كان الأبرز في الموقف الإيراني اثر أحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 أمران: الإدانة الصريحة، والحذر من الاندفاع لإدخال المنطقة في حروب طويلة. وربما كمن مصدر الحذر في قلق ايران من ان أي وجود عسكري اميركي حولها يضع أمنها القومي في دائرة الأخطار الحقيقية، إلا أن يكون ذلك، كواقعة اميركية لا يمكن تفاديها، محفزاً لأن تكتسب طهران عناصر القوة التي تمكنها من تحقيق التوازن الاستراتيجي مع واشنطن من العراق الى افغانستان وأعماقهما المختلفة، كأن تستكمل مساعيها النووية لتوظفها في سياق المشاركة والمغالبة مع الولاياتالمتحدة في الأماكن التي تتمدد إليها حول ايران. وهذه هي صورة العراق، الذي أدى الفشل الأميركي فيه الى فتح ابواب الاجتماع العراقي والعملية السياسية والمقاومة في بعض مستوياتها والدولة، امام نفوذ طهران لتتحول شريكاً لواشنطن في حوار على العراق، قد يكون من أهدافه تسوية لمصلحة ايران في المسألة النووية. هنا لا بد من ملاحظة الحياد الايراني الغامض، المشوب بمقدار من الارتياح الضمني، لاحتلال افغانستان والخلاص من مشكلة"طالبان"، ومن ثم احتلال العراق والخلاص من عدو إيران الأول في المنطقة، صدام حسين ونظامه. هذا الحياد يتحمل خطاباً متعدداً ومركباً بما يجعله مجالاً للمناورة ومفتوحاً على التطورات، من دون تجاهل الصعوبات التي تحدق به، خصوصاً اذا أخذت ايران في اعتبارها الأجواء الشعبية العربية والإسلامية الموسومة بحماسة تختلف أعماقها والاحتمالات التي قد تترتب عليها بين دولة وأخرى. ولا بد في كل حال ان نفترض ان هناك إرادة قوية لدى طهران بالحفاظ على أمنها القومي وتوظيف ذلك بما يعود عليها بالأمان الاستراتيجي، متجسداً في عملية تنمية شاملة تفي بوعود الثورة، وتؤمن لها الاستمرار في تحمل الوظيفة التي اختارتها في تقديم نموذج حضاري إسلامي حديث واستقلالي، ينزع الى التكامل مع الآخرين من موقع التكافؤ والشراكة. هذه الوظيفة اعتورتها صعوبات في الحرب مع العراق، حتى كادت تعطلها او تنقلها الى نقيضها العزلة من خلال شعار"تصدير الثورة"الملتبس، والمنتج طبق مفاهيم تقوم على إلغاء الآخر أو الاستحواذ عليه من دون اعتبار للخصوصيات الوطنية. هنا تقف الذاكرة الإيرانية عند مترتبات الحرب مع العراق داعمة للرغبة بالسلامة التي كانت"طالبان"، بعد انتهاء الحرب مع العراق، احد مصادر التهديد لها، ما جعل ايران تتصرف عملياً على اساس ان احتلال الخصم الأميركي لأفغانستان يؤدي الى نتائج مشتركة، وإن كانت هذه النتائج مضمونة ايرانياً أكثر منها أميركياً، سواء في افغانستان أو في العراق. واذا كان التوتر طاغياً الآن على العلاقات مع واشنطن، فإن لهذا التوتر وظيفة ودوراً في تعزيز موقع إيران في عملية ترميم علاقاتها مع الغرب ومن ضمنه الولاياتالمتحدة. ويمكن، هنا، التوقف عند فارق منهجي بين ايرانوباكستان، مثلاً، في هذا المجال، اذ أن هناك علامات في الأفق الباكستاني على إمكان تبلور اتجاه جانح بقوة الى القطيعة والتصادم مع الغرب، والولاياتالمتحدة خصوصاً، من خلال تظهير الانقسام بعد احتلال افغانستان بين الحكم العسكري الباكستاني والقوى الوطنية والإسلامية المساندة له، بما فيها القوى الشيعية، وبين المعارضة الباكستانية التي يغلب عليها الطابع الإسلامي السني"الاخواني"، ما نقل احتمال استشراء سلوك القطيعة والعداء للولايات المتحدة الى مستوى الواقع الميداني واليومي. هذه الوقائع تعني أن اولويات طهران في حراكها المعقد والإشكالي نحو الغرب والولاياتالمتحدة، وأولويات الغرب تجاه ايران، أصبحت داخلة فعلاً في مسار تغييري وفي اتجاه ايجابي ليس سهلاً إنجازه على الأطراف المعنية به كافة، على العكس من الحال في باكستان والتي