بوليس مطار سياتل لطيف، مرح وعملي جدا على العكس من بوليس مطار نيويورك الذي أوقفني طويلا وعذبني كثيرا وآلمني دائما، فكتبت شهادتي عنه وعن اميركا بعد زيارتي الأولى لنيويورك في العام 2001 ونشرتها في المجلة الدورية التي يصدرها البرلمان العالمي للكتاب وترجم العدد إلى سبع لغات عالمية، فتوقعت أنني إذا ما دعيت ثانية إلى الولاياتالمتحدة فسوف أمنع أو على الأقل أعذب ثانية، فلم أتحمس للرحلة كثيرا، قلت للأستاذ (اسو الجاف) المهندس المعماري العراقي الكردي، الذي أباد صدام حسين افرادا كثيرين من عشيرته فهو من مدينة حلبجة وهو الذي كان وراء ترشيحي ودعوتي ونحن لم نعرف بعضنا البعض قط. قلت له: قد لا أمنح الفيزا أصلا فيوصم جوازي العراقي الملعون بوصمة المنع للدولة الأعظم فأمنع من تلك الدول الأقل عظمة من اجل ذاك. قال : لن يحصل هذا. لدينا محامٍ وسيناتور ذو نفوذ قوي، وأنت أصلا لا نشاط سياسيا لك، فاليوم كل عراقي يفتح له ملف ويبحث له عن ملفاته السابقة، يحسب حساب الاستقلالية وحتى الخصومات السياسية. أسعدتني ليبرالية (اسو) فهو ترك العراق منذ حوالي خمسة عشر عاما، مهندس متفوق وبارز، مثقف لامع وقارىء صارم لثقافات بلغات عدة، درس في جامعات اوربية ما بين المانيا الاشتراكية وبريطانيا الآفلة، وصديق لا يصادر رأيك ولا يحكم مسبقا، هو مخلوق بشري من نوعية نادرة. قلت له : رجاء عالم الروائية والكاتبة السعودية في باريس وهي مثلي غير متحمسة لهذه الرحلة أيضا، ها، نحن اثنتان الآن. شعرت بخيبة أمله، شعرت ان الأمر لا علاقة له بالعاطفة العراقية ولا بالمواقف السياسية المتضاربة، انه أمر شخصي راهن عليه هو والآنسة جوستين بارد المديرة الجديدة للمشروع والتي وصلت في ذات الوقت - شهر سبتمبر من العام المنقضي إلى باريس، فصرنا ثلاثة. وما علينا الا تدبير الوقت للقاء والتشاور فيما بيننا. جوستين لديها قدرة بديعة على الإصغاء وبالتالي الاقناع، فاقتنعت بعد تردد طويل ومزعج للآخرين. يبدو أنني أمتلك بعضا من هذه الصفات فبعد تردد رجاء عالم وافقت على الرحلة، لأننا سنكون سويا. أعطينا موافقتنا لجوستين التي كانت في إجازة شخصية بسبب تفوقها في الحصول على درجة الدكتوراة فأهداها والدها هذه الرحلة إلى باريس واللقاء ببعض اقربائه. قدر من الطاقة والإرادة والاصرار كانت وراء دعوة ست كاتبات عربيات إلى الولاياتالمتحدة وعلى الخصوص بعد احداث الحادي عشر من سبتمبر. هي نوع من مواجهة لا مفر منها. الطائرة لن تغادر بدونك ولا أحد سيوقفك في المطار، كنت أقول ذلك لنفسي متكئة على حماسة السيد أسو. وحين ذهبت للقنصلية الاميركية نلت بركات سمة الدخول في اليوم ذاته مع غمزة حقيقية من عين إحدى المسؤولات وهي تشاهد جوازي وبه خارطة العراق وفي الوسط نخلة. كتب بالحبرين الاحمر والأخضر: سلطة الائتلاف المؤقتة، مكتب الارتباط ، القسم القنصلي، باريس والتمديد إلى العام 2006، فسرت غمزتها، بأنني الآن