غابة تفصل بين مدينتين. لولا الغابة تقع حروب ويموت بشر. المدينة الأولى تشبه الأخرى. مع هذا تتبادلان العداء. لماذا هذا العداء؟ السؤال قديم ولا نعرف جواباً. الأجوبة كثيرة لكنها لا تقنع أحداً. واذا اقنعتنا اليوم لا تقنعنا غداً. نحن نتغير والعالم يتغير. المدينتان أيضاً. قبل زمن بعيد كانت المدينةالشرقية أصغر مساحة. المدينة الغربية العالية الأبراج كانت هي أيضاً أصغر مساحة قبل زمن بعيد. المدن هكذا. تتمدد بمرور الوقت. يجيء اليها نازحون من أمكنة بعيدة، من وراء الجبال والصحارى والبحار، فتتضخم وتتورم ولا يعود الساكن فيها يعرف أين بيته. بيننا ناس يخشون اذا خرجوا من المدينة ألا يعرفوا طريق العودة الى أحبابهم. الأهل والأبناء يتبادلون الاتصالات الهاتفية كل صباح وكل مساء: يؤمنون أن الأسلاك بين البيوت المتباعدة تمنع تفكك العائلات. هل هذا حقيقي؟ المعاناة الحقيقية هي معاناة القبائل الموزعة بين المدينتين. قبل قرون في زمن سلمٍ وازدهار تصاهرت المدينتان: اختلط الدم الشرقي بالغربي. السلالات الناتجة من تلك الزيجات المنقرضة تتعرض الآن لأمراض غير مألوفة. الكآبة الملانخوليا أو السويداء مرض شائع وقديم. الأسلاف نصحوا بالنزهة دواء. نصحوا بشرب الماء وأكل الشوكولا أيضاً. لكن في الفترة الأخيرة شاع مرض أخطر من الكآبة: ناس يموت الضوء في عيونهم فجأة فيتركون المدينة ويذهبون الى حيث لا نعلم. أين يختفون؟ أين ذهبوا؟ لا يدري أحد. يُقال انهم ذهبوا الى المدينة الأخرى. لكن هذا لا يصدق. هذا ببساطة مستحيل. أين اختفوا إذاً؟ سُجلت حالات من النشاط المفرط: رجال يتحولون فجأة الى كتل طاقة لا تهدأ ولا تسكن. هؤلاء يبرق الضوء في عيونهم كأن قوة الحياة تضاعفت في أعضائهم مئة مرة. وبين هؤلاء من اختفى أيضاً. أين يذهبون؟ تنتشر قصص ? لكن من يصدق الاشاعات في هذه الأزمنة المضطربة؟ - ويُسمع في الأسواق والمكاتب والمطاعم كلام عن دخول البعض الى الغابة أو سفره الى مدن بعيدة يعرفها دارسو الأطالس والجغرافيا. لكن هذا أيضاً لا يصدق. هذا ببساطة مستحيل. كيف يترك انسان ولد هنا وعاش هنا وبنى هنا بيتاً، وهنا تزوج ورُزق الأولاد، كيف يترك الواحد مدينته هكذا، وبلا سبب معقول؟ تبدو المسألة غامضة ومحيرة ومثيرة للغيظ. تجد ناساً يقفون عند إشارات السير وهم يقضمون أظافرهم محاولين فهم الأسباب وراء الانقسامات التي تضرب الرأي العام. عناوين الصحف تتضارب على نحو فظيع. اذا قالت الصحيفة"أ"انها أمطرت سيولاً أمس كتبت الصحيفة"ب"ان الجفاف الذي يضرب البلاد منذ أيام وشهور بات يهدد الدواجن والماشية بالموت عطشاً. تنفق الطيور محروقة بأشعة الشمس في الصحيفة"ب"وتغرق الطيور نفسها على الصفحة الأولى من الصحيفة"أ". أهل الدعابة يقولون النتيجة واحدة. هؤلاء كثر. ليسوا قلة. يلبسون الفانلات البيض ويسهرون على السطوح ويسمعون الأغاني الصاخبة. اذا هبّ هواء الليل من جهة الغابة لا يخشون عواء الذئاب: على الأرجح لا يسمعون العواء بسبب الموسيقى والهدير المنبعث من التلفزيون. هذه ظاهرة مستجدة: الصوت المرفوع للتلفزيون. يتبارى الجيران على رفع الصوت. هذا يتحدى ذاك. ولكل بيت قناة مفضلة وصوت مفضل. الجماعات تنقسم. ومرات تنقسم العائلة