على الصعيد الجغرافي، لم يعد لي وطن. فالعراق احترق. وهذا الحريق بدأ تدريجياً منذ عقود من السنين، ثم صب الاحتلال الأميركي مزيداً من الزيت على النار، ليقضي على آخر معالم العراق بمفهومه الجغرافي، وكل المفاهيم الأخرى. وأنا أزعم أن زيت الحريق كان قبل ذلك أيضاً أميركياً بصورة غير مباشرة. لكنني، كمثقف من أبناء الطبقة الوسطة المستهدفة، كنت أسأل دائماً، لمن انتمي أنا؟ فالعراق لم يكن يعترف بي دائماً كمواطن من مواطنيه. ولا شك بأن السؤال ينهض هنا، أي عراق هذا الذي لم يكن يعترف في بعض الأحيان بمواطنيه أحد أنجب أبنائه المثقفين؟ هذا السؤال لا يمكن أن ينفصل عن طبيعة المأساة العراقية التي عشناها ونعيشها الآن. فأنا لم أكن أستطيع أن أحمل جواز سفر عراقياً على الدوام. ففي عام 1963 صدر في حقي أمران بالمنع من السفر الى خارج العراق، أي حرمان مضاعف من الحصول على جواز سفر. ولم يُرفع المنعان إلا في عام 1969. وفي عام 1979 وجدتني مقسراً على ترك العراق، لأن مكتب تنظيم المعلمين، التابع الى حزب البعث، أصر على انتمائي بالقوة. فتركت العراق، وبذلك خسرت وظيفتي، وخسرتني عائلتي المؤلفة من زوجة موظفة وابنتين صغيرتين. ومنذ ذلك التأريخ وحتى الآن، أنا لاجئ أسعى في مناكبها، مع أن لجوئي الأخير الى بريطانيا حقق لي استقراراً مادياً، وعلى صعيد الهوية أيضاً، فقد منحت الجنسية البريطانية. وقبل ذلك بقيت بين 1979 وپ1995 أكافح من أجل التمتع بهوية تضمن لي الإقامة في البلد الذي ألجأ اليه. ولحسن الحظ أنني استطعت تمديد جواز سفري في لندن في 1980، بفضل وجود قريبٍ لي في السفارة العراقية هناك. ودام هذا الاستقرار أربع سنوات كنت في أثنائها ضيفاً على منظمة التحرير الفلسطينية في بودابست، التي بواسطتها كنت أمنح حق الإقامة في المجر، وكانت الهيئات الديبلوماسية العراقية في البلدان الاشتراكية أكثر تشدداً في تمديد أو تجديد الجوازات. فشددت رحلي الى لندن في 1984 بأمل تمديده هناك. لكنني اكتشفت ان قريبي انتقل من بريطانيا الى دولة أخرى. وعندما التمست مشورة الصديق، الفنان ضياء العزاوي، تعهد بأن يسعى لحل المشكلة. فاتصل ضياء بالقنصل، وفاتحه بحاجتي الى تمديد الجواز وأنا اسم معروف على أي حال. فاختلق القنصل شتى الأعذار، الا ان الصديق ضياء العزاوي ضغط عليه، وطلبي منه أن يستقبلني وينجز معاملة الجواز. فلم يستطع التملص... وعندما ذهبت الى السفارة العراقية وكانت تلك مخاطرة مني على أي حال لم أجد القنصل في انتظاري. لقد تهرب من المسؤولية. وعدت الى بودابست بخفي حنين. عند ذاك أصبح جوازي باطلاً بحكم انتهاء مدة صلاحيته. فمنحتني سفارة اليمن الجنوبي يومذاك جوازاً يمنياً استخدمته أربع سنوات، وسافرت فيه الى بريطانيا، وربما اليونان أيضاً. ثم صادف أن سفيراً عراقياً جديداً نُقل الى بودابست، هو السيد عفيف الراوي. وكان ذلك عام 1988. وكنت أنا"موظفاً"اسمياً أداوم في مقر منظمة التحرير الفلسطينية، التي كانت تعامل كهيئة ديبلوماسية. فاتصل بي السفير العراقي الجديد من غرفة مدير المنظمة، وكان في زيارته، وقال لي:"أستاذ علي، مرحباً، أنا عفيف الراوي. هل لديكم مانع في أن أزوركم في غرفتكم؟"