مواطنة تحت الاحتلال وما عليها الا رعايتي كما يجب فهذا جزء من الرعاية الامبراطورية. لن أدخل في تفاصيل الأسئلة ذات النفس المخابراتي والاستفزازي الشديدين والتي لم توجه لي في رحلتي السابقة، على الأقل ما يخص الدين والعشيرة والبلدة الخ. حين عرضت الفيزا الاميركية على مسؤولة السفارة الكندية لنيل الحظوة الثانية، سمة الدخول إلى كندا واللقاء بولدي الذي لم ألتقه منذ سنين ثلاث. نظرت الموظفة، فحصت وجلبت مكبرة ذات اشعاعات ثم قالت : معذرة مدام لا نقدر على منحك الفيزا فقد جدد الجواز بعد سقوط بغداد ومن الجائز ان يكون مزورا . حين أشرت إلى الفيزا الاميركية ضحكت بأدب وقالت، نعم انتم الآن تحت الاحتلال وتنالون الفيزا بأسرع من البرق، سامحيني سيدتي، ادعي ولدك لزيارتك في باريس . نعم إنني كاتبة ولدي كذا وكيت لكنني عراقية قبل جميع الأشياء، بلدي محتل فما عليّ الا تأمين درجة كافية من الانسجام، الإرادة، التواضع والتهذيب وأنا اتحدث عن بلدي. جميع الكاتبات وبدون استثناء كن هكذا. مرة واحدة اشتركنا بفعالية واحدة جميعا حين قرأنا في المكتبة المركزية ذات العراقة والفن، مكتبة ( BAY EllIOTT The ، اما الانشطة الباقية فلقد توزعنا ثلاثا ثلاثا، أو اثنتين على أربع، لم تنفرد واحدة منا بذاتها قط، دائما كنا أكثر من الأقلية. هذا جمال رصدته من جميع الزميلات وما رافقنا من نجاح واعجاب ورواج جنوني في بيع كتبنا. لقد أرسلوا إلينا مجموعة من الأسئلة العامة كمفاتيح للتحاور والنقاشات وبالفعل كانت محاور مهمة كشفت عن حرقة فعلية وهم حقيقي من قبل المسؤولين عن هذه الدعوة لتردي اسم ومكانة الولاياتالمتحدة في العالم وعلى الخصوص في العالمين العربي والإسلامي. عندما سئلت : هل هناك سوء تفاهم بين اميركا والعالم العربي، أجبت ؛ ان الولاياتالمتحدة لديها سوء فهم وتفاهم مع ذاتها بالدرجة الأولى، وهي لازالت ترانا كالقرود ونحن بالكاد نراها كطرزان، انفجرت قاعة الفنون بالضحك الصاخب. فذهب هذا الرأي مثلا. كنت أريد الخروج من بقعة التوتر في طريقة جلوسنا والأضواء مسلطة علينا والأجواء مشحونة بشيء من انتظار خطأ أو غلطة ما، وإذن، فما علينا إلا استخدام الطرفة والمرح. أظن ان هذه الإدارة لا تصغي أو تحاول الاقتراب منا الا على وقع التهديد والوعيد. لقد أبدعت وابتدعت اميركا طرقا لقياس الكون والمجرات واكتشفت امصالا ضد امراض مستعصية، وقدمت للعالم فتوحات في التكنولوجيا والزراعة والموسيقى والرياضيات والفيزياء أو ما يسمى بالمنظومة الكونية، لكنها غير قادرة على ابتداع طريقة جديدة أو مغايرة أو حديثة أو طليعية في التفاهم والتحاور مع العالمين العربي والاسلامي الإ بالصواريخ والدبابات والغزو والاحتلال. كنا موضوعا يصح استعماله من جميع الوجوه، مرة ضحية التخلف والمجاعات والفساد والامراض والغرب وهي بالذات واحدة من اسباب تخلفنا، وأخرى ترانا ارهابيين لو قلنا لها كلا وكلا، فيتوجب