الواحدة. امرأة دفعت أختها عن الشرفة. الأخت بدينة الجسم. الشحم - لحسن حظها - خفّف أذى السقطة. لم تدخل المستشفى لكن الحادثة على بساطتها تدل على الانحدار في مستوى التواصل والتخاطب بين المواطنين. في هذه الأثناء يقال ان المدينة الأخرى في حال أسوأ. يقال ان السلاح انتشر هناك وان القصف بدأ. يقال ان المدينة الأخرى انقسمت الى مدينتين. هذا غير مؤكد. الغابة عريضة وقديمة وعميقة وتفصل بين عالمين. كل مدينة عالم. دارسو التاريخ والميثولوجيا يعتقدون ان العالم يحوي مدينة واحدة فقط. أما المدينة الأخرى فليست إلا حلماً. لعلها مدينة من الماضي المندثر. لعلها مدينة مستقبلية."المدينة الأخرى احتمال من احتمالات مدينتنا"، يقولون. لكن هذا لا يصدق. هذا مستحيل. الكل يعلم ان العالم مملوء مدناً. يكفي أن تفتح كتاباً لتتأكد. الكومبيوترات الموزعة على المقاهي دليل آخر: انها تربطنا بمدن تتباعد على أطراف الخريطة. واذا كان هذا لا يكفي ما على القارئ إلا أن يتسلق برجاً ? أو بناية عادية كالبناية حيث تحيا وينظر من فوق الى ما وراء الغابة: هل يرى تلك الأضواء المتلامعة وراء أدغال البطم والسنديان والصنوبر والصفصاف، هل يرى تلك النوافذ المتراصفة؟ لا بد من أنه يراها. انها المدينة الأخرى! يُقال اننا في البداية كنّا مدينة واحدة. ثم جرت حروب. وظهر خط تماس بين المدينتين. ومع مرور الأعوام، ثم العقود، ثم القرون، تحول خط التماس الى هذه الغابة. لكن هذا لا يصدق. الغابة ضخمة لا نهائية. كل شجرة فيها تكفي لبناء قرية. المدينة قطعة صغيرة من البيوت نابتة على حافة الغابة. الظلمة بين الأشجار لا تُحد. الغابة محشوة ظلاماً. لا أحد يجرؤ أن يدخل بين الأشجار. علماء النفس البشرية مؤلفاتهم محفوظة في مكتباتنا، مكتبات غارقة تحت الأرض، مقفلة: الحراس يمنعون اخراج الكتب منها لئلا تُسرق الكتب أو تختفي. للأسف هذا يعني ان الكتب تفسد بالرطوبة وتقرضها الحشرات والفئران علماء النفس البشرية يعتبرون الغابة استعارة، صورة لأعماق الإنسان. هذا غير معقول. أحد هؤلاء دخل الغابة ليجمع أدلة. اختفى. بعد سنين عثرت الشرطة على هيكله العظمي. ظهر من فحص الطبيب الشرعي أنه مات بعضات الذئاب. الغابة تحكمها قوانين الغابة. الأمطار تروي الأشجار والأشجار ترتفع الى أعلى، تطلب نور الشمس. الأرانب تركض تحت الأشجار وتقضم الفروع الطرية. الثعالب تطارد الأرانب وتأكلها. الثعالب يقتلها الصقيع. حشرات الغابة تحول الثعالب الى مادة عضوية. الأشجار تنمو. ترفع الماء بجذورها. ترفع الشجرة الواحدة طناً من الماء كي تملأ بالحياة أغصانها وأوراقها. الغابة تنتشر. اذا قطعت هذه الغابة كلّها نبتت من جديد بعد قرون نسخة طبق الأصل عن الغابة المقطوعة. الصنوبرات ستنمو في النقطة ذاتها حيث نمت من قبل. السنديانات كذلك. والبطم أيضاً. الغابة عجيبة. وحول الشجرة تظهر الأشواك وتوت العليق. هذا بسبب العصافير. تحط العصافير على الأغصان. تقع منها قاذورات تحوي بزوراً. العصافير أكلت توت العليق في أمكنة بعيدة وأتت بالبزور في جوفها الى هنا. المطر يقع على الغابة والسرخسيات تظهر على سطح البرك والطحلب الخز يغطي جذوع الأشجار. اذا سقطت شجرة في العاصفة تغطت بالأخضر ثم