قبل نجاح الثورة الإسلامية في ايران عام 1979 بقيادة الإمام الخميني على خلفية نظرية فقهية معروفة الحكومة الإسلامية وولاية الفقيه كان هناك تحول يجرى في البلاد العربية، وفي لبنان بصورة خاصة، باعتبار ان التوازن الطائفي فيه، وسع هامش الحرية للطوائف من جهة وللأفراد والجماعات المنتسبين إليها داخلها من جهة اخرى. الى ذلك فإن تعددية المسيحية - الإسلامية ادت به الى انفتاح ثقافي على الغرب في مقابل انفتاح مماثل على البلاد العربية فكان من الطبيعي ان يحتدم الجدل فيه اكثر من غيره، كما ان جيرته لفلسطين وارتباط مصيره بنسبة اكثر من غيره بها، جعله موئلاً للمقاومة الفلسطينية بعد النكسة وبعد اخراج المقاومة من الأردن، ليكون ذلك احد العوامل التي عجلت بالحرب الأهلية، وعقدتها على قاعدة انضمامها الى عوامل الانقسام الطائفي والاجتماعي. وفي الحرب التي احتدمت كثيراً قبل نجاح الثورة الإسلامية، كانت تجربة اليسار القائمة اساساً على اكثرية اسلامية في صفوفه كما في صفوف المقاومة الفلسطينية والحركات القومية، بلغت درجة من التعقيد، ما دعا كثيراً من الملتزمين باليسار والحركة الوطنية والقومية عموماً الى مراجعة قناعاتهم وأفكارهم وأدوات تحليلهم وصولاً الى الأسئلة الأولى التي اعادت الدين والإسلام الى ساحة النقاش، متكئة في ذلك على انكشافات عميقة وواسعة في مسيرة حركة التحرر العربية بكل فصائلها وألوانها، بدءاً من الوحدة 1958 والانفصال 1961 وحركات الانقلاب القومية اليمن، سورية، العراق، الخ مروراً ببدء انكشاف التناقضات بين السياسة السوفياتية والإيديولوجيا الشيوعية خلال الحرب الباردة، امتداداً الى ذكريات بودابست عام 1956 وصولاً الى ربيع براغ 1968 وحركة الشباب في اوروبا، خصوصاً في فرنسا 1968، الى التجربة الملتبسة للحركة الشيوعية مع حركات تحرير مثل الباسك وأميركا اللاتينية كاميليو توريس وتيار غيفارا في بوليفيا... الخ. ليشرع هذا التحول في التبلور بعد نكسة عام 1967 في فلسطين، بمعناها العربي، الذي وصل الى الوعي العام خالياً من الوحدة الموعودة والتقدم والعدالة المنشودة. إذاً، فالنكسة هي عنوان مكثف لفشل قوى الحداثة والتحديث العربية بكل ألوانها اليسارية واليمينية والوسطية. هنا اخذ الناس الموعودون والعاملون فكرياً وميدانياً من اجل تحقيق الوعود، يعودون الى دينهم من دون ان يكون هناك مثال امامهم للمشروع الديني، إلا في حدود الطروحات القائمة للإسلام السياسي الذي تمثل في حركة الإخوان المسلمين وفروعها المختلفة، والذي وصل الى الأجيال ملتبساً بظروف تشكيله على يد حسن البنا احتجاجاً على التجزئة والاستتباع الغربي، ليعود فيلتبس بالانقسام الى معسكرين شرقي وغربي على المستوى الدولي وبداية الحرب الباردة، ما جعل بعض الأمزجة فيه تبدو كأنها متفاهمة ومنسجمة مع الولاياتالمتحدة الزعيم الغربي الناهض بعد الحرب الكونية الثانية واحتلال فلسطين على اساس الاختيار بين اهون الشرين بين الشيوعية والرأسمالية. وكان الاختبار دقيقاً في المواجهة التي حصلت بين الإخوان في مصر وجمال عبدالناصر الذي كان في