طالت الغربة، وكل الدلائل تشير الى أنها ستطول الى أجل بعيد. أنا الآن في بودابست، في منتصف التسعينات من القرن الماضي. وكانت قبل ذلك قد حدثت تغيرات كبيرة في الغربة وفي أرض الوطن. في المجر، حيث أقيم، تم التخلي عن النظام الاشتراكي، وتبني النظام الرأسمالي. وفي العراق فرض الحصار الاقتصادي منذ 1991. وأنا فقدت المعونة التي كنت أستلمها من منظمة التحرير الفلسطينية. وبقيت أحمل دفتر إقامة لمدة عشر سنوات أو أكثر، لا أذكر. لكن ما جدواها من دون عمل. فهل سأخضع الى حالة الأوكسودوس العراقية الى بلد يمنح لجوءاً سياسياً أو إنسانياً؟ إنها حالة مزرية لم تستثنِ أحداً، أصبح فيها جميع العراقيين، على اختلاف طبقاتهم ومؤهلاتهم، سواسية في تشردهم. صرنا نعيش عصر ما قبل المسيح، هجرة جماعية بالمفرّق، أي فرادى، الى جميع بلدان العالم، بما في ذلك أبعد أصقاع الأرض. السؤال «لماذا» لم يعد له صدى. وأنا ماذا أفعل بعد أن هجرت منزلي وعملي وتركت عائلتي في العراق منذ خمسة عشر عاماً؟ وماذا ستُجديني مؤهلاتي الكتابية؟ لكنني كنت لا أزال أتردد الى مقر منظمة التحرير الفلسطينية الجديد، الأكثر تواضعاً من السابق، بحكم تقلص أو انعدام المساعدة المالية التي كانت تتلقاها المنظمة من الحكومة المجرية، على ما أحسب... وذات يوم تلقيت نداء تلفونياً – في مقر المنظمة – من أدونيس. أنا لم أكن منسياً بالمرة، إذاً. كان في زيارة الى شقيقته وزوجها سفير سورية في المجر. أخبرني بأنني مدعو على غداء في مقر السفارة السورية في بودابست. ذهبت الى مقر السفارة السورية في سيارة أجرة، فتلقاني أول الأمر كلبان رهيبان من صنف «الولف» أنزلا الرعب في أوصالي. لكن الشرطيين اللذين كانا في حراسة السفارة كانا في عوني. ولا أذكر من جاء لاستقبالي، السفير أم أدونيس. المهم أنني اصطُحبت الى غرفة الاستقبال بكل ترحاب. كنت وحدي مدعواً، وكان في استقبالي أدونيس، وشقيقته الحسناء التي لا أذكر اسمها، وزوجها السفير الذي كان جمّ اللطف والتهذيب. شعرت على الفور أنني في صحبة أحباء، مع أنني ألتقي أدونيس للمرة الثانية فقط. فأدونيس يشعرك بالحميمية من أول لقاء. في لقائنا هذا تحدثنا عن أشياء كثيرة، أذكر من بينها إعجابه الكبير بشخصية سكينة بنت الحسين. ثم قال لي: «لماذا، يا أخي، أنت طامر نفسك في بودابست؟ أنت مكانك في بريطانيا». كنت أعلم ان بودابست لم تكن تلبي كل متطلباتي. وعندما ذكّرني أدونيس بذلك، شعرت بضرورة الهجرة الى بريطانيا. لكن الوصول الى بريطانيا في التسعينات، وحتى اليوم، ليس ميسوراً جداً لمن يحمل جواز سفر عراقياً. وأنا لست ممن يفضلون الوصول الى أية دولة من طريق التزوير أو التهريب. وأنا كنت قد زرت بريطانيا في السابق مرات عدة، لكن هذا لا يشفع الآن. فما العمل، مع ان من هبّ ودبّ استطاع الوصول الى بريطانيا بوسائل مختلفة، ومُنح اللجوء السياسي أو الإنساني. وبمسعى من أصدقاء وُجهت إليّ دعوة من ديوان الكوفة في لندن لإلقاء كلمة عن العراق القديم. لكن هذه الدعوة لا تضمن الحصول على تأشيرة دخول بريطانية ضماناً أكيداً. فما العمل؟ علمت أنني أستطيع الحصول على تأشيرة دخول بريطانية إذا كان جوازي يحتوي على تأشيرة دخول حديثة من أي بلد أوروبي غربي آخر. فاتصلت بأصدقاء مقيمين في بلجيكا، والتمست منهم توجيه دعوة إليّ لزيارة بلجيكا، ففعلوا. ثم قدمت الطلب الى السفارة البلجيكية، فحصلت على التأشيرة بعد أن تأخر الجواب من الوطن الأم. بعد ذلك قدمت على تأشيرة الدخول البريطانية. فطلب نائب القنصل (في بودابست) مواجهته. وكان شاباً لطيفاً، طرح عليّ عدداً من الأسئلة، وتجاذب الحديث معي بعد أن علم أنني كاتب. وفي الأخير سألني إن كنت أنوي البقاء في بريطانيا. وكان هذا سؤالاً محرجاً بالنسبة إليّ، لأنني لا أعرف الكذب. لكنني لم أرَ محيداً عن الكذب. ومُنحت تأشيرة الدخول البريطانية، ووصلت الى لندن في 9 أيار (مايو) 1995... وإذاً، أنا منذ هذا اليوم سأحل ضيفاً على