الأشجار المتراصة تشكّل على جانبي الطريق التي نوغل فيها جداراً غير قابل للاختراق، انها اشجار صامتة، جامدة في الهواء الجامد، في الهواء الخاوي الذي بلا طيور وبلا حشرات، في الهواء الصّلب والكثيف الذي نخترقه، الهواء الحادّ مثل شفرة مرهفة ومحمّاة، داخل هذا الهواء نتقدم في مسالك متعرجة وسط الغابة، متسلقين المرتفعات" أو مشاطئين الأخاديد. والأشجار من حولنا تشكل أسيجة قاحلة تخفي الأفق، وتمسك الريح بمخالبها. نحن لا نسمع شيئاً. فالأشجار تمتص ضجيج المحركات، تمتص جلبة وهزيم وتمزقات محركات الشاحنات وعربات الشيكلوروس، وتلك الشاحنات التي تبدو وكأنها تريد ان تقتلع نفسها اقتلاعاً من سطح الأرض الإسفلتي الحارق، وهناك أيضاً كل جلبة الطائرات المقصوصة الأجنحة. ليس الزمان هو الذي يفصل بين الأشياء، ولا المكان. بل هي الأشجار. الأشجار المتراصة النحيلة، شبيهة بالمومياوات. غبار داكن يغطّي أوراقها. والصمت يرين على كل شيء. وهناك في قلب السماء الزرقاء من الصمت، ومن الاقفرار ومن الخواء ما يوحي كما لو ان الكلام لم يوجد أبداً. ربما من عمق الجو يأتي الغبار، وكل حبّة عجاج بلون الرماد تسقط من السماء وتقع على أي ورقة تسد مسامها، وتمتص الضجيج كما يفعل الثلج. ليس ثمة هنا حجارة، ليس ثمة هنا هواء، وبالقطع لا يوجد ماء، ليس ثمّة هنا سوى هذا الهباء اللامادي الذي يجعل كل شيء بطيء الحركة. نتقدم عبر الغابة التي تشتعل بلا لهب، والتي يسقط غبارها الرمادي ثانية فوق الأرض المنبسطة، نتقدم على امتداد الطريق البيضاء بلا هدى، وبجهد جهيد كما لو أننا ننوء بعبء. والغابة جدار، جدار واحد سميك لدرجة ان لا بدّ لنا من قضاء أشهر حتى نعبره، والهواء الجامد سقف. وفي باطن الأرض ذات الصخور الحارقة تنتشر الشبكة اللامرئية للجذور، والفضاء الكامد، المجهول، المتكاثف، والذي لا يسكنه أحد، يضغط عليك ويشدّك، ونحن نتقدم كما لو أننا نسير القهقرى، من دون ان نرى الى أين نحن ماضون، ومن دون ان ندري أي الأشياء نغادر. كنّا كما لو أننا نولد من جديد، هنا، في هذه الفرجة مختنقين بين الأشجار وممددين مباشرة على سرير من الأغصان مغبرّ، تتآكله الخنافس السود. انما لأجل هذا نسير نحن فوق هذه الطريق، وربما لنظفر بمكان الولادة. هل توجد الحرية، عندما يكون كل هذا الكمّ الهائل من الأشجار المتراصة؟ عندما يكون كل هذا الفضاء، وهذه السماء الشاسعة، والأرض المنبسطة، والغبار؟ لا توجد الحرية. انها مختنقة بالصمت، بالرماد، جامدة في الهواء الذي بلا نأمة ريح، منسيّة مع الكلمات الأخرى المنسيّة. والآلهة التي تعرف كيف تتكلّم كفّت عن الكلام. نتقدم عبر الأشجار كالنمل عبر الأعشاب. رجال صامتون يرتدون الأبيض يمضون نحو السرّ. الرجال شبيهون بالأشجار يمضون من جذع الى جذع بلا حركة منفلتين في هبّة واحدة لا مرئية. أين هي مدينة شان سانتاكروز، أين هي؟ الأرض أقفرت، والمدن، المدن الحقيقية المقدسة اين اختفت؟ لقد كانت نيراناً تبهر بعض البشر فينجذبون اليها مثل الحشرات. انها عواصم سرية هائلة يغطيها الذهب واليشب. حيث لم يكن يتوقف الضجيج الصارخ للملاحم: وماذا بقي اليوم؟ سوى انه الزمن الحاضر. الأشجار النحيلة أغلقت دائرتها، انها متراصة الواحدة بجانب الأخرى، لقد سدّت المداخل، والعوسجان سدّ الطرقات. والجذور تتطاول تحت الأرض، انها تبحث بلا أمل عن الماء، وهي التي تصدّع في الآن نفسه اساسات المدن القديمة. وشان سانتاكروز، التي توهجت، وتشظت، والتي دفعت الرجال الذين اوجدوها، دفعتهم على الطرقات المحرقة. لم تعد اليوم حتى مجرد ذكرى، انها نقطة بيضاء في الزمن، لطخة، اثر جرح لدمل استؤصل، مكان دمامة وضجيج. والآن يوجد هذا المركز غير النابض ملتقى الطرق الأربع التي تعبر الصحراء الرمادية. انه مركز انعدام الذاكرة" حيث تتوقف الباصات ذات المحركات الساخنة للحظة. وحيث ينتظر المسافرون، أمام مجمع البناء القديم المعرّى والذي يعلوه صليب من النّيون. كيف نصل ذات يوم الى شان سانتاكروز؟ نتقدم على امتداد طريق الغبار، على غير هدى، متجنبين حزوز الأسفلت الأسود حيث تطلع علينا، الباصات والشاحنات، والدراجات النارية. الضوء الشاحب والساخن ينطوي على حلم تموج فيه أشباح غريبة. وهي منتصبة أمام شان كويك، الجنود والنوهوخ تاتيش، والأب اسبيون، وسادة الموسيقى. وقوافل البغال تعود من بيليز، والمحاربون يسيرون نهاراً وليلاً عبر الفيافي حتى خليج السييريتو سانتو وحتى أدغال مستنقع باكالار. رجال يغطيهم العرق وتخدشهم الأشواك يتسللون بصمت عبر الغابة، وبعد عبورهم احترق تيكوك، كوروزال، تيهوسيكو، تيماكس .... كانت التعاليم تنتشر في الغابة في شكل سريع، تخرج لا مرئية من فم البالام نا. لقد كانت تعاليم موت. والغابة هي التي تذيعها حتى حدود الأرض، تلقائياً مع حركة اغصانها الجافة وأوراقها وجذورها الباطنية. والأشواك السامة لم تكن تنبت اتفاقاً، بل كانت تنبت بهدف القتل، انها سهام ثابتة تنتظر اقدام الأعزاء. والآبار ممنوعة. ... الثعابين، والبعوض. والعقارب حرّة الحركة. لقد كانت مرسلة بدءاً من الحجرة السرية. وهي مطيعة لصوت الصليب الحقيقي. كانت الكلمات تصوّت كما لو كانت ترسل من حلق عملاق، صوت حادّ ومحشرج يرتل تعاليمه، ينبثق من قلب الظلّ. الذين كانوا يسمعونه كانوا يرتعدون. والأرض الكبيرة الرمادية والخضراء كانت ترتعش، والريح الحارقة التي تغمر الأشجار تشيع هي أيضاً كلمات النقمة والموت. كانت كلّ الأشجار رعايا للصليب. وكان الرجال يسكنون داخل الأشجار. لقد كانوا هم جنود الغابة. في الأماكن المقدسة، وفي فوه الهاويات، أمام الصدوع التي في الحجر، والتي تفضي الى المياه الجوفية، هناك كانت الصلبان الخشبية تقف حارسة. تشير الى أركان السماء الأربعة وفي وسطها كان الانفجار البطيء الذي يمزق الأرض كلها. نتقدم بطيئاً بين جدران من الأشجار، نقفو الآثار، كنا نتعرّف على المسار الذي اتخذه الحلم. في ميدان فيليب كاريو بويرتو، في مركز تقاطع الطرق الكنيسة خاوية مثل طبل لا ترجيع له. وكنيس البالام نا خاو. لا أحد يتكلم. والصليب، الصليب الحقيقيّ اختفى. وحلت محلّه صلبان أخرى، ولكنها صلبان من خشب موات مثل خشب المشانق. دارة الحاكم، وبيوت الحراس، والمدرسة، ومساكن العبيد هي الأخرى خاوية. والضجيج يعمّ المكان أجهزة الراديو وصناديق الغناء في الدكاكين الصغيرة، وهدير المحركات، ومضخمات الصوت التي