هناك فئة قليلة من الفنانين، اختارت طريقة حياتها بملء ارادتها، عابرة فيها كل ما يصادفها من صعوبات، في سبيل الموسيقى شغفها الأول والأخير. عازف الكمان البريطاني والمدير الفنّي لأوركسترا الحجرة البولونية نايجل كينيدي هو واحد من هؤلاء"المناضلين"الذي غامر ليقدّم طريقة جديدة في عزف الموسيقى الكلاسيكية، خالعاً عنها الهالة الجامدة لتُصبح أكثر حيوية. ويبدو أن المغامرة من سمات شخصية كينيدي الأساسية، إذ أبى أن يُلغي حفلته التي كان من المقرّر إقامتها ضمن فعاليات مهرجانات بيت الدين، وأصرّ على المجيء إلى لبنان على رغم الظروف المتوترة، محوّلاً اتجاهه من الشوف حيث عزف منذ 3 سنوات إلى بيروت التي أحيا فيها ليل أول من أمس حفلة صاخبة وساحرة، عاد ريعها لمركز"سانت جود"لسرطان الأطفال. يبدو أن الخمسيني الذي يُعدّ بين أهم خمسة عازفي كمان في عالم الموسيقى، كان واثقاً مسبقاً من نجاح حفلته في قاعة"ميوزك هول"وسط بيروت التي خصّصها لنوعي الجاز والبلوز، مبتعداً هذه المرّة عن الموسيقى الكلاسيكية التي اشتهر بتأديتها في شكل متقن وجذاب، ودخل اسمه من خلالها موسوعة"غينيس"للأرقام القياسية كأكثر عازفي الكمان الكلاسيكي مبيعاً في العالم. واختار أن يقدّم لجمهوره الذي بدا له في العام 2004 متعطّشاً لموسيقى حيوية ارتجالية كالجاز والبلوز، حفلة مميّزة يُطلعهم فيها على ما توصلت إليه خبرته في أسطوانته الأخيرة التي صدرت في العام 2006 بعنوان"Blue notes sessions"والتي تعذّر على اللبنانيين شراءها وبالتالي سماعها، بسبب غياب شركة توزيع في بلادهم مخصّصة لنوع كهذا من الأعمال الموسيقية. عاد كينيدي برفقة فرقته الجديدة"نايجل كندي كوينتت"التي شكّلها منذ فترة قصيرة، من أربعة عازفين بولونيين هم على التوالي، بافيل دوبروفولكسي درامز، آدم كوفالفسكي باص، بيوتر فيليزول كيبورد، وتوماس غرزيغورسكي تينور ساكسوفون. عزف وإياهم أكثر من 10 قطع موسيقية من تأليفه، متفاوتاً في أدائه الارتجالي، حيث غاص في الإيقاع في بعض المقطوعات التي عزفها من تلحينه، ما كبّله عن الارتجال وهو الميزة الأساسية لموسيقى الجاز. لكن المقطوعات جاءت ضاجة وصاخبة، تخلّلتها هنيهات حنان متناهية. فهناك طابع غريب يحكم موسيقى كينيدي، خصوصاً في تلك القطع الموسيقية التي اختارها من أسطوانته الأخيرة. طابع يجمع بين الحنين والحيوية المطلقة، ما جعل الجمهور يشعر وكأن زلزالاً يطلع من تحت كراسيه، خصوصاً عندما عزف قطعة"إنفادورز"أو مجتاحون التي وجّهها الى الرئيس الأميركي جورج بوش. ضجّ كينيدي فرحاً على المسرح، بلغ حدّ النشوة. فهو دائم الحركة، مفعم بالحيوية. تواصل مع مستمعيه عبر الموسيقى، وبين المعزوفة والأخرى يحدّثهم بانكليزية بريطانية غير مألوفة على الأذن اللبنانية. لم يُحدّثهم عن الموسيقى، بل عن ابنه وعن زوجته وعن امتعاضه من التسوّق. وبدأ ينشد الشعر المترافق مع الموسيقى، قائلاً:"زوجتي تذهب للتسوّق كل يوم...". قسّم كينيدي أمسيته إلى ثلاثة أجزاء، خصّص معظم معزوفاته في الأول والثاني لمقطوعات من أسطوانته"بلو نوت ساشنز"، أما الأخيرة فكانت مفاجأة للجمهور أعلن عنها كينيدي قبيل الجزء الثالث، عندما قال:"سأعود بعد 10 دقائق وبرفقتي عازفون لبنانيون محترفون". فعاد كينيدي برفقة سمراء لبنانية جذابة لوّنت المسرح بفستانها الساتان الأحمر الطويل، وسحرت الجمهور بصوتها الجهوري الرخيم بعد أن أدّت أغنيتين، الأولى"I feel good"لجيمس براون، والثانية"so what"للموسيقار والمغني الأميركي مايلس دايفيس، على وقع موسيقى الجاز التي عزفتها فرقة نايجل كينيدي واللبنانيون عيسى غريب وفؤاد غريب وهاني العلايلي، وعازف الساكسوفون الأميركي المقيم في لبنان توم هورنيغ. أما ختامها فكان مسكاً، مع عزف المجموعتين مقطوعات للموسيقي والمغني الأميركي جيمي هاندريكس. يذكر أن كينيدي أحيا حفلة خصّصت للأطفال المصابين بالسرطان في مركز"سانت جود"في بيروت، استمرّت ساعتين مساء الأربعاء الماضي.