تؤشر عليها احداث يومية تظهر مدى امكان استقواء الحركة الإسلامية على النظام المرتبط بواشنطن. وهذا الواقع يقول، بشيء من الصراحة، ان من المحتمل جداً ان لا تبقى الدولة الباكستانية على نصاب حريتها الداخلية في بناء العلاقة التحالفية مع الولاياتالمتحدة، وإن كان اعفاؤها من ديونها لأميركا سيعطيها شيئاً من الدفع، إلا انه لن يحل المشكلة. وهنا يظهر ما لعملية تسريب خريطة الإعداد النووي في باكستان على يد العالم عبدالقدير خان الى ايران، من دلالة على ان القلق الأميركي والغربي من النشاط النووي الإيراني لا يهمل الاحتمالات المستقبلية للسلاح النووي الباكستاني. كانت الحرب بين ايران وحكومة"طالبان"على وشك النشوب في التسعينات بعد التحشيد المتبادل على الحدود، لكن طهران بذلت جهداً لتجنبها بسبب ما قد يترتب عليها من مس بصدقية ايران الاسلامية في الوسط الشعبي الاسلامي ووسط حركات الاسلام السياسي واحتمال طغيان البعد المذهبي على الصراع. وقد أخذت في الاعتبار ان الاندفاع الشعبي والحركي الإسلامي السني نحو ايران بعد الثورة لم يدم طويلاً، بعد تثبيت مذهبية الدولة الإيرانية الشيعية في دستورها، ما أيقظ حالاً من التخوف من ان تتحول قيادة الثورة والدولة الإيرانية الى مرجعية إسلامية عامة. وبناء على هذه المخاوف انهمكت حركات الإسلام السياسي السنية في استحضار مرجعياتها بدءاً من حسن البنا والندوي والمودودي وسيد قطب، الى أسامة بن لادن وأبو مصعب الزرقاوي، ولو جزئيا. وبعدما استشعرت ايران قوتها اثر تداعيات احتلال أفغانستانوالعراق، بل وميل كفتها الى الرجحان في العراق خصوصاً، وبعدما قطعت شوطاً في نشاطها النووي، فكرت في استعادة أفقها ومداها الإسلامي والإقليمي من خلال حراكها المتعاظم في قضايا تهم المسلمين جميعاً، خصوصاً فلسطين. فحسمت الإدارة الإيرانية أمرها في اختيار الدعم التام لحركة"حماس"الصاعدة، وإن على حساب حركة"الجهاد"التي حرصت منذ عقد ونيف على دعمها. وجاء احتلال العراق واسقاط نظامه الذي تمكن، بخلطه المتعمد والذرائعي بين الخطاب القومي العربي والخطاب الإسلامي والمذهبي، من اجتذاب قوى اسلامية حركية وشعبية إليه، ليعطي طهران فرصة ذهبية لإعادة اللحمة بينها وبين حركات الإسلام السياسي السني. من وصول"طالبان"إلى حكم أفغانستان وتصفيتها للأطراف الإسلامية الأخرى التي حاذرت الاندفاع مع العراق ضد ايران في الحرب، الى حركات العنف الاسلامي في مصر والجزائر، الى شراكة"حماس"و"الجهاد"في الانتفاضتين الأولى والثانية، الى ما أعطته الحركة الإسلامية التركية في عهد نجم الدين أربكان من دفع للحركات الإسلامية السنية، ولم يجر الانقلاب عليها تماماً في عهد رجب طيب اردوغان، كانت ايران تظهر مزيداً من التوجه نحو الداخل لإعادة تأهيله وتحقيق احتياجاته الاستراتيجية اقليمياً ودولياً، ما جعل صفتها الوطنية في طريقها إلى جدل محتدم مع هويتها الاسلامية بما يترتب على ذلك من توجهات والتزامات وعلاقات. ولعل ذلك هو السبب وراء حركة المصالحة التي سارت فيها ايران مع عدد من البلدان العربية، وخطاب الحوار مع الغرب، والذي لا يخلو من سجال فاتر حيناً وساخن أحياناً، ما لم يكن في أي حال من اختراعات التيار الإصلاحي، بقدر ما كان قناعة إيرانية عامة، يختلف التعبير عنها بين الإصلاحيين والمحافظين. ومن هنا لم يتعرض سلوك الرئيس محمد خاتمي الانفتاحي من قبل التيار المحافظ لنقد جدي، إلا في حدود كشف خلفياته الثقافية في خطاب بعض القوى الاصلاحية لا الخطاب الإصلاحي إجمالاً، وقد كان طبيعياً ان ترى الحركات الاسلامية السنية في هذا المسلك رغبة ايرانية في التمايز عنها ما دامت هذه الحركات موضوعياً على خط التعارض مع الانظمة، وان اختلفت أولوياتها بين