تبث بيانات المنتصرين. والصليب الجديد هو القار الأحمر الذي تسير فوقه الشاحنات. نتقدم ربما متقهقرين، لنمرق داخل عالم آخر، من دون ان نتذكر، ربما لنلمح ذات يوم قباب مدينة شان سانتاكروز البيضاء الشبيهة بالسرّاب. طريق الغبار تمضي اتفاقاً، تتبع درب الهاربين. وهي طريق رجراجة، عريضة حيناً وضيقة حيناً أخرى. انها طريق الجوع والعطش واليأس. والمدن المغزوة تظل منهزمة الى الأبد. خاوية معابدها وأسوارها لا تحميها. والآلهة المهانة أشاحت أنظارها ونسيت الرجال. هناك صمت كبير الآن، هناك خواء كبير كما لو ان انفجار العنف استنفد مرة واحدة كل قوى الأرض. الغبار يغطي ورق الشجر وآثار الأقدام، والشاحنات القوية تنهب مسافات كبيرة من الأراضي الجافة والقاحلة فوق طرقات شيتومال، وتولوم، وتيهوسيكو. تعبر لا مبالية، وخلف دواليبها يرتفع الغبار ثم يعود فيسقط. وضجيج محركاتها يكنس رؤوس الأشجار ثم يتلاشى. الأشجار المتراصة خرساء، والضجيج والكلمات لم تعد قادرة على الانتشار. ثمة عنف كبير هنا، جفاف كثير، وعلى رغم ذلك كل شيء شديد الهدوء. الأشجار لا تهتز. الهواء مقفر، سوى غيمات من الذباب الدقيق تجيء أحياناً لا ندري من أين. ونحن لا نرى الأرض. نشاهد فقط طريق الغبار. وكتلة الأشجار والعلّيق والعوسجان وفي السماء الزرقاء لا توجد غيوم، والشمس حارقة. نتقدم كما لو اننا نحفر أخدوداً في الأرض الجافة. ... أسماء كانت متحدة في ما مضى بسلطة الكلمة، وهي الآن، متروكة مثل جزر، خرساء، خرساء. ونحن نوغل، مستمرين في التقدم، على طول الممشى بين الأشجار المتيبّسة كأنها أوتاد سياج. نبحث بتلهف عن العلامات: عن الحرية، عن رائحة الماء، عن هسيس الأصوات السرية. كنا صامتين في أعماقنا في شكل لا يصدق. مضت أيام وأسابيع وأشهر لم ننبس فيها بكلمة، ومنذ أوقات، وأيام لم نشرب! اين الصليب الأنثوي، المرتدي رداءه المخرّم والذي يعرف كيف يغمغم بكلماته الجديدة؟ الصلبان متخفية في الغابة الضيقة، خشب صموت نائم، ثابت في حياته البطنية. انسحب الرجال، اختفوا داخل الخشب، وهم يعيشون الآن بلا حراك حياة هدوء غريبة، في شيخوختهم، كامنين في الأوراق وغارقين في الغبار، ملتصقين بالأرض الصلبة وعيونهم تبدو كفواكه جافة في تشابك الأغصان. وهم يترصدون، وينتظرون يوماً بعد يوم أن يؤوب الماء من السماء، وان يستأنف الماء طريقه، ذاك النهر الجوفي الذي يسيل في الأروقة، والذي يحمل عبر الأرض الماء الذي يحرّك الحقد، والذي يسكّن العطش والجوع. الماء الذي يمنح يوماً بعد يوم الحرية بعد معاناة كثير من العبودية والحمّى. في زمن آهاو 5، في زمن مولاك 5، حينئذ سيتوفر الخبز حتى خارج الاقليم. سيكون هناك الماء مدة تحكمه الفريد، لأنه سيبايع حكمه. وسيكون حكمه ماجناً وفريداً من نوعه. ها هم منتصبون أمام البركة الطينية، منتصبون امام خزان الماء، زهرة ماي شرابهم نهاراً وليلاً أمام الأخدود المفعم بالمياه. وملكه سيمتد الى كل الأرض وسيكون فريداً. في هذا الزمن سيغادرون آبارهم وكهوفهم، لأنه هكذا كان مصير الاتيزاس الكبار. إذ يغادرون بسبب نحسهم. يغادرون آبارهم وكهوفهم للذهاب الى بلاد الغابات، الى بلاد الحجارة. انما الى