الجولة في مقديشو تدمي القلب، فهذه المدينة الجميلة بأشجارها الباسقة والوارفة على واحد من اجمل شواطئ المحيط الهندي هي عبارة عن بيوت من الصفيح الحار، يبلغ عدد سكانها حوالى 2.5 مليون نسمة، أبنيتها الضخمة المدمرة أو التي يحتلها المهجرون تخبر عن عز مضى، وهي خالية من الأبواب والشبابيك وشبكات الماء والكهرباء والصرف الصحي، وقد كانت يوماً من الأيام مؤسسات حكومية ومسارح وسفارات لكنها باتت اليوم مسكناً للمهجرين في بلدهم ينبت الشجر والصبار عند مداخلها وفي حدائقها. أما الذين لم يجدوا لهم موطئاً في هذه المباني فقد بنوا مخيمات في أنحاء مختلفة من المدينة، وهي عبارة عن أكواخ مصنوعة من جذوع الشجر المغطاة بقطع من التنك المغطى بأقمشة بالية متعددة الألوان والأحجام تغلف الكوخ لتقيه من المطر وحرارة الشمس. لكن ميسوري الحال يملكون بيوتاً من الطين مسقوفة بألواح من الزينك يطلى باللون الأحمر ليبدو عن بعد كأنه قرميد، ولكن الهدف الرئيس من طلائه تخفيف حرارة الشمس عن ساكني المنزل. وسكان مقديشو بغالبيتهم حفاة يحملون أجسادهم النحيلة في أثواب بالية، خيالاتهم تحكي قصة الظلم الذي يجتاح هذا البلد. وسيلة النقل الرئيسية لديهم هي الحمير، فهي الأقل كلفة، لأن الحمار يأكل ما يقدم له ولا يحتاج الى صيانة، لذلك فان سعره مرتفع يصل الى 300 دولار، اما بقية وسائل النقل فهي كل ما يمكن ان يركب، من حافلة الى سيارة صغيرة الى شاحنة أو حنطور. ويشكل رعي الماشية مصدر العيش الرئيسي للصوماليين إضافة الى الزراعة التي تضررت كثيراً بفعل الحرب وغياب الرعاية الحكومية، ومنذ العام 2000 قاطع العرب الماشية الصومالية بسبب إصابتها بالحمى القلاعية ينفي الصوماليون ذلك ويقولون ان المقاطعة سياسية ولا أسباب صحية لها فيما الصناعة تقتصر على المياه المعدنية والمرطبات الغازية بعد ان دمر قطاع الصيد وتعليب الأسماك. طعام الصوماليين في شكل عام هو لحوم الماشية التي تقدم مسلوقة الى جانب المعكرونة أو الرز، يأكلون بأيديهم التي يغسلونها في وعاء ماء من دون صابون، ويغسل الجالسون على المائدة أيديهم عادة في وعاء واحد. اما وسيلة التسلية الوحيدة فهي"تخزين القات"أي مضغ هذه العشبة المنبهة وتخزين الممضوغ في أحد جانبي الفم حتى الذوبان، وتشكل أثيوبيا المصدر الأساسي للقات المستهلك في الصومال. وتقول تقارير منظمة الأغذية والزراعة الدولية فاو ان المواطن الصومالي يعيش على أقل من دولار واحد في اليوم. العائلة هي النواة الأساسية لما يمكن ان يسمى مؤسسة في المجتمع الصومالي، وفي هذه العائلة، المرأة تعمل وتنتج أكثر من الرجل، فالمرأة تعمل في كل الميادين بدءاً من أعمال تنظيف الشوارع وصولاً الى الزراعة والرعي. وبعد العائلة تأتي القبيلة، وهنا يمكن القول ان النظام القبلي هو لعنة الشعب الصومالي ونعمته في آن خلال الحرب الأهلية، ففي الصومال أربع قبائل أساسية هي"الهواية"وپ"داروود"وپ"در"وپ"رحن وين"، اكبر هذه القبائل"الهواية"التي تشكل غالبية سكان مقديشو ومنها يتحدر رئيس الوزراء علي محمد جيدي كما كان يتحدر منها زعيما الحرب اللدودان محمد فرح عيديد وعلي مهدي، فيما يتحدر الرئيس الصومالي الحالي عبدالله يوسف احمد من قبيلة"داروود". وإذا كان الصراع القبلي شكل واحداً من مظاهر الحرب الأهلية فان وجود النظام القبلي خلالها شكل السلطة الوحيدة للإنسان الصومالي بعد انهيار الدولة، يلجأ إليها المتخاصمون لفض نزاعاتهم، والحكم الذي يلفظه زعيم القبيلة يعتبر مبرماً لا يرد ولا يستأنف. مع دخول القوات الأثيوبية الى مقديشو بدأت السلطات المركزية تعود الى المدينة وكان أول العائدين مقرا رئاسة الدولة ورئاسة الوزراء فيما لا يزال مقر البرلمان في