عندما حاصرت القبائل الصومالية المنتفضة على الحكم العاصمة مقديشو في مثل هذا الشهر قبل عشر سنين، قال الرئيس الصومالي، آنذاك، الجنرال محمد سياد بري أمام مجموعة من قبيلته مريحان في مقره الرئاسي "فيلا صوماليا" وسط المدينة: "عندما تسلمت مقديشو في العام 1969، لم يكن فيها طريق معبد واحد، ومبانيها كانت تُعد على أصابع الكف الواحدة ... لن اغادرها إلا كما تسلمتها". لم يستطع سياد بري تنفيذ كل تهديده، تماماً، قبل فراره من "فيلا صوماليا" في 26 كانون الثاني يناير 1991. لكن القبائل المسلحة المناوئة له تولت تنفيذ بقية التهديد عندما بدأت نزاعاً على السلطة في ما بينها تحول حرباً أتت على ما تبقى من المدينة وتوسعت خارجها لتشمل الصومال كله. لجأ سياد بري، بعد فراره من مقديشو، إلى مسقط رأسه في بلدة غربهاري جنوبالصومال، ثم إلى العاصمة الكينية نيروبي، حيث استقر حوالي أربعة اشهر غادر بعدها إلى أبوجا العاصمة السياسية لنيجيريا حيث توفي بعد عام. القبائل الصومالية واصلت حربها ونزاعها على السلطة، وصار لكل من فروعها الرئيسية فصائل مسلحة أطلقت عليها أسماء عدة "جبهة، وحركة، وتحالف، وحزب، واتحاد - للانقاذ أو للمقاومة"، وغير ذلك. ولم تنسَ أن تضيف كلمة ترمز إلى "الوطن أو الوطنية"، في حين كانت كلها تجمعات قبلية لم تخرج قط من دائرة القبلية التي تنتمي إليها والمتقوقعة داخلها. حل النزاع كان يتطلب وفاقاً يضمن تقاسم السلطة... لم ينجحوا في الاتفاق، فحاول كل منهم القضاء على الآخر ليسيطر أقواهم على البلد. لكن الصومال كان أكبر من كل منهم على حدة، وقبائله وفروعها كثيرة تتجاوز المئة. فكان فصيل يكبر ويقوى لبعض الوقت قبل أن يضمر ليقوى غيره. تدخل المجتمع الدولي، فأرسل حوالى 33 ألفاً من قواته لإنهاء الحرب ووقف المجاعة التي راح ضحيتهما نحو 400 ألف صومالي. لكن القبلية الصومالية هزمت حتى المجتمع الدولي، فحملت قواته عتادها ورحلت عنه في 1995، فواصلت القبائل لعبة الحرب. وفي فترات استراحة المحاربين كان قادتها يحاولون الحوار خارج بلدهم، فوقعوا أكثر من 13 اتفاقاً كانوا يخرقونها. وفي منتصف السنة الماضية، التقت القبائل الرئيسية الخمس مجدداً در، هوية، داروود، رحنوين والأقليات في منتجع عرتا الجيبوتي، واتفقت قبل نحو أربعة اشهر على تعيين 245 شخصاً لتمثيلها في برلمان انتخب أعضاءه في نهاية آب اغسطس الماضي الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن أول رئيس للصومال منذ بداية الحرب قبل عشر سنين. لكن هل انتهت الحرب فعلاً مع هذه التركيبة الجديدة للصومال؟ { يوسف خازم، الذي زار الصومال بداية الحرب وخلال السنوات العشر الماضية، وعاد اليه أخيراً، التقى في عاصمته مقديشو الرئيس الجديد والفصائل المعارضة له، وتجول في شوارع المدينة وعاد بتحقيقات وصور عن التغييرات في الصومال خلال عقد من الحرب. مقديشو في عهد الرئيس الجديد... أي تغير؟ ... وأخيراً صار للصومال رئيس هو الدكتور عبدي قاسم صلاد حسن بعد عشرة اعوام من الحروب والمجاعة، واعترف كل العالم به وبحكومته الانتقالية. إذاً... سيعاد افتتاح ميناء العاصمة ومطارها كما تعهد الرئيس، وستسلم الميليشيات القبلية سلاحها، ويعود الأطفال الى مدارسهم، وسيوقف سوق بكارا المشهور في العاصمة بيع السلاح والذخائر والقات والبضائع المهربة ليعرض مكانها سلعاً استهلاكية مُجمركة، وسينتشر رجال جهاز الشرطة الجديد في المدن والجيش على الحدود. ابتسم عبدي حاشي وزملاؤه من نزلاء "فندق شامو" في جنوب مقديشو بعد سماعهم هذا الكلام، حدقوا ببعضهم بعضاً قبل ان يُعلق حاشي ويقول : "لا بل هو الرئيس حاكم على جزء من مقديشو فقط. فما بالك بالصومال كله". ثم مر بنظرة سريعة على زملائه كأنما يحاول استطلاع رد فعلهم من وجوههم، ثم تابع : "سئمنا الحرب والعيش تحت رحمة المسلحين والاتاوات التي يفرضها علينا زعماؤهم. ولا يهمنا كثيراً الى اي قبيلة ينتمي الرئيس ووزراؤه، فما نريده هو سلطة تعيد الينا الامن كي لا نجوع ونعيش بكرامة ونرسل اطفالنا الى المدارس من دون ان نخشى تعرضهم لاطلاق نار في الشارع". تقسيم قبلي لم يستقبلني مراسل "الحياة" في مقديشو يوسف حسن لدى هبوط طائرة شحن القات الصغيرة التي