دولة ودولة، هذا التمايز الذي وصل في حال ايران مع"طالبان"الى مستوى التقابل الحاد، حتى بدا وكأن تقدم"طالبان"في استقطاب الرأي العام الاسلامي السني، جعل ايران تجري حساباتها لتأمين سلامة ثورتها ودولتها وأمنها القومي ونفوذها ودورها وموقعها في المنطقة والعالم. هذا قبل 11 ايلول واحتلال أفغانستانوالعراق وصعود"حماس"ودخول"الاخوان المسلمين"في مصر الى البرلمان بقوة الخ... وعلى أي حال، ما زالت في الذاكرة صورة الأداء الايراني في حرب الخليج الثانية، حيث استطاع الباطن الإيراني المركز، المتبقي في التكوين من زمن الثنوية القديمة أدباً وخطاباً وسلوكاً اجتماعياً بعيداً عن العقيدة، أن يحكم الظاهر ويوجهه بدقة لافتة، تختلف عن طريقة المباشرة العربية التي تفوت كثيراً من الفرص والفوائد وتجعل الذات العربية رهينة دائمة للانكشافات. لقد كان هذا الباطن، تحت الخطاب الأممي الاسلامي، مهموماً بتأمين سلامة الوجود واستمرارية الحضور وتكثيفه وتفعيله ومراكمة تأثيراته ومفاعيله تفريعاً على سلامة الوجود كأولوية مطلقة، وتحت عنوان غير مكتوب في أي مكان، ولكنه موجود في كل الأمكنة المحافظة والاصلاحية المصلحة الوطنية... ومن خلال مسلك براغماتي محكوم الى حد ما بضوابط ومعايير وغائيات وأنظمة قيم ومصالح وأفكار، لا تخلو من النسبية التي تخترق تعميمات الخطاب الإيراني الطاغية لدى المحافظين وغير الغائبة عن خطاب الاصلاحيين. والسؤال: كيف يفهم العرب والمسلمون من المحيط الى الخليج، ومن طنجة الى جاكرتا، هذا المسلك الايراني المركب؟ وهل في إمكانهم ان يقتنعوا امام النفوذ الايراني في العراق وسورية ولبنان، والمفهوم الى حد ما وغير المفهوم الى حد ما، وأمام سلوك ايران في أفغانستان بعد احتلالها، وأمام المسعى النووي الذي يرفع قوة ايران حيال جيرانها الى المستوى نوعي، وأمام المخاوف الخليجية لا من السلاح النووي بل من أي تسرب اشعاعي نحو الخليج، هوائه ومائه وبشره، من دون أن تكون التقنية الروسية ضماناً في ذلك بعد تجربة تشيرنوبل؟ وعوداً على بدء، هل في امكان العرب والمسلمين حول ايران وفي اعماقها ان يوافقوها على ان مساعيها في كل المجالات تشكل ضمانة لاستقرار المنطقة وسنداً لشعوبها في مسيرتها نحو استكمال الشروط التي تساعدها على تجنب الاستحواذ عليها في مسار العولمة وتجديد الرهن على وجودها وثرواتها، والانتقاص من استقلالها، وإنقاص فرص نموها خارج موجبات وطرائق الاقتصاد النفطي؟ في خطاب ألقاه أمام القوات المسلحة الإيرانية دعا الرئيس محمد خاتمي هذه القوات الى اقصى درجات اليقظة لمواجهة التهديدات المحدقة بإيران، معرباً عن رغبته في قيام تعاون دولي لمكافحة الارهاب. وقال في مقدم هذا الخطاب بعد عشرة ايام على أحداث 11 ايلول:"ان سياستنا الخارجية تستند اليوم إلى اخماد بؤر التوتر وبناء الثقة مع الآخرين ... لكن هذا لا يعني ان نغفل عن امكان وجود وعوامل اخرى تهدد أمننا القومي وثورتنا ووحدة أراضينا سواء في الداخل او في الخارج". وقتها مال كثير من المتابعين الى قراءة كلام بعض أقطاب المحافظين ناصر مكارم شيرازي المرجع الديني مثلاً بعد يوم واحد من خطاب خاتمي، اذ أعلن شجبه لنية الولاياتالمتحدة شن العدوان على دولة"طالبان"الاسلامية في أفغانستان ووضعه في سياق السجال الداخلي بين الاصلاحيين والمحافظين، والذي وصل الى اتهام الاصلاحيين للمحافظين في مسألة تطبيق الحدود الشرعية، بأنهم يسيرون على طريق"طالبان"، فرد بعض أنصار المحافظين بالدفاع عن"طالبان"في خصوص تطبيقها للشرع في مسألة الحدود الرجم والجلد... لكن الجميع، بمن فيهم المحافظون ومنهم ناصر مكارم شيرازي، لم يخفوا رضاهم عما حل ب"طالبان"، ومن بعدها صدام حسين، على أيدي الاميركيين. * كاتب لبناني