حاجة إليهم لتصويب مشروعه ودعمه في مواجهة الغرب، وكانوا في حاجة إليه للدخول في التجربة وتصويب جهازهم النظري بإضافة السياسة منهجياً الى الإيديولوجيا، ولكن الصدام في لحظة حرجة كانت المشاعر العامة فيها مع جمال عبدالناصر شكل علامة سلبية في تاريخ الإسلام السياسي الحركي الجديد. لم تلبث ان اضيفت إليها علامة اشد وضوحاً وإشكالية بعد زيارة السادات القدس وتوقيع اتفاق كمب ديفيد وبداية الحركة في ايران نحو التغيير، حيث اختارت جماعة متوترة من الإخوان اولوية مواجهة الدولة في سورية ما جعل حركة الإخوان مضطرة الى إعادة تصحيح مساراتها على مفصل الثورة الإسلامية في ايران كأمر ايجابي مضافاً الى المفاصل السالبة في حراك قوى التغيير التي اصبحت تقليدية في الدول العربية والإسلامية. بنجاح الثورة الإسلامية في ايران وشروعها في تكوين دولتها ومؤسساتها، وإعلان شعاراتها الأساسية لا شرقية ولا غربية، اليوم ايران وغداً فلسطين وإجراء الانتخابات والاستفتاءات للتأسيس الدستوري، كل ذلك جعل المسلمين عموماً ينتقلون من السلب وخيبة الأمل في الماضي وبالماضي الى الأمل بالمستقبل من دون نسيان الخوف والحذر واستشعار المصاعب... وأخذت ظاهرة الالتزام الديني في الشكل والمضمون تتسع لتشمل قطاعات واسعة من الشباب من الجنسين الذين كانوا مستنكفين سابقاً وحائرين لاحقاً بين قديم ديني غامض حيناً وعصبي حيناً آخر وبين حداثة علمانية مراوغة وأقرب الى الفراغ والتجريد والتسلح بالأفكار التي لا تقوى على اجتياز الامتحان الصعب. عبرت هذه الظاهرة عن ذاتها بالإقبال على المساجد والعبادات الصوم والصلاة والحج والزكاة واللباس الشرعي للنساء والاقتراب من رجال الدين. ولم تتأخر اسرائيل كثيراً في احتلال جنوبلبنان مغتنمة فرصة حرب العراق على ايران، وقاية لنفسها من امتداد تأثير الثورة الإيرانية الى عمقها في جنوبلبنان الأكثري الشيعي والذي احتضن المقاومة الفلسطينية وشاركها في الجهاد وامتلك السلاح ثم اعترت علاقته بالمقاومة بعض الإشكالات، ما جعله قابلاً للاستمرار في المقاومة ضد اسرائيل بشروط ايجابية جديدة ومشجعة، اي تحت اليافطة الإسلامية المكتوبة بخط ايراني ثوري. اكثرية اهل الجنوباللبناني من الشيعة أمر كان من شأنه ان يسهل عليهم الدخول في هذا المتحول غير البعيد عن سلوكهم التاريخي، الى ذلك فإن المقاومة الفلسطينية اصبحت مشرعة اكثر في وجه تعديل مساراتها السياسية والعلائقية الداخلية، ومع حاضنها اللبناني عموماً والجنوبي خصوصاً، وكان فرز عدد من الشباب الإيراني للمشاركة في المقاومة ايذاناً بنمط علاقة فلسطينية - ايرانية من شأنها ان تعيد الجو الى نقائه المطلوب، لولا ان قوى فلسطينية تناغمت مع قوى ايرانية غير متحمسة لهذا المسار الجديد، وتعاون الجميع على إفشال الخطوة في اول الطريق. لكن احتلال الجنوب كان متحولاً آخر، لم يتأثر باستمرار الحرب العراقية على ايران، ليمنعها من المشاركة او المساهمة شبه الحصرية في تأسيس المقاومة ضد الاحتلال، من دون افتئات على حالات يسارية لبنانيةوفلسطينية وشيعية حركة امل ومصادرة شراكتها