نمت من الأخضر فروع جديدة. بذور تقع على الجذع المتعفن وتفرخ. تظهر الأشجار متراصفة صفوفاً في الغابات. عندما نبتت نبتت على جذع مستقيم واحد مطروح على أرض الغابة. تفتت الجذع. حال تراباً وفطراً. الجو هنا رطب، خانق. هذه غابة مطرية. الورق أخضر، لزج، يقطر ماء. بخار الماء يخنق الواحد اذا عبر بين الأشجار. الرطوبة مخيفة. كأنك تحت البحر. لا أحد يدخل الغابة. نبقى في المدينة. مدينة هنا. ومدينة هناك. أحدنا يحتار أحياناً في أي مدينة هو: الشرقية أم الغربية؟ هل نصدق الخريطة والجريدة والتلفزيون؟ لكن هذه كلها قد تخدعنا. ماذا نصدق اذاً؟ المعرفة همّ في مدينتنا. الجميع يتعطش الى المعرفة. حتى في هذا الصيف الحار، والمراوح تدور، والعرق يبلّ القمصان، حتى في هذا الحرّ لا نكف عن السعي الى المعرفة. لا نقفل التلفزيون حتى ونحن نيام. ننام وهو يخش ونقوم وهو يخش. لا يفوتنا خبر. من مسجد يُحاصر الى مخيم يُقصف الى مدينة تحترق. أعاصير المحيط الهادئ تهمّنا. الجفاف في أفريقيا يهمّنا. عطشنا الى المعرفة فظيع. يقال انه السبب الأساس للانقسام بين القادة السبعة. القادة السبعة يطلبون كتاباً واحداً. الكتاب مخفي في قلب الغابة. اذا وجده أحدهم أمسك بالبلاد وحكم العالم في بلادنا نحسب أن مدينتنا هي العالم. في هذه الحال يُعدم القادة الستة أو يسكنون مع القنافذ أوكاراً في بطن الأرض. مدينتنا تضطرب. بدأت الأشجار تظهر بين البنايات. هذا يعني أن أهل البنايات هجروها. فقط عندما يبتعد الإنسان تتسرب الغابة بأشجارها وأشواكها وأعشابها الى قلب الشوارع، الى قلب المدينة. ماذا يحدث؟ متى ذهب سكان البناية وراء السوبرماركت؟ صاحب السوبرماركت انتبه أولاً. البضاعة تتكدس على رفوفه ولا أحد يأخذها. مدة الصلاحية على علب اللبنة والجبنة والمرتديلا انتهت. أكياس المكسرات الصينية حالت فتاتاً ولم يأخذها أحد. رفع الصوت والخبر انتشر في الحي. الناس يرحلون. لكن الى أين؟ وهل يعودون؟ يقال انها اجازات صيفية. يذهبون الى جبال أو منتجعات على شط البحر الأسود. يقال انهم قصدوا جزراً في المحيط الأطلسي تكثر فيها أشجار الأناناس والسناجب الطائرة. في مدينتنا نعرف السناجب. الأولاد يعرفونها من كتب القراءة في المدارس. قبل زمن بعيد كانت السناجب تقطع مدينتنا من جهة الى أخرى طائرة بين أغصان التوت. في ذلك الزمن كانت الغابة تغطي المدينة. ثم قطعنا الأشجار وبنينا البيوت وزرعنا الأرض. هذا مكتوب على ألواح محفوظة. يُدرس في الجامعات. الأسلاف ذكروا ان مدينتنا بنيت قبل المدينة الأخرى. قيل ان المطرودين من مدينتنا لأسباب أخلاقية بنوا المدينة الأخرى. ولعلهم هناك يقولون عن أصل مدينتنا الشيء نفسه. هل تقع الحرب من جديد؟ هل نحرق الغابة؟ هل نحرق المدينتين؟ القادة لم يحسموا أمرهم بعد. والأتباع أيضاً. يقال ان القادة مقيدون بأتباعهم. يقال ان الأتباع هم القادة. يقال ان لا القادة ولا الأتباع يملكون قراراً. يقال ان العالم محكوم بقوانين الغابة. بين حين وآخر تقرر الغابة أن تتمدد: الأشجار تنشر جذورها تحت التراب ثم تقرر أن تتكاثر. الغابة تطلب حقها: من قبل كانت تغطي هذه المساحات كلّها. الغابة تطلب حق العودة: وعلى الإنسان أن يبتعد. أين نذهب؟