مدينة بيداوا شمال غربي العاصمة، لكن تدابير انتقاله الى مقديشو بدأت وهي تحتاج الى بعض الوقت لإنجازها. اما الوزارات فلا تزال أسماء بلا أمكنة، وتشكل بعض الفنادق الواقعة في المربع الأمني الرئاسي مقراً شبه دائم لمعظم الوزراء. ويبلغ عدد أعضاء البرلمان 275 نائباً وهو يضم زعماء كل القبائل فيما يبلغ عدد الوزراء 31. اما السلطة النقدية في البلاد فهي شبيهة ببقية المؤسسات، فليس هناك سوى فئة واحدة للعملة هي فئة الألف شلن، والدولار الواحد يساوي ستة عشر الف شلن. الصحة والتربية ومثل قطاعات الخدمات في الصومال فان القطاع الصحي هو قطاع خاص فقط ويفتقر الى الأطباء والممرضين بصورة واضحة، إذ ان عدد الأطباء في كل الصومال لا يزيد علىن المئتين يخدمون خمسة ملايين نسمة، وثلثا الأطباء في العاصمة مقديشو فيما يتوزع الباقون على كل المحافظات، لكن هناك محافظات يتجاوز عدد سكانها النصف مليون نسمة وليس فيها طبيب واحد. ولا يوجد في كل الصومال أطباء للأمراض العقلية ولا جراحي قلب أو دماغ أو أنف وأذن وحنجرة أو عيون. مستشفى المدينة في مقديشو اكبر مستشفيات الصومال، كان سابقاً مستشفى للشرطة ومع انهيار مؤسسات الدولة في الحرب أصبح مستشفى خاصاً، يبلغ عدد الأسرة فيه خمسة وستون وعدد الأطباء ستة فقط من بينهم أربعة جراحين من خريجي روسيا واليمن وإيطاليا يتقاضى الواحد منهم مرتباً شهرياً يبلغ حوالى الخمسمئة دولار. كما يعمل في المستشفى خمسون ممرضاً وممرضة براتب شهري لا يزيد على المئة دولار. وعلى رغم ان اكبر عملية جراحية تجرى في المستشفى لا تزيد تكلفتها عن المئتي دولار فان قلة من الناس لديها القدرة على تحمل هذه الكلفة، لذلك تعتمد المساعدات الطبية التي تقدمها المؤسسات الدولية غير الحكومية. يقول مدير المستشفى الدكتور شيخ الدين صالاد علمي ان المستشفى يستقبل شهرياً حوالى مئتي مريض، وبسبب نقص الأسرة فيه تنشر فرش إسفنجية تحت الشجر في حديقة المستشفى للمرضى بعد إجراء العمليات الجراحية لهم. في وضع صحي كهذا يبطل العجب في أسباب كون معدل الحياة في الصومال لا يزيد على السبعة وأربعين عاماً بحسب أرقام منظمة الصحة العالمية. أما التعليم فغاب عن الحياة الصومالية مع بداية الحرب الأهلية عام 1991، وحتى العام 1996 عندما تداعى بعض المثقفين مع بعض الأهالي الى المبادرة الى فتح مدارس وجامعات خاصة. لكن الأوضاع الأمنية المتقلبة جعلت من الصعب مواصلة إرسال التلاميذ الى المدارس، كما ان الأقساط العالية نسبياً جعلت التعليم حكراً على الميسورين، إذ يتراوح القسط المدرسي بين عشرة دولارات شهرياً في المرحلة الابتدائية الى أربعين دولاراً شهرياً في المرحلة الثانوية. أما في الجامعات فيبلغ القسط السنوي بين 400 دولار للكليات النظرية و800 لدراسة الكومبيوتر. وفيما يبلغ مرتب المعلم حوالى المئة دولار شهرياً فان مرتب الأستاذ الجامعي يبلغ حوالى 500 دولار وقد يصل الى 1500 دولار بحسب المادة التي يدرسها. ويبلغ عدد المدارس في مقديشو حوالى مئتي مدرسة فقط، وتشكل الثقافة الإسلامية العمود الفقري لكل المواد الدراسية، فهناك مدارس متخصصة بتدريس القرآن الكريم وهي عبارة عن كتاتيب تقدم وجبات طعام مجانية لطلبتها، ويتم التدريس فيها وفق منهج التحفيظ، وعندما يعود التلميذ الى بيته يكون عليه ان يكتب بالفحم على ألواح خشبية الآيات القرآنية التي حفظها ليقدمها الى المدرس في اليوم التالي. كما ان مادة الثقافة الإسلامية تشكل أحد المقررات الإلزامية في المدارس وفي الجامعات، وكان البنك الإسلامي للتنمية أنشأ أول كلية للتربية في جامعة مقديشو خلال الحرب، كما تبرع ببناء كلية تمريض وقدم بعض المختبرات. وفي أوضاع كهذه فان نسبة الأمية