علينا الحرق التام. هذه الإدارة لم تنظر إلى الاوربي ايضا الا نظرة دونية فكيف بالعربي والمسلم، الافريقي أو الآسيوي. لم تبذل المؤسسات الاميركية جهدا للملاقاة ولو في منتصف الطريق. لا أحد على علمنا حاول التعرف على الآداب العربية التي تكتبها المرأة العربية، خارج الدراسات الاكاديمية والدراسات العليا. صدرت روايتي النفتالين اولا باللغة الانكليزية تحت يافطة مشروع كتابة المرأة العربية وهو مشروع ناهض ومهم كانت تديره الكاتبة والباحثة الاردنية فاديا فقير بالاشتراك مع دار النشر البريطانية كارنيت التي ترجمت لخمس كاتبات عربيات هن : سلوى بكر، ليانة بدر، هدى بركات، حميدة نعنع. وأنا. لم نقطف قرشا واحدا من هذه التراجم بالرغم من صيت المشروع وما كتب عنا هنا وهناك، ولولا محنة واحتلال العراق الدامي لما فكرت دار فمينيست بريس في نيويورك بالاتصال بيّ، وبعد كتابنا وكتابكم صدرت الطبعة الامريكية ونحن هناك في سياتل. لم تشغف أية دار نشر اميركية بصورة جدية ومحترمة بالأدب العربي، وحتى بعد حصول الكاتب الكبير نجيب محفوظ على جائزة نوبل، لم يشفع له أن يوضع على خارطة ولو لدار نشر صغيرة في أية ولاية من الولاياتالمتحدة. على العكس من فرنساوالمانيا وهذه الاخيرة التي بدأت بتسجيل الكثير من النقاط القوية لمجمل جهودها الثقافية بعدما بدأت بفتح معاهد غوتيه بدءا من المغرب وليس انتهاء باندونسيا. أما فرنسا فهي تحتاج إلى حلقات للكتابة عن بعض انشطتها على الخصوص وجود معهد العالم العربي بباريس مما جعل نكهة التلاقح الثقافي مع آداب العالم العربي ذات عبق جميل لا يزال يفوح على اوربا والغرب عموما. ٭٭ نعم، هناك في سياتل شعرت كم ان أدبنا مظلوم ومضطهد بالافكار المسبقة ومحكوم عليه بالخفة والاختزال مهما فعلنا أو نفعل فلا أحد يصغي إلينا فكيف نتوقع ان يقرأ أدبنا بهذه الغزارة التي حصدتها كتبنا جميع كتبنا. أعزو هذا إلى صاحب المكتبة السيد Rick Simonson المسؤول الأساسي في المكتبة المركزية في سياتل والذي قدم كتبنا كأرقى ما يكون التقديم وتحدث عن كل كاتبة بعدما قرأ وبحث عنها. لقد كانت لديه درجة من الايمان بكتابات المرأة العربية لم نشاهدها لدى أية دار نشر عربية قط. لقد قطفنا نجاحا موازيا لنجاح كتبنا ولا أظن ان نجاحنا كان له علاقة بلعبة الحظ، فلا واحدة منا استسلمت للحظ وانما للمثابرة والصبر وتقديم إرث شعبها وثقافة بلدها وخبرتها وتجربتها الشخصية كأفضل ما يكون التقديم. أهالي مدينة واشنطنالغربية بصفوف جامعتها العريقة التي استقبلتنا وليومين، شومان هاردي الشاعرة الكردية وأنا، ومدينة سياتل الديمقراطية والطليعية الذين جعلوا الاختلاف والتعدد الحضاري والثقافي يزدهر فنستطيع التحرك في فضاءات مغايرة ونذهب إلى شعوب جميلة وملامسة اقوام وقيم أخرى. فلماذا تريد هذه الادارة الاميركية ان تجعل منا شعوبا وأمما متماثلة وهذا ضد ما ينادي به الدستور الاميركي العام أصلا ؟