المميزة في التأسيس، ولكن التوجه الإيراني كان يتعدى مقاومة الرد المباشر الى التعامل مع المستقبل البعيد، اي تحويل المقاومة من رد الى مشروع تحرير، انخرط فيه، بشكل او بآخر، أطراف مختلفون، منهم من تراجع بعدما أبلى بلاء حسناً لظروف خارجة عن إرادته سقوط الاتحاد السوفياتي، في مثال الحزب الشيوعي ومنظمة العمل الشيوعي التي تأخرت عن الحزب في التوقف عن العمليات بسبب علاقاتها العضوية مع القوى الفلسطينية التي اتجهت نحو مدريد. في حين ارتقت مشاركة بعض القوميين بعد العملية الأولى في بيروت الويمبي وبعض البعثيين السوريين وكثيرين من حركة امل الى مستوى العمليات الاستشهادية من دون خلو المشهد من مقاومة صيداوية في اجواء القوى الإسلامية السنّية... ولكن هذا لم يمنع من ان تتحول المقاومة لاحقاً الى شأن شبه حصري بالتيار المتصل عضوياً بإيران ماراً الى لبنان من سورية، وكاد ان يكون حصرياً لولا استمرار حركة امل الى ان احتدم النزاع وطال بينها وبين حزب الله، فأثر على قدراتها في المقاومة التي انحسرت الى المشاركة المحدودة وبدعم ايراني وتشجيع سوري مرة اخرى. إذاً، وبعد الاحتلال وعلى وعد بالمقاومة، مال الشيعة المتضررون دائماً من اسرائيل، الى النهج الإيراني بشكل واضح، غير ان ايران لم تلتفت بشكل كامل الى ضرورة وحدة الشيعة، او التفتت ولكنها عملياً تأثرت بالانقسام الشيعي السياسي بين المنجز المرتبك بغياب المؤسس حركة امل وبين الناهض على شروط سلبية وإيجابية مشجعة حزب الله... ما جعل الفتنة بين حزب الله وحركة امل تصيب الشيعة بجرح عميق، لتعود الأمور بعد خسائر جسيمة الى نصابها، واستقامت المقاومة وانتهت الى التحرير تحت ظل المرجعية الدينية الشيعية بمفهومها الواسع... اي غير الشخصي او الشخصاني. وبعد الصلح بين حركة امل وحزب الله اصبح ممكناً إدخال التغييرات العميقة في حركة الشيعة وعلاقاتهم بالآخرين في لبنان وفي خطابهم السياسي. كل ذلك نقل المقاومة من كونها اجتراحاً الى كونها رافعة وطنية جعلت كل اللبنانيين يلتفون حولها، وجعلت الدولة اللبنانية بكل ألوانها من الموالاة الى المعارضة تعتبر المقاومة شأناً وطنياً ملزماً للجميع... وكان الاختبار ساطعاً في عدواني 1993 و1996 واتفاق نيسان ابريل الذي دخلت فيه المقاومة تتويجاً لشراكتها في مؤسسات الدولة منذ عام 1992 من خلال مجلس النواب وتجاوزها لكل الإشكالات العميقة مع الدولة الجيش تحديداً وأظهر الشيعة حزب الله وحركة امل ميلاً واضحاً الى التفاهم الإسلامي مع السنّة من دون ان يعني ذلك ان الاضطراب في العلاقة مع رئاسة الوزارة مثلاً، انتهى، ولكن لم يعد يهدد العلاقة في عمقها. وعلى المستوى المسيحي دخل الشيعة، حركة امل وحزب الله، على خطى القوى الشيعية المستقلة والمتزنة والمتوازنة والمنفتحة بشجاعة على الحوار، دخلوا في مسيرة الحوار الذي لا تتحقق صدقيته من دون المرور بالقوى المسيحية الفاعلة وعلى رأسها بكركي، ما انتهى في الفترة الأخيرة الى تأكيد صوابية خيار الحوار في العمق بعد الحراك المسيحي الدولي وتجليه في لبنان بصورة ساطعة حول العدوان على