تبلغ 88 في المئة وهي الى ارتفاع بحسب منظمة اليونيسكو. المواصلات والاتصالات وفي الإمكان القول ان قطاع الاتصالات في الصومال هو نفط البلاد حالياً على رغم غنى البلاد بمناجم الذهب والماس واليورانيوم وكلها غير مستثمرة. هناك أربع شركات هاتف خليوي وهو وسيلة الاتصال الوحيدة في البلاد وهذه الشركات هي"تلكوم"وپ"هورمود"وپ"سوموفون"وپ"نيشن لينك"، وقد بدأ قطاع الهاتف الخليوي في العمل مطلع العام 1994 على ايدي مجموعة من رجال الأعمال الشباب الذين عرفوا من اين تؤكل الكتف في ظل الانهيار التام لخدمات الهاتف العام، اذ ان الميليشيات المتحاربة كانت بحاجة لوسيلة اتصال، فبدأوا العمل بتسهيل من الميليشيات، ويقول مسؤول في إحدى الشركات ان كل ميليشيا كانت تتقاضى ما يساوي مئة دولار بث هاتفي هوائي شهرياً لحوالى 22 خطاً هاتفياً مقابل تسهيل عمل الشركة، وعند سيطرة المحاكم الإسلامية لم تدفع الشركات اي شيء لتسهيل عملها بحسب قول هذا المسؤول. وقال المدير العام التنفيذي لشركة"تلكوم"عبدالله محمد حسين ان لدى شركته حوالى 85 ألف مشترك و18 محطة في الصومال إضافة الى حوالي 40 ألف مشترك وثماني محطات في"صومالي لاند"ويدير هذه المحطات أربعة مهندسين فقط. وفيما رفض حسين الكشف عن أرقام أرباح شركته أو رأسمالها قال ان أرباح الشركة تصل الى الخمسين في المئة من إجمالي رأس المال وان ثمن سهم الشركة يبلغ ألف دولار وان لديها حوالى 150 حامل اسهم وان الحد الأدنى المسموح به في شراء الأسهم هو ثلاثة. أما بطاقات الدفع المسبق للهاتف الخليوي فهي من فئات الدولار الواحد والدولارين والخمسة دولارات فقط. أما طرقات البلاد فهي عبارة عن شوارع ترابية تفتقر الى الإسفلت بمعظمها، كما تفتقر الى يافطات بأسماء الشوارع والاتجاهات، وفيها مطارات عدة ابرزها مطار مقديشو الذي يبلغ طول مدرجه اليتيم 2700 متر ويستقبل يومياً حوالى 300 راكب على شركات خاصة هي"افريكان اكسبرس"كينية وپ"جيبوتي اير"جيبوتية وپ"دالو اير"وپ"جوبا اير"صومالية. وعن نسبة الأمان على هذه الطائرات قال أحد المسؤولين الصوماليين لنا:"الأعمار بيد الله". أما برج المراقبة في المطار فيفتقر الى ابسط مقومات الملاحة الجوية، فكل ما فيه من معدات هو منظار حربي وجهاز لا سلكي يدوي وهاتف خليوي. وعاش ميناء العاصمة مقديشو عهده الذهبي في أيام الحرب الأهلية، عندما شكل اكبر معبر لتهريب البضائع من أنحاء العالم الى معظم الدول الأفريقية، فلم يكن هناك ضرائب على البضائع التي تصل الى المرفأ وكان المبلغ الذي تتقاضاه الميليشيات زهيداً جداً، حرصاً منها على استمرار تدفق البضائع واستمرار مداخيلها من المرفأ. ولكن، مع إحكام المحاكم الإسلامية قبضتها على البلاد في العام الماضي، خضع المرفأ لمراقبة مشددة من البحرية الأميركية المنتشرة في المحيط الهندي وبحر عدن، وباتت الحركة منه واليه شبه مشلولة إلا من بعض السفن التي تنقل مواد غذائية الى الصومال او الجلود من الصومال الى الخارج. تعيش الصومال اليوم هدوءاً نسبياً بعد هزيمة"المحاكم الإسلامية"لكن التحدي الأكبر أمام الحكومة الحالية المدعومة من أثيوبيا هو تثبيت الأمن وإعادة بناء مؤسسات الدولة وإطلاق ورشة إعادة البناء في ظل استمرار"المحاكم الإسلامية"بأعمالها العسكرية من وقت لآخر لإرباك حركة الحياة. وفي هذا التحدي يحتاج الصومال بحسب أرقام الأممالمتحدة الى ما يقارب بليوني دولار لإعادة البناء، وعلى رغم عدم توافر المتحمسين للمشاركة في هذه العملية فإن القلة المتوافرة تنتظر استقرار الوضع الأمني الذي لن تظهر نتائجه قبل عام على الأقل. والى ذلك الحين يبقى الوضع على ما هو ويبقى الصوماليون فريسة الجوع والقهر والظلم الاجتماعي.