هنا سنصل، بعد هروب طويل عبر الأشجار نصل مهانين ومهزومين. وسنفتح مساحة وستتسع حلقتها كما تتسع حلقة الرقص فتدفع بجدار الأشجار. وتبين الأرض. انها أرض جافة وصلبة. بلون الصديد والرماد، حجارة غبارية تغطي سطح الأرض الكلسيّ. وفي قلب الدائرة، هناك صخور كبيرة بيضاء ثابتة. ليس ثمة من حشائش ولا زهور، لا شيء من شأنه إرواء غليل الذاكرة. هناك فقط ذاك الوكر العاري، الذي جعلته حرارة الشمس صلباً، وبحر الأشجار الداكن الممتد حتى الأفق، انها آثار محرقة جديدة. اختفت شان سانتاكروز، غطتها الرواسب: الإسفلت، أكواخ الجنود الخشبية والدكاكين وسحب الغبار التي تثيرها اطارات، دينا وشيفي وفورد وبلو بيرد، انه حلول مملكة الأشباح، بينما يترجع الضجيج مرة أو مرتين في الرأس. وأمام مجمع البيوت الأخرس. وفوق سطح مبنى الجوقة الأحمر. هناك قارورة بيبسي كولا عملاقة. الأسماء التي كانت تجوب الغابة، في الماضي والتي كانت ترتعش في العساليج وتنزلق في الريح من قمة الى أخرى، والتي كانت تسيل في الأروقة المظلمة تحت الأرض، والأسماء التي كانت تتكلم من خلال فوهة كلّ بئر. لم نعد نسمعها. الرجال الصموتون، ثقبوا قلوبهم. وهكذا توقف القلب عن الخفقان والنوم تملك الأرض. نام الرجال، أغلقوا جفونهم، وغادروا ولكن، وبدخولهم مجتمعين في النوم ولجوا داخل حلم لاينتي. في قلب الفرجة، وفوق الصخور البيض توجد بيوت الحلم الثلاثة، تحيط بها في شكل دائري البيوت الأخرى، مثل حزام من الجدران الحجرية الجافة. لقد مشينا كثيراً، وهربنا طويلاً على طريق الغبار، بين الأشجار الصموتة فكان كما لو أننا وصلنا الى عاصمة خاوية هي قلب الصحراء. لا رجال في الحرج من البرية، لا نساء ولا أطفال، هناك فقط بعض الحيوانات الهائمة، خنزير، كلاب، ديكة هندية. الصلبان تحرس مدخل المدينة، مرتدية قمصانها المخرّمة، انها حارسة الحلم الطويل الذي يحلمه الجنود القدامى. وما تبقى من هذا العالم خاو، لا شك، انه خاوٍ في شكل بائس، وانه أخرس، أعمى. وهي أرض صلبة، مغطاة بأشجار بلا حس تشقها الطرق السود التي تمضي من مخزن قوارير الى مخزن قوارير آخر. الشاحنات، والدراجات النارية وحتى الطائرات لا تعرف الضجيج الحقيقي ولا الأماكن الحقيقية. محركاتها مندفعة تجرها سريعاً عبر الفراغ. أين هم الرجال والنساء؟ انهم متروكون ومتوحدون وخفيون. الجنود القدامى ينتظرون في مركز الغابة. أمام بيوت الحلم، بيد انهم لم يعودوا يعرفون ماذا ينتظرون. وخادما الغابة لاس كروساس ودورمان يتربصان أية علامة، ينتظران هسيساً، غمغمة، رعشة ما قد تأتي في الأن نفسه من مركز الأرض ومن قلب السماء وهو ما سوف يعلن ان اللحظة أزفت. والحلم ينوس في الناحية الأخرى. ليس بعيداً، يرتعش على حدود الغابة، وما ننتظر يأتي في النهاية. ... الرجال يقضون حياتهم متربصين بالأشجار. ينتظرون عودة الاضطراب الذي يهزّ الأغصان، ويبعث الحياة في الأوراق. الهفيف الناعم الذي يجيء من كامل الأرض، ومن السماء بأكملها والذي يملأ وبسرعة الفضاء بجبال رمادية وسود ملتفة على بعضها مثل الأمواج، ثم تأتي الريح، يأتي الهبوب الأول البارد فتبدأ الأشجار بالتموج مثل صفوف جيش متحرك ووراء الريح ....