العراق. الى ذلك فإن استمرار المقاومة ووصولها الى التحرير مع حضور شيعي غالب في مشهدها، كان سبباً كبيراً من اسباب تماسك الشيعة على وعي وطني إسلامي وقومي وإنساني، جعل احترامهم ينتشر في اوساط العرب والمسلمين، شعوبهم ودولهم من دون استثناء، ولكن هذا الاحترام كان يترافق مع خوف خفي مفكر فيه بصمت وبجهر احياناً، من قوة الشيعة وتناميها في لبنان وامتداد تأثيراتها الى الشيعة في البلاد العربية والإسلامية ذات الأكثرية السنّية أو الشيعية العراق مثلاً. اثناء هذه الحركة، كانت هناك مواقع فكرية وفقهية لبنانية الشيخ محمد مهدي شمس الدين من دون تقليل من اهمية حركة السيد محمد حسين فضل الله، ومن دون اهمال لحركة حزب الله وحركة امل، ومع التأكيد الشديد على فاعلية الحواريين المستقلين من رجالات الشيعة الدينيين والمدنيين هذه المواقع، والشيخ شمس الدين بخاصة، كانت مشغولة بالتأهيل الفقهي للحراك الوطني الشيعي والقومي الإسلامي، حتى لا يبقى التوجه الاندماجي عرضة للتقلبات السياسية وليصبح حاكماً عليها في المستقبل. من هنا دعا الشيخ شمس الدين حركة امل وحزب الله الى ان ينتقلا من المقاومة الى المشروع السياسي، ومن الشيعية، الى الوطنية. ارتقى الشيخ شمس الدين في طرحه لهذا النهج الى اقتراح الدولة المدنية صيغة للحياة السياسية والاجتماعية اللبنانية من دون ان يكون ذلك مساساً بوجود وحضور الطوائف كمتحدات اجتماعية وثقافية يجب الحفاظ عليها حفظاً للاجتماع والكيان والدولة والدين والمتدينين، ولعل ما يدل إلى ان منهجية الاجتهاد الاعتدالية الشيعية هي المصدر الاول لهذه التكييفات الفكرية للأوضاع المستجدة... ان تزدهر في ايران الدعوة الى مجتمع مدني، ما يعني ان الشيعة يجدون اساساً في المدينة او المدنية او المدني، اي عدم الفصل بين الديني والمديني، ومن دون الغاء للديني بالمدني او المدني بالديني. اي من دون اسلاموية معيقة ومن دون علمانية فالتة. هذا في الايجاب... اما في السلب، اي ما لا يمكن تجاهله من السلبيات، فإن اهتمام ايران ببناء المقاومة ومجتمعها دفعها الى استخدام حجمها وعلاقاتها وامكاناتها الدينية والمالية في بناء حال حزبية غنية ومكتفية ومترفة احياناً في زمن الفقر والحاجة وانفراط عقد الطبقة المتوسطة والبطالة والهجرة والعودة الفاجعة للمغتربين من افريقيا... ما جعل هذه الحال الحزبية تستقوي على المجتمع وتطمح باختزاله ومصادرته وتعطيل قوى فاعلة ومخلصة فيه لأن مزاجها السياسي غير مطابق تفصيلياً لمزاج الحال التي اعتمدت كلياً على السياسة بمعناها الحرفي والبراغماتي وغلبتها على الخطاب الديني والعلاقات الدينية التي هي الرافعة الاولى ل"حزب الله" بحسب المعطى النظري المسموع والمرئي. فتضافر المال مع السلوك الامني والاعلامي والدعاوي والإلغائي والاقصائي والتكفيري احياناً تهميش رجال الدين المستقلين بصرف النظر عن تاريخهم وعلمهم وثقافتهم واحجامهم ومواقعهم في قلوب الناس ووعيها، وتقوية رجال الدين الشباب الذين يفتقرون الى شيء من عمق الاحساس بالعلائق الحوزوية وفرادتها وقدرتها على تنظيم الاختلاف