تصالحت الأجيال أول من أمس في مدينة جبيل! فبعدما"فرّقها"مغني الشباب فرانسيس كابريل الذي استقبلته المدينة الشهر الماضي، ها هي الأميركية السوداء بربارا هاندريكس تصهرها من جديد تحت بوتقة عشق الجاز. إذا، كانت بيبلوس على موعد مع الضيفة الثانية في مهرجانها الدولي، مغنية آتية من مسيرة فنية طويلة في عالم الأوبرا يرافقها رباعي السويدي ماغنوس ليندغرين الحائز جائزة"غرامي"والذي حصد تقدير مهرجان مونترو السويسري لموسيقى الجاز. "دشّن"ماغنوس ليندغرين مع الساكسوفون خشبة المسرح. ثم تبعته الفرقة كونترباص - درامز - بيانو لتؤدي مقطوعة موسيقية من تأليفه بعنوان"بوهو"لاقت استحسان الجمهور الذي راح يصفّق طويلاً قبل أن يقاطعه ليندغرين ليقدّم على وقع الطبول - صاحبة الصوت النقي بربارا هاندريكس. اعتلت الخشبة بفستان أسود بسيط وتوجهت إلى الجمهور باللغة الفرنسية..."سنغني هذه الليلة لعمالقة الجاز بيلي هوليداي وديوك الينغتون!". وإذا كانت هاندريكس قرّرت غناء هذا النوع من الموسيقى، فإن صوتها أبى إلا أن يطعّم باقات البلوز بنكهة السوبرانو التي كانت واضحة من أول أغنية أدتها للأسطورة بيلي هوليداي أو"اللايدي داي"كما كانوا يسمونها. وليس هذا غريباً، فهذه الخمسينية، جسّدت 20 شخصية أوبرالية تنوعت من موتسارت إلى الكلاسيكيات الفرنسية، وعملت مع كبار قادة الأوركسترا العالميين بعدما تتلمذت على يد الأميركية الروسية الأصل مغنية الميزو السوبرانو جيني توريل. أما الجمهور ومن الحضور الرسمي السيدة اللبنانية الأولى أندره لحود، رئيس الوزراء اللبناني فؤاد السنيورة، ووزير الثقافة طارق متري فاستقبل أغنية Billie Blues بتصفيق حار تلاه صمت وخشوع. ساعة كاملة من البلوز أدّت خلال باقات معروفة من"الرجل الذي أحب"The man I love مروراً بپ"سانت لويس بلوز"Saint Louis Blues و"لا تشرح" Don"t explain وانتهاء ب"ليبارك الرب الفتى"God bless the child التي كتبتها هوليداي مع ارثر هيرزوغ. وكان جلياً تفاعل هاندريكس مع الموسيقى عبر تمايلها"المدوزن"مع الإيقاع، وتأثرها بالأضواء البعيدة التي عبّرت عن جمال مشهدها عندما توجهت إلى جمهورها الذي كان يترنّح على إيقاع الموسيقى ويصفّق عندما يذهب به الانفعال عميقاً. ويمكننا القول إنّ الانفعال كان كبيراً، فالجمهور الذي أسره صوت هاندريكس النقي، لم يستطع إلا أن يعبّر عن هذا الانفعال، فراح يصفّق طويلاً عندما استعانت بقدراتها الأوبرالية لتضيف نكهة خاصة على الأغنية التي تؤديها، وراح يصمت وينصت منتبهاً لدى تعاقب الآلات الموسيقية من ساكسوفون ليندغرين إلى البيانو فالكونترباص. وكان لافتاً أنّ هاندريكس لم تشأ ترك جمهورها"وحيداً"، فراحت تحاوره بين الفينة والأخرى، تحدّثه عن هذا البلد الذي تعشقه وتعشق استقباله الحار، تحدثه عن البلوز الذي هو"موسيقى الألم والحب والسلام أيضاً"فيما الجمهور هادئ ينصت الى كلماتها. ولم تقتصر باقتها الغنائية على البلوز التي زادتها حزناً كلارينيت ليندغرين، بل حيّت جورج غيرشوين الذي أحدث ثورة في عالم الجاز عبر مزجه مع الموسيقى الكلاسيكية. غنّت"الصيف"Summertime و"سيّدتي كوني لطيفة"Lady be good و"هذا رائع"It s wonderful. كما تركت الفرقة الموسيقية لتعزف مختارات لديوك الينغتون منهاsophisticated lady وCaravan. هذه المغنية الخمسينية جعلت من فنها جسر عبور ورسالة سياسية وإنسانية: هي مدافعة شرسة عن حقوق الطفل والمرأة واللاجئين، كرست 15 عاماً من حياتها في خدمة اللاجئين وعيّنت سفيرة شرف مدى الحياة للجنة العليا للاجئين، وهي عضو مجلس إدارة في المحكمة الدولية لحقوق الطفل التي تحقق في الانتهاكات الحاصلة ضد الطفل. وأخيراً وليس آخراً، هي صاحبة مؤسسة"بربارا هاندريكس للسلام والمصالحة"ونالت الكثير من الجوائز لإسهاماتها الفنية والإنسانية. نحن الآن في عام 1993، وتحديداً في مدينة سراييفو الواقعة تحت الحصار، لكن ها هي اللؤلؤة السوداء تتحدى القنابل والنيران، تضع السترة الواقية من الرصاص تجول الشوارع... وتقيم حفلة تغني فيها للسلام!