عاصمة الإمبراطورية البريطانية التي استعمرت بلادي يوماً ما، ونهبت ثروته النفطية، وسأصبح مواطناً بريطانياً بفضل النظام السياسي المتقدم الذي يخولني هذا الحق بعد المكوث خمس سنوات في أراضيه. ولم أتأخر في الحصول على اللجوء السياسي لأن تاريخ حياتي حافل بالمضايقات السياسية، الموجعة في بعض أشكالها. قال لي المحامي: «لا تبخل في ذكر المزيد من الدم إذا كنت تعرضت الى التعذيب، فالموظفون المعنيون في وزارة الداخلية البريطانية يبهرهم الحديث عن الدم». ومُنحت حق اللجوء السياسي مع ضمان معيشتي وسكني. إنها المدينة الفاضلة، إذاً! في 25 أيار 1990 ألقيت كلمتي «ملامح من تأريخ العراق القديم»، بعد أن قدمني بكلمة مسهبة الصديق غانم حمدون. كانت القاعة مكتظة حتى وقوفاً. كان إهداء الكلمة الى (أنخدوانا) إبنة سارغون الآكدي وأقدم شخصية أدبية عرفت في التاريخ، من خلال التراتيل التي ألفتها ابتهالاً ب (إنانا). ثم استهللت كلمتي بالأبيات الآتية: لما وردنا القادسية / حيث مجتمع الرفاق / وشممت من أرض الحجاز / نسيم أنفاس العراق / أيقنت لي ولمن أحب / بجمع شمل واتفاق فتململ بعض الحاضرين لأن كلمة «القادسية» أصبحت مقترنة باسم صدام حسين لتكرارها في دعاية الحرب العراقية - الإيرانية. لكنهم سرعان ما نسوا كلمة «القادسية» في سياق كلمتي الطويلة التي أخذت تثير فضولهم. فقد تحدثت عن العراق من العصر الحجري القديم حتى سقوط بابل. وطعمت الكلمة باستشهادات لغوية، ضمن السياق. واستطردت في ذكر أخبار مشوقة من تأريخ العراق. تحدثت، مثلاً، عن هواية سنحاريب (705 – 681 ق.م.)، الذي يحدثنا بنفسه عن مأثرة صب النحاس في الأعمال النحتية الضخمة، في قوله: «أنا سنحاريب، بالذكاء الحاد الذي وهبني إياه «إيا»، وبتجاربي الخاصة، تمكنت من صب الأُسود البرونزية الضخمة ذوات الأرجل المفتوحة عند الركب، والتي لم يسبق لملك قبلي أن قام بها... وبنيت قالباً ضخماً من الطين لإثني عشر أسداً ضخماً مع إثني عشر ثوراً ضخماً فوق دعامات ضخمة وجذوع النخيل... وصببت البرونز فيها كما تصب قطع نصف الشاقل». وللإيضاح، كانت عملية الصب مستخدمة منذ بداية الألف الثالث (ق.م). اهتمامات أشور بانيبال يقول أشور بانيبال: «فن المعلم آداباً تعلمت: الكنز الخفي لكل فنون المعرفة الكتابية، علامات السماء والأرض... ودرست النجوم على يد الأساتيذ المتضلعين في فن التعاويذ الزيتية، وقمت بحل مسائل القسمة والضرب المعقدة، وقرأت الألواح الفنية السومرية والألواح الآكدية الغامضة التي يصعب إتقانها، واستمتعت بقراءة الأحجار من عهد ما قبل الطوفان». وفي رسالة الى المدعو شادونا يقول: «أمر من الملك الى شادونا: صحتي جيدة، ليكن قلبك مفعماً بالأمل، عندما تصلك رسالتي، خذ معك شوما، إبن شوموكينا، وبليطير، أخاه، وأبلو إبن أركاتيلاني، وأمثال هؤلاء الناس من بورسيبا كما تعلم، وكل الألواح التي في منازلهم، وكل الألواح المحفوظة في معبد أزيدا إبحث عنها، واجمع الألواح لأجل التعاويذ، وألواح المترنمات في نيسان، وتعويذة الكهنة المغنين في شهر تشريتو، والألواح التي تشتمل على سلسلة التعازيم في بيت سلع، وتعويذة الكهنة المغنين لحساب الأيام... وكل ما هو ضروري للقصر، وكل ما هو موجود، والألواح النادرة التي تعثر عليها في الطريق، التي لا يوجد لها مثيل في آشور، إبحث عنها وأجلبها إليّ. وقد كتبت الى شاتونو وموظفي الشاكو إيضاً. ضع هذه الألواح في صندوقك المتين. لن يمتنع أحد عن تقديم الألواح إليك. وإذا عثرت على لوح تميمة لم أذكرها لك، وإذا رأيت انها تصلح لقصري، إبحث عنها واجلبها إليّ»... كان جمهور المستمعين صنفين، مثقفين ومتعلمين جاءوا ليروني ويسمعوني، وآخرين كانوا ينشدون فيّ مخلصاً لهم من محنتهم العراقية. وكان أقصى ما أستطيع أن أقدمه لهؤلاء هو إشارتي الى تواضع حاكم بابل واستعداده لتلقي كل شيء من أجل ان يكون في خدمة بابل... وكانت كلمتي هذه مدخلاً الى حياتي الجديدة في أرض بابل الجديدة.