والخلاف وعدم الصعود به الى مستوى التناقض والتناحر... ذلك ان الشباب من رجال الدين انما ذهبوا الى الحوزة من الحالة فهم محكومون بها اذاً ومن دون اعتراض او نقاش وبصرف النظر عن الاهلية العلمية، ما جعل الكثيرين لا يرون فرقاً بين الحال الاسلامية في جعل الولوية للتحزب على غيرها، وبين احزاب علمانية او احزاب قامت على التخريب والتعصيب والنبذ في لبنان وغيره... ولم يسلم من مضايقات الحال الحزبية إلا رجال الدين الموظفون قضاة ومفتون ما جعل كثيرين من المستقلين المحاصرين يندفعون باتجاه الوظيفة ويتواصلون مع حركة أمل باعتبارها حركة وازنة ادارياً في ما يعود الى الوظائف الرسمية في الدولة من دون ان يغفل "حزب الله" عن ذلك، فعاد اخيراً الى الحاحه على مقاسمة حركة امل وظائف الدولة الدينية وان بنسبة ضئيلة وطبقاً لمعايير محض حزبية. اصبح الشيعة ومن خلال دخولهم القوي والواسع في مؤسسات الدولة اللبنانية وادارتها، بناء على الدعم الايراني والعناية السورية استناداً الى انجاز المقاومة والتحرير، في حال من الاشباع السياسي، ما جعل رجال الدين عموماً يتباطأون في اداء دورهم الاجتماعي الموصول بالشأن الديني، وقد اسهم تحزب رجال الدين في اعاقتهم عن اداء هذا الدور، الذي يقتضي علاقات مفتوحة مع الجميع، اي علاقات غير حزبية، ما ادى الى انتشار ظواهر وحالات اجتماعية صعبة، كانت تعالج سابقاً من خلال التعاون بين رجال الدين وجماعات المجتمع الاهلي التي همش دورها وألغي في كثير من الحالات، من دون قدرة الاحزاب او نيتها في انتاج اجتماع اهلي حيوي بديل لأنه يؤثر على دورها وقوتها، ما يجعلها تفرز من داخلها بديلاً غير مقبول الا من الانصار والمحازبين ودوائرهم الاجتماعية، او استتباع ما يتشكل من جماعات اهلية جديدة حيث يؤدي ذلك الى افشالها. هل يصلح هذا الكلام دليلاً او مؤشراً على ضرورة ان يكون الايرانيون في علاقتهم بالوضع العراقي اشد تدقيقاً لأن وضع العراق اكثر دقة وتعقيداً من غيره، خصوصاً في الجانب المتصل بايران؟ كان يمكن سابقاً لانتفاضة الجنوب والوسط العراقيين عام 1991 وبعد اخراج النظام العراقي من الكويت، ان تؤدي الى تغيير معقول لولا ان الاميركيين اكتشفوا ان بقاء النظام العراقي اضمن لهم، وهو بدوره، النظام ورئيسه، سارع الى اعطائهم كل شيء من اجل منع الانتفاضة من الاستمرار. هذا في الواقع... اما في بعض التحليلات فإن هناك من قال وكتب مؤكداً ان الدخول الايراني على خط الانتفاضة هو الذي غير في معادلة علاقة النظام بالاميركيين... لأن الاثنين وَجَدا في المسألة خطورة شديدة، وكانت حجتهما ان بعض المؤسسات الايرانية الشعبية او شبه الرسمية ومن دون قرار رسمي مركزي بادرت الى ارسال انصار لها من العراقيين مزودين بصور وشعارات محض ايرانية او عراقية - ايرانية وشرعوا في ممارسات تدل الى انهم يعدون انفسهم بالسلطة العراقية... مهما يكن الأمر فإن ايران في تعاملها مع الازمة العراقية لم ترتكب اي شبهة حتى الآن، بل اقدمت على خطوات واجراءات تدل إلى اختيارها للحكمة والتروي، من دون خلاف بين المحافظين