فقلت له:"لا، أستاذ عفيف، أنا قادم اليكم". وتصافحنا، وتحدثنا بود نحن من جيل واحد. ثم اقترح ان أعطيه جوازي لتجديده. وهكذا تم تجديد جوازي الى يوم لجوئي الى بريطانيا في 1995. وبهذا الجواز العراقي سافرت الى المغرب في أواخر الثمانينات، بحثاً عن جذور أغاني أوكاسان ونيكوليت القروسطية، بعد أن قرأت أن أحد الموسيقولوجيين الغربيين عثر على أثر لها في العشرينات في المغرب. وكان هناك، في استقبالي في الرباط، الصديق الراحل، الفنان خالد الجادر. لكن جوازي احتجز في مطار الرباط بلا سبب واضح. وفي هذه الزيارة عرّفني الصديق الجادر الى آنسة مغربية تمتّ بصلة قربى الى العائلة المالكة، وأخبرها بمهمتي، فأبدت كامل استعدادها لمساعدتي. ولم تقصر في ذلك. فكانت هذه الآنسة الفاضلة الكريمة تمثل وجه المغرب المشرق في حسن ضيافتها وكرمها المذهلين وقد سجلت ذلك في روايتي القصيرة"الأوبرا والكلب". واشتكيت لدى سيدتي الفاضلة حول احتجاز جوازي، الا ان جهودها لم تنفع، مع انها شقيقة لمسؤول كبير جداً في جهاز الشرطة في المغرب. ولم يُعَد اليّ الجواز إلا قبل مغادرتي بيومين كنت في أثناء ذلك قلقاً جداً من احتمال فقدان الجواز. ولدى وصولي مطار لندن، الذي كنت متوجهاً اليه من الرباط، لم أجد حقيبتي بين حقائب المسافرين، ثم وصلتني في اليوم التالي مكسورة، لأنهم لم يُفلحوا في مطار الرباط في فتح أقفالها! وفي عام 2002 اكتشفت انني كنت ممنوعاً من دخول الجمهورية العربية المتحدة، أي مصر وسورية، منذ العام 1959، أيام الوحدة بين هذين القطرين العربيين، ربما لأسباب"شعوبية"، مع أنني كنت أخدم في كتاباتي منذ تلك الأيام، الثقافة العربية، ربما أكثر من الكثير من القومانيين أنا صديقهم! وأحسب أنني لا أزال ممنوعاً من دخول مصر، استناداً الى أمر المنع الصادر في 1959، ولا أظنه رُفع، لأنني لم أجرب زيارة مصر حتى الآن. وللحقيقة اعترف بأن دائرة الأمن في دمشق ألغت قرار المنع في نصف ساعة، في زيارتي دمشق في 2002. ولم يعد هناك ما يعيق دخولي سورية. هذا على الصعيد الرسمي السياسي؟. أما على الصعيد الثقافي، فلا يكاد الأمر يختلف معي كثيراً. فأنا نكرة مقصودة، أو غير مقصودة، بلغة النحو في كل الدوائر والمؤسسات الثقافية العربية، طبعاً باستثناء المجلات والصحف التي كانت ولا تزال تتعامل معي بترحاب ومودة. فأنا لم أتلقَّ في حياتي الثقافية كلها أي دعوة من مؤسسة ثقافية عربية تقيم معارض دورية للكتب، مع أن عدد الكتب التي صدرت لي حتى الآن بلغ زهاء خمسة عشر كتاباً. ليس يعني هذا أنني ألهث وراء مثل هذه الدعوات، التي أنا زاهد فيها أصلاً، بيد أن من حقي أن أتساءل: هل أفتقر أنا الى مواصفات الكاتب الناجح، فتتجاهلني كل معارض الكتب العربية، في الوقت الذي يدعى الى هذه المعارض من هب ودب؟ ولست في حاجة أيضاً الى التطرق الى اللقاءات الثقافية الأخرى، التي تتجاهلني، هي الأخرى، حتى لو كنت زاهداً فيها أيضاً. بعد هذا كله أتساءل: لمن أنتمي أنا؟ وأي أمة هذه طبعاً في إطارها الرسمي وليس الشعبي، التي تتجاهل، وتضايق كاتباً له حضور معروف في عالم الثقافة العربية؟ في بدء محاولاتي القلمية، وحتى في ما بعد، كنت أكتب الى صديق معين. كان هو قرائي! لكنه لم يعد الآن على قيد الحياة. فأنا أكتب الآن الى أصدقاء آخرين، لا أدري كم هو عددهم، وليس يهم ذلك، بل تلك العلاقة الحميمة معهم. انهم وطني الذي أنتمي اليه!