجعلنا مدعوين الى اعادة انتاج معرفتنا ووعينا لمسألة الدولة، هذا الانتاج الذي لا يتم إلا بالشراكة بين العقول المدنية، متدينة أو غير متدينة، ذلك ان الدين يبعثنا الى المدنية، أي يسهم في انتاج المدنية الدولة من خارجها، فإذا ما أدخلنا اليها، حصل تبادل في التقويض بينه وبينها. وفي تقديري كمؤمن وملتزم دينياً ومدنياً أن المدنية من شأنها كما هي جامع لنا جميعاً أن تسهم في وعينا الأعمق والأوسع للدين بما هو حارس على بوابتها مسلح بالقيم الإنسانية والحضارية وحريص على الشرط الانساني الحرية لا أكثر ولا أقل... بل هذا هو الأكثر والأجمل للدين والدنيا. وهل هناك فرصة لدولة مدنية في العراق تجنبنا احتمال اللادولة من خلال ما يمكن أن يترتب على الفشل العراقي من الوصول الى حالة من دويلات الطوائف التي تشبه سلة سراطين البحر؟ المقدمة الضرورية لذلك هي تحويل الوهم الوحدوي الشيعي والسني العربي في العراق الى تعدد مدني لا مذهبي جامع شكلاً، أي فئوي جامع فعلاً وتناحري، أسوة بما أنجزته الحالة الكردية وهي في طريق استكماله ببطء وعمق وتوتر لا يمكن انكاره، لكنه يأتي من خصوصية كردية معروفة، في حين أن هناك خصوصية عربية وخصوصية شيعية وسنية عراقية، لكنها لا تمنع بل تقتضي انتاج الحالة المدنية من أجل دولة مدنية صعبة من دون شك ولكنها ممكنة ومطلوبة كحل للعراق ولنا. والعقلاء، إلا قلة منهم، لا يجادلون في أن التطرف الإسلامي في أكثر مثالاته حدة القاعدة والذي تأسس على الإرادة والفعل الأميركي، كان أكثر المستفيدين من حماقات الأميركي في أفغانستانوالعراق الى جانب القصور والتقصير الأفغاني والعراقي، وهو سيكون الأكثر استفادة من هزيمة الأميركي وانسحابه من العراق، اذا كان ذلك يعني هزيمة القوى العراقية التي تعادي الإرهاب من دون أن تتجنب حصول الإرهاب من بعض مكوناتها والحل المحتمل أن يكون ناجعاً هومشروع عربي حقيقي للعراق، والسعي وراء السني والشيعي الوطني الذي أدى تركه من دون حوار ومن دون مساءلة واعتراض الى ضعفه واستضعافه ولجوئه الى العصبية المذهبية لحماية وجوده، مقدماً بذلك ذريعة للمتطرفين من الطرفين ليغطوا تطرفهم... مشروع عربي للعراق، لدولة عراقية تعددية، ولا مانع من أن يكون انقاذ العراق بالعراقيين من خلال المشروع العربي مجالاً لاستفادة الأميركي ليذهب الى شأنه. * كاتب لبناني