والاصلاحيين على هذا الامر، وذلك، بعدما كانت ايران سمحت للمجلس الاعلى للثورة الاسلامية في العراق، بارسال ممثلين الى اجتماع واشنطن ولندن ولقاءات اربيل وحمتهم من النقد القاسي والتخوين من بعض اطراف حزب الدعوة، عادت لتمارس دوراً اكثر حيطة، فأثرت على فيلق بدر الذي كان هناك من يدفعه الى مشاركة قوات التحالف في القتال ضد النظام العراقي، وأثرت على السيد محمد باقر الحكيم الذي لم يتوجه الى العراق حتى الآن، املاً بصفاء الوضع ووضوحه وتجنباً للانخراط في جو الامتداد الاميركي في جماعات المعارضة. صرح السيد عبدالعزيز الحكيم اكثر من مرة باعتراضات على السلوك الاميركي والنيات الاميركية عن مستقبل العراق السياسي. وامتنع السيد عبدالعزيز نفسه وبتوجيه من اخيه عن المشاركة في مؤتمر الناصرية لشبهات قائمة حوله. جاء ذلك متناغماً مع حركات شعبية عفوية ومنظمة وعشائرية ألحت على مناصرة الحوزة والمرجعية والدعوة الى الامتثال للقيادة العلمانية ممثلة بالمراجع على قاعدة الاستقلال والسيادة والمساواة بين النظام والولاياتالمتحدة، ما يمكن تعديله لاحقاً اذا كانت الولاياتالمتحدة، كأمر واقع وقوي في العراق، على استعداد للتقليل من حماقاتها وميلها الى المصادرة والتحكم السياسي والاقتصادي والاداري والهيمنة على الحوزة في النجف لتهميش دورها والغائه والغاء القوى الشعبية المتصلة به، كما حدث في تمكين الغوغاء، من قتل السيد عبدالمجيد الخوئي، ومحاصرة المرجعية وتهديدها بالترحيل، وما اغضت القوات الاميركية طرفها عنه من ارتكابات مشينة من شأنها ان تعمق احقاد العراقيين على بعضهم بعضاً. اذاً فهناك مؤشرات على وحدة شيعية عراقية تحت ظل المرجعية من جهة، وهناك استعداد شيعي وسنّي للتوحد في مواجهة الاستحقاقات بعقلانية ووعي، وهناك تأكيد على ضرورة التفاهم الكردي - العربي - التركماني، ترسيخاً للوحدة وتجنباً للتجزئية والفتنة والعنف العشوائي المركب. ان هذه الامور تعتبر اضاءات امام الموقف الايراني الذي لا بد من ان يكون منسجماً مع الارادة العراقية العامة ومع مصلحة العراق في الوحدة والسيادة ولو بعد حين، ما يستدعي توظيف امكانات ايران السياسية والمالية والدينية في هذا السياق. مع قراءة متأنية للتجربة الصفوية والقاجارية والعثمانية في العراق، والتي كان العراق اثناءها يتوحد ويزدهر ويأمن كلما كانت الديموقراطية منتعشة في اسطنبول وطهران وكان الحوار بينهما عميقاً... وعندما كانت تتأزم بين الدولتين، كان علماء النجف يبادرون الى موازنة الامور. ومرة، عام 1009ه ارسل المراجع والمجتهدون رسالة الى السلطان العثماني محمد رشاد بلغوه فيها تأييدهم له وانحيازهم اليه وأحكامه لرأيه بعدما اعلن عن التزامه بتطبيق الدستور في مقابل الشاه القاجاري الذي تنكر للحركة الدستورية وأصر على سلطته المطلقة... والآن تركيا اكثر ديموقراطية من الماضي، وايران تتجلى ديموقراطية وحواراً، وتفاهماتها مع الدول العربية المعنية في العمق من مصر الى السعودية الى الخليج الى سورية ما يعني انها قادرة، بموقعها التاريخي في الوجدان الشيعي، وانفتاحها على