اقلتني من نيروبي الى مدرج مطار الجزيرة المقابل لشاطئ مقديشو. فالمطار يقع في "جيب"، بحسب ما ذكر الرئيس صلاد حسن ل"الحياة"، تابع لمنطقة تدعى مدينة في جنوب العاصمة ويسيطر عليه المعارضان زعيما الميليشيا موسى سودي يلحو والعقيد عبدي حسن كايبديد اللذان مهدا ارض مدرج الجزيرة. وربما لذلك اصر يوسف حسن، الذي ينتمي الى قبيلة الرئيس، على ان استخدم طائرة اخرى تهبط في مطار "كيلو 50" الذي يبعد 50 كيلومتراً عن مقديشو حيث يمكنه لقائي متجنباً بذلك دخول مطار الجزيرة واحتمال حصول اي احتكاك مع ميليشيات المنطقة. كان في استقبالنا اصحاب جوالات القات التي حملتها الطائرة، وفيما كانوا يتسابقون لسحبها من الطائرة، انتشلني منها مسلحان بعدما تأكدا من هويتي. وبسرعة مذهلة وجدت نفسي داخل سيارة "رانجروفر" فيها مسلحان آخران. انطلقنا وامامنا سيارة اخرى من نوع "تويوتا" مكشوفة يستقلها خمسة مسلحين يُطلق عليهم اسم "تكنيكلز" كان يوسف حسن استأجرهم وارسلهم لمرافقتي. عبرنا منطقة مدينة سريعاً قبل ان نصل الى "فندق شامو" الذي يبعد مسافة نحو 15 كيلومتراً عن المطار. شوارع المدينة نفسها غاب عنها التوتر الذي كنت الاحظه خلال زياراتي السابقة قبل انتخاب صلاد حسن رئيساً. إذ اختفت تجمعات المسلحين قرب "الكيلو خمسة" حيث يقع "فندق الصحافي". ووجوه سكان المدينة، على غير المعتاد، كانت توحي بالارتياح، فالاسواق تعج بالبضائع والمتسوقين. بائعو الوقود احتلوا جانباً من أحد الشوارع، فيما اكتظت اكشاك بائعي الحلوى بالصائمين في آخر ايام رمضان. لحوم ذبائح البقر والغنم معلقة في اكشاك اخرى في جهة مقابلة من الشارع يحاول بائعوها طرد كميات كبيرة من الذباب الذي لا يرحل بسهولة ويعود ثانية. شارع الحرية مكتظ ايضاً، وعبرته سيارتنا بصعوبة بين المشاة حتى وصلنا الى "ثكنة مصلح" ابن سياد بري التي تحتلها حالياً قوات المحاكم الاسلامية. وفيما كنت اتحدث الى قائد الثكنة محمد محمود احمد، لاحظت عشرات من قوات المحاكم يحاصرون السيارة التي ترافقني وفيها عناصر ال"تكنيكلز" المسلحين. وعندما استوضحت الامر، علمت ان شبان المحاكم كانوا غاضبين لدى رؤيتهم مرافقي يمضغون القات وضح النهار في رمضان. وفُك الحصار عن السيارة بسلام بعد تلقي عناصر ال"تكنيكلز" محاضرة دينية عن واجبات المسلم في رمضان. الجنسية الصومالية غادرنا "ثكنة مُصلح" الى "فندق شامو" لاستراحة قصيرة سألت خلالها موظف الفندق عبدالقادر عما إذا كان في امكاني الحصول على جواز سفر صومالي من الجهات المعنية حالياً في البلاد. فأجاب :"نعم ، ثلاثون دولاراً وصورة شخصية وسيكون الباسبور بين يديك في غضون نصف ساعة، وعليه كل الاختام والتواقيع الاصلية". حصلت على الجنسية الصومالية خلال نصف ساعة، كما وعد عبدالقادر، كتبت المعلومات المطلوبة على وثيقة سفري الجديدة واخترت مدينة كيسمايو الجنوبية مكان ولادتي ولم اُغير تاريخ ميلادي. ثم انطلقت برفقة ال "تكنيكلز" الى قلب العاصمة. قلب المدينة وسط مقديشو الذي كان يُعرف خلال الحرب ب "الخط الاخضر" الذي يفصل بين شطرها الجنوبي والشمالي، كان كما عرفته في السنوات السابقة مقفراً نبتت في شوارعه ومبانيه الاعشاب وعرشت فيها النباتات التي غطى بعضها الطوابق الاولى منها. لكن الكاتدرائية الايطالية التي شُيدت ايام الاستعمار الايطالي، عندما كان هذا الجزء من البلاد يعرف باسم "الصومال الايطالي"، سويت بالارض. وفي فيالا، او شارع ، روما ومحاله التجارية انتشرت الكلاب الضالة، فيما فنادق العروبة وجوبا وشبيللي ما زالت تحن الى ضوضاء نزلائها الذين غادروها في مثل هذا الشهر عام 1991 ، فهل يرجعون اليها في عهد صلاد حسن؟. كيف بدأت الحرب؟ كانت هزيمة الجيش الصومالي في حربه مع اثيوبيا 1977- 1978 لاستعادة منطقة الصومال الغربي اقليم اوغادين منها، بداية نهاية نظام الرئيس الصومالي محمد سياد بري. إذ دمرت تلك الحرب اقتصاد بلاده واحبطت معنويات قواته وشعبه، وتخلى عنه حلفاؤه الشيوعيون في حين استقطبه الغرب من دون تقديم مساعدات كافية تسمح له باعادة تثبيت سلطته وبناء اقتصاد بلاده ما بعد الحرب. وعبرت مجموعة من ضباط الجيش عن احباطها، فنفذت اول محاولة انقلابية بعد الهزيمة في نيسان ