ما قالته باريس لي في زيارتي الأخيرة لها - قبل اسابيع - قالته لي من قبل، غير انها في هذه المرة كانت أكثر سطوعاً وبساطة حتى ليدهشني كيف أنني لم أقف امام هذه الظاهرة بما تستحقه من اهتمام واعتبار واكتناه لأبعادها العميقة كما بدت لي في هذه المرة. كنت أتجول في شوارعها العريضة ذات المباني المتشابهة: أحجار الجدران الناتئة، والأفاريز فوق النوافذ المستطيلة، وشبكات الحديد فوق نصفها الأسفل، وشرفاتها الصغيرة البارزة، وسطوحها القرميدية المائلة وغيرها من مواصفات... كنت أتجول وأتأمل وأنا أنفذ خطوة خطوة الى اعماق هذا السؤال:"لماذا تحرص هذه المدينة المشهورة برعايتها للحداثة، على هذا الهارموني في مشهدها العمراني العام الذي يعود الى مئات السنين؟..". وحين زرت المتاحف ومعارض الفن التشكيلي بخاصة، أدهشني أن أرى الى صالات العرض للكلاسيكيين والانطباعيين والتعبيريين، أي لكل اللوحات التي لا تزال تحتفظ بالشكل، خصوصاً بزوارها في حين كانت صالات الفن التجريدي حيث تغيب الأشكال وتسيطر الشكلانية والغموض شبه خالية من الزوار، وهنا ايضاً كان لا بد من أن أطرح على نفسي السؤال ذاته تقريباً:"ما معنى ان الناس من جميع الثقافات والأجناس والأعراق يُقبلون بهذه الكثافة على معارض الفن التشكيلي المفهوم نسبياً في حين يُعرضون عن معارضه الأخرى المنتمية الى حركات متطرفة في الحداثة إذا صح التعبير؟". وفي محادثاتي مع المثقفين في الأمسيات التي شاركت بها أو حضرتُها كمستمع كنت ألاحظ ان معظمهم منجذبون الى الشعر الكلاسيكي والرومانسي أو الى تيارات الواقعية الجديدة المتطورة اكثر من انجذابهم الى الشعر الشكلاني الغارق في ضبابياته وصرعاته المستمدة جرأتها وتطرفها ولا مبالاتها أحياناً من فهم خاص لأصحابها عن"الحداثة"، والتي لا تجد نصوصها إقبالاً كبيراً من الجماهير الواسعة وكأنها لم تكتب إلا للنخبة النخبة. وفي المكتبات حين سألت عن مبيعات دواوين الشعر الفرنسي أدهشني ان دواوين فيكتور هوغو ولامارتين وموسّيه وبعض الكلاسيكيين قبلهم لا يزال يعاد طبعها كل عام بعشرات الألوف من النسخ التي تنفد كلها من الأسواق، في حين ان المجموعات الشعرية الحديثة جداً المنتمية الى تيارات الإبهام أو اللعب اللفظي والغموض المصطنع أو الإغراق في الذاتية لا تباع إلا نادراً، وبالتالي لا تظهر في العام الواحد مجموعات شعرية جديدة منها في إصدارات لا تتجاوز الألفي نسخة. اما الشعراء الشبان الجدد فإنهم يجدون صعوبة كبيرة في إقناع دور النشر بإصدار مجموعاتهم الجديدة. وهنا ايضاً كان لا بد من أن أطرح على نفسي هذا السؤال:"لماذا لا يزال القراء الفرنسيون يقبلون حتى اليوم على اقتناء دواوين الرومانسيين والكلاسيكيين قبلهم وبعض المحدثين مثل بودلير ورامبو، في حين لا نشعر انهم مهتمون بنماذج الشعر الحديث باستثناء نماذج قليلة منه لشعراء محدودين خدمت بعضهم الشهرة الإعلامية أكثر من الجاذبية الفنية". ما هو المغزى من كل هذا؟ لم يقتصر الأمر على هذه المجالات وحدها، ففي كل مرافق الحياة كنت ألمح هذه الظاهرة تعلن عن حضورها في شكل أو آخر تؤكد لي من جديد ان الحداثة لا تعني على الإطلاق القطيعة مع الماضي. اننا نحب ان نجدد دائماً وإن لم نفعل فإننا معرّضون لآفات السأم والجمود والبلادة. والغريب أو الطريف في الوقت ذاته اننا نحرص كل الحرص على الكثير من عاداتنا وتقاليدنا ونضيق ذرعاً بمن يحاولون التخلي عنها كلها باسم التجديد والتحديث. إن تراث الماضي لا يعني مجرد تركة خلّفها بعضهم لأولادهم وأحفادهم كالمال والعقارات، وأن هؤلاء يستطيعون التصرف بها كما يشاؤون. ذلك أن اعتزازنا الفطري بكثير من عاداتنا وتقاليدنا العريقة يحمل تفسيراً أعمق متصلاً بغريزة الخصوصية في حرص كل منا على ان يوصف بأنه ذو شخصية متميزة. ان تركة الأجداد تعني إذاً للأحفاد ما تعنيه السمعة الشخصية، فإذا أورثهم الأجداد بعضاً في فضائلهم فهم معتزّون بها حريصون عليها اعتزازهم بأشخاصهم الذاتية. إننا نتمسك غريزياً بهذا التراث، أو ببعضه - على الأقل - وكأن المسألة تتعلق بمصائرنا الذاتية، وهكذا يغدو كل ما يسيء الى سمعة السابقين من أهلنا سيئاً لنا شخصياً، وكل ما يحسّنها تحسيناً لسمعتنا نحن... وبهذا المعنى لا توصف العلاقة بين الماضي والحاضر بأنها علاقة اضافة او تركيب بين شيئين متباعدين، وإنما هي علاقة امتداد وتطور للشيء ذاته. تبقى إذاً المشكلة منحصرة في تحديد هذه العلاقة اين تبدأ مع الماضي وأين تنتهي أو بمعنى آخر ماذا نأخذ منه وماذا نترك، ومن هنا فإن أي نقاش حول الحداثة كيف يجب ان تكون لا بد له من ان يأخذ في الحسبان هذه العلاقة بين ما كنا عليه وما صرنا إليه وكيف نوفّق بين الطرفين كما صنع الفرنسيون مع شوارعهم وحدائقهم وطرازهم المعماري التقليدي وأساليب عيشهم المختلفة، ومن هنا تبدو فرنسا الموصوفة بأنها بلد الأنوار والتجديد، والحداثة هي في الوقت ذاته بلد العراقة والأصالة... هذا ما قالته لي باريس، أو هو بعض مما قالته. فالظاهرة التي تحدَّثنا عنها أكثر تعقيداً وأحفل بالمغازي مما كتبناه هنا، غير ان المقولة الأساسية لا تخرج بالتأكيد عما قلناه. ان باريس باختصار تعلمنا نحن العرب عن أنفسنا وأحوال عالمنا اكثر مما تعلمنا إياه عواصمنا الذائبة في الغبار والضوضاء والضياع.