من أفضل العروض التي قدمها مسرح المدينة في بيروت هذه السنة، عرض سيمون شاهين وفرقته. وهو ثاني لقاء بين شاهين وجمهور بيروت. واستمعنا فيه الى رباعي عود وناي فلوت وكونترباص غيتار باص وايقاعات، في تسع معزوفات، على مستوى نادر من البراعة والاتقان والرقي، مقرونة بحساسية شفافة وروحانية لم تستطع مقتضيات البراعة أن تقصيها مثلما يحدث عادة. ولد سيمون شاهين سنة 1956 في بلدة ترشيحا الفلسطينيةالمحتلة، لوالد موسيقي هو حكمت شاهين، عازف العود والملحن وأستاذ الموسيقى في فلسطين. وكان قد تعامل مع حليم الرومي وفلمون وهبي حين كانت إذاعة الشرق الأدني في فلسطين قبل 1948. ومع هذه النشأة العربية الخالصة، بدأ سيمون يتعلم منذ السابعة العلوم الغربية الموسيقية في المعهد الموسيقي، فدرس العزف على الكمان والموسيقى الكلاسيكية الأوروبية، وتخرّج من أكاديمية الموسيقى في القدسالمحتلة، وعيّن أستاذاً لتدريس الموسيقى العربية سنة 1978. ثم انتقل الى نيويورك سنة 1980، حيث أنهى دراسته العليا في الأداء الموسيقي، في مدرسة مانهاتن الموسيقية، وهي من أعظم معاهد العزف في الغرب، ثم حاز شهادة دكتوراه في علم الموسيقى والتربية الموسيقية في جامعة كولومبية في نيويورك. وعزف في أرقى المسارح في الولاياتالمتحدة. وقد بدأ قبل سنتين رحلاته العربية، فقدم حفلات في مسرح المدينة، ثم زار أوبرا القاهرة. له ألحان عديدة واسطوانات وأشرطة أخذت تنتشر في الوطن العربي، وبين العرب في الخارج. ودرّس الموسيقى في جامعات هارفرد وبرنستون وييل وكولومبية وواشنطن وغيرها. يتكوّن الرباعي الذي يعزف مع شاهين عادة، من بسام سابا عازف الفلوت والناي اللبناني، وجامي حداد عازف الإيقاعات الأميركي اللبناني الأصل، وعازف كونترباص لم يتمكن من الحضور هذه المرة، فحل محله عبود السعدي عازف الغيتارباص اللبناني المقيم في بيروت، وعازف الكونترباص الأميركي جاك كريغ المقيم في بيروت أيضاً. وبسّام سابا يعزف على الناي والفلوت والعود والكمان بالبراعة والحساسية ذاتهما تقريباً. لكنه لا يعزف في الغالب مع فرقة سيمون شاهين إلا على الناي والفلوت. أما جامي حداد فهو لبناني الأصل مولود في الولاياتالمتحدة ويحتل مكانة مرموقة في الجاز والموسيقى الحديثة في الغرب. وهو يعزف الآن مع سيمون شاهين، وربيع أبي خليل الموسيقي اللبناني المقيم في المانيا، وعدد كبير من الفرق الشهيرة التي أقبلت على التعاون معه بسبب إحساسه الإيقاعي المتفوق وروحه الخلاق في ابتكار الإيقاعات وآلات الإيقاع أيضاً. عبود السعدي هو عازف الغيتار - باص الذي تعزفه مسارح بيروت ومرابعها الموسيقية منذ سنوات، وخصوصاً مع زياد الرحباني. السهرة الموسيقية في القسم الأول من السهرة عزفت الفرقة خمس معزوفات، بعدما اعتذر سيمون بسبب غياب العازف الرابع الأصيل في الفرقة، وأشاد بالسعدي وغريغ اللذين قال انهما استطاعا أن يسدا الفراغ في يومين من التدريبات. 1 - رقصة المتوسط: افتتاح ثم تقاسيم على العود ثم الفلوت ثم الكمان. وهي رقصة ألفها شاهين ومقامها الكورد، إلا أنها مرت على النوى أثر والراست والعجم واختتمت ختاماً لا مقامياً غريباً ومسرحياً مؤثراً. 