الاكراد والسنّة، ان تسهم في توازن العراق على اساس ديموقراطي تعددي وحدوي، يأخذ فيه الشيعة دورهم المسؤول على اساس تقديرهم الذاتي لظروفهم وأوضاعهم وبدعم ايراني، ومن دون اوهام بالغاء اي طرف مكون من اطراف الاجتماع العراقي شديد الحساسية. لقد كان المال الايراني باستمرار وفي الظروف الصعبة خصوصاً سبباً كبيراً من اسباب استقلال الحوزة العلمية في النجف وفاعلية دورها وازدهارها العلمي. والجميع الان ينتظرون ان يكون المال الايراني الشعبي والرسمي، سبباً من اسباب نهوض النجف الى دورها المنتظر كجامع يجمع عناصر العراق المختلفة تحت سقف الوحدة والتوحيد والحوار الدائم. من اجل ان يسلم ما تبقى من العراق، ولا يتحول العراق الى مصدر قلق لجيرانه وأعماقه... على ان وحدة العراق هي الاحتياط الذهبي لوحدة المسلمين في هذه اللحظة الحرجة. كانت الثورة العابرة للحدود والوقائع هي الكامنة وراء مواقف ايرانية لم يلبث وعي الدولة الايرانية، او وعي الثورة في الدولة، ان بدلها الى ما هو اصوب وأنجع وأقل تبعة ما ساعد القوى الشيعية على التفكير بالحوار، الذي بقي متقطعاً الى ان تحرك الشارع الشيعي البحريني بقيادة قواه السياسية الاسلامية المنظمة، فعجلت ايران الى التعبير عن عدم نيتها في احتضان هذا التحرك ما اسهم في تنشيط الحوار الذي انتهى بالمعارضة والمصالحة والدستور والعفو والعودة الى المؤسسات البرلمان والمجالس البلدية وحرية الصحافة والتعبير... وفي لبنان ارتاحت ايران واستقر احترامها في عقول وقلوب جميع اللبنانيين ومن دون جدال عندما تلبنن "حزب الله"، اي اخذ يتعاطى مع الشأن اللبناني بما يناسبه وعلى اساس ان اهل مكة ادرى بشعابها، وبرضى ايراني تام، عمق حضور ايران في جسم الحزب والجسم الشيعي من دون ان يكون الشيعة في وجه الآخرين... وارتاح لبنان وتعاظمت المقاومة وأنجز التحرير. اذاً فشيعية عراقية تسهم في تعريف او عرقنة الوضع العراقي على اساس مشروع وطني، لن يؤدي الى اضعاف فاعلية ايران في العراق، بل يؤدي الى جعلها فاعلية سليمة ومقبولة من الجميع. ان التفاوت والتفاهم الذي تتوالى تعبيراته على ايقاع الاحداث والتحديات واعادة النظر بالسياسات والعلاقات بين ايران والدول العربية وغيرها من اوروبا الى باكستان وأفغانستان وتركيا ومصر والسعودية والكويت والامارات والبحرين وعمان والمغرب وغيرها... وبعد اللقاء التوافقي الذي حصل في تركيا قبل الحرب على العراق والذي يقدر المراقبون ان المجتمعين طرحوا فيه تنحي صدام حسين اسقاطاً للذرائع وتحرك بموجبه عبدالله غل رئيس الوزراء التركي وقتها... الى اللقاء الذي عقده في الرياض للبحث في مستقبل العراق بمشاركة تركية - سعودية وسورية وايرانية... كل ذلك من شأنه ان ينتج رؤية مشتركة تتيح للجميع وتلزمهم بالتعاون على التعامل مع واقع العراق ذي الدلالات الخطيرة اقليمياً تلافياً لمزيد من الخطر على العراق والمنطقة وهذا ما نادى به البعض منذ زمن بعيد... اي المشروع الاسلامي العربي لتفادي الكارثة العراقية وما جعلته الاحداث الاخيرة اشد الحاحاً وضرورة. * كاتب ورجل دين لبناني.