2 - سماعي سوزدل: تأليف سيدات أوزتو براك، على العود والناي والباص، ومن دون إيقاع. تستمد معزوفة السماعي اسمها من ايقاعها: السماعي. ولذا كان تحدياً أن تعزف السماعي من دون آلة إيقاع. إذ تولت الآلات الموسيقية الثلاث النبض الإيقاعي بوضوح شديد. 3 - تقاسيم على العود: مقام نهاوند لسيمون شاهين وفيه استخدم كعادته قدرته الكاملة على امتلاك ناصية المقامات ومداخلها ومخارجها. فكان يبدأ بالبياتي ويختم بالنهاوند، أو يضرب مقام العجم فوق، وينزل الى الراست، ويتحول بسهولة وسلاسة الى الصبا، وهكذا. في عود سيمون شاهين وتر سادس غليظ يستخدمه كثيراً في إغناء القرارات. ويكثر شاهين من استخدام أسلوب "الرش"، وهو من سمات المدرسة المصرية في العزف، مما لا نسمعه كثيراً في المدرسة العراقية. ويمتاز سيمون في ألحانه وفي تقاسيمه أيضاً، بجدلية محيّرة نظرياً، لكنها ممتعة للسامع. فموسيقاه في المضمون العام تقليدية المزاج والمقامات، لكن سككه المقامية غير خاضعة لتوقعات مسبقة، لأنه خلاّق جداً في التفكير الارتجالي. وهو يدخل المقامات من أبواب غير متوقعة في مواضع غير معهودة. 4 - لونغا نهاوند: لمرسيل خليفة، كان خليفة أرسلها الى سيمون منذ أسبوع، فأدرجها في برنامجه. وتضمنت ارتجالاً على العود ثم الباص، وأخيراً الكمان. وقد تميّز عزف سيمون فيها، كالمعتاد، ببلوغ أعلى مراتب البراعة والاتقان والذوق الراقي الذي بات عملة نادرة للغاية في موسيقانا هذه الأيام. كذلك تميزت اللونغا بخاتمتها المسرحية المثيرة. 5 - موضوع موسيقى وتنويعات. وهي معزوفة ألفها شاهين على موضوع لحن جملة: يا عيون قلبي يا أحلى عيون، من أغنية محمد عبدالوهاب الرائعة: من غير ليه. وقد ألف سيمون المعزوفة للأوركسترا الكبيرة، فاستخدمها برتولوتشي موسيقى تصويرية لأحد أفلامه. وتحولت في السهرة الرمضانية الى معزوفة للرباعي: ايقاع وكونترباص وعود وفلوت. وطبيعتها تعبيرية مبرمجة ذات مشاهد متعددة ومتنوعة. وبعد استراحة، عاودت الفرقة تقديم القسم الثاني من السهرة، وقد تضمن: 6 - ارتجال ايقاعي، لجامي حداد. وقد بدأه عازف الإيقاع المبدع هذا بضرب خفيف على قرعتين مقلوبتين من المعدن، إحداهما مفتوحة فتحة في مساحة فتحة فنجان القهوة. فكان حداد يقفل الفتحة براحة يده ليسحبها، محدثاً في القرعة فراغاً هوائياً وصوتاً مموّجاً، يرافق صوت الضرب الهامس على القرعة الأخرى. وأوقف حداد الضرب على القرعتين ليبدأ الضرب على آلة إيقاع أخرى، لكن صوت القرعتين ظل مستمراً، ليكتشف الجمهور أن حداد يستخدم تقنيات الكترونية خاصة، لعله ابتكرها بنفسه لحاجته الخاصة. وقد سمحت له هذه التقنية بإطلاق ايقاع معين على الآلة الأولى، لينصرف الى آلة ثانية ثم ثالثة ثم عاشرة، حتى تراكمت الأصوات بعضها فوق البعض في بوليفونيا ايقاعية متصاعدة متأزمة، بلغت الذروة في ختامها، وأحدثت حماسة عارمة لدى المستمعين. 7 - استهلال من مقام هزام، لسيمون شاهين، معزوفة هادئة، تتكون من إيقاعات وميزان على العود، تشكلت منها فرشة موسيقية، لينصرف الناي الى تفريدات موسيقية دافئة، روحانية ساحرة. 8 - الصلاة، معزوفة لسيمون شاهين، تتضمن تقاسيم على الكونترباص ثم الكمان ثم الفلوت. مغرقة في التعبيرية، ويبدو أنها موسيقى تصويرية مبرمجة، مما لا يتحمس له جمهور الموسيقى العربية في بيروت. وهي تتصاعد في إيقاعها، ويدخلها الضرب على الطار الكبير. 9 - القنطرة، معزوفة ألفها شاهين في بلدة القنطرة الإسبانية شمال مدريد. وهي واضحة المعالم في تأثرها بالجو الإسباني. ومقامها الحجاز غير المحتوي على "أرباع" الصوت. وذكّرنا أسلوب عزفها بأساليب الغيتار الكلاسيكي. في هذه المعزوفة بدأ العزف تقاسيم على العود ثم دخل الإيقاع والفلوت والغيتار باص، وعرّج اللحن والإيقاع على ما يشبه "البازو دوبلي" الرقصة الإسبانية ثم فرّد الفلوت مع ميزان مرافق عزفه الآخرون، وأذّن فيه سابا على الناي. ثم فرّد شاهين على العود مع ميزان، في تشكيل موسيقي رائع، يمكن اختصاره بأنه جاز عربي - إسباني.يبدي سيمون شاهين تفوقاً في العزف في "الأوضاع" على الأوتار العالية، بقدرته على الاحتفاظ بالرقة والحنان على نحو غير معهود. وقلّما نسمع عزفاً عربياً على الكمان مثل عزفه، باستثناء قلة، منها العبقري الراحل أنور منسي، والمرحوم يعقوب طاطيوس وعطية شرارة وابنه حسن شرارة وعبده داغر في مصر. وعزفه على العود يمتاز بهذه السمة أيضاً. أما مضمون تقاسيمه فيظل مقامياً في الأساس، لأن المقام أساس فلسفة الطرب العربية، وهو أساس النسيج الإرتجالي عند سيمون. فإذا خرج على المقام، فإنما ليزيد أثر العودة اليه في نفس المستمع. والعودة سهلة جداً عنده، مهما بدت صعبة أحياناً، إذ يعرف سيمون شاهين عن ظهر قلب كل الأبواب من كل المسالك الى كل المقامات التي يتخيّلها المستمع ولا يتخيّلها. أما بسّام سابا فقد اكتشفه قطاع جديد من جمهور بيروت، بعدما اكتشفه قطاع آخر في رحلة سابقة الى بيروت. إذ خلنا سنوات طويلة أنه عازف فلوت وحسب، فإذا به عازف ناي من الطبقة الأولى، وإذا به صاحب وجدان عربي أصيل وحس غني وحار ومؤثر. وهو يستطيع على الفلوت أن يصدر أصواتاً تشبه صوت البوق، على رغم التفاوت الكبير بين الآلتين في هوامش الصوت. وهذا ينم عن مقدرة على الخلق واستكشاف امكانات الآلة التي بين يديه الى حدود بعيدة غير معهودة. ويشبه بسام سابا سيمون شاهين كثيراً في أن كليهما تربّى على الموسيقى العربية، فنشآ على هذا الوجدان العربي غير الملتبس، فلما درسا الدراسة الغربية على أعلى مستوى، لم يغتربا، وكانت "عودتهما" الى الموسيقى العربية مثمرة أينع الثمر. فكلاهما يعزف عزفاً أصولياً أليفاً وانقلابياً غريباً في الوقت نفسه. فهما يقفان في تربة تراثهما القومي، لكنهما يمدان فروعهما الى خارج هذا التراث بجمال ومقدرة واضحين. يعود سيمون شاهين مرة أخرى الى وطنه العربي الكبير، وهو يحمل معه، الى جانب نبوغه الواضح في العزف على العود والكمان، صيغة توازن دقيق بين النشأة الأصيلة والشخصية العربية من جهة، وبين الاستفادة الى أقصى حد مقبول من علوم الدنيا، من جهة أخرى، من أجل تسخير هذه العلوم لخير موسيقانا العربية، لا أن نسخر موسيقانا العربية، من أجل إعلان استسلام حضاري. وهذه هي بالضبط الصيغة الصعبة التي أسسها محمد عبدالوهاب ومحمد القصبجي على الخصوص من قبل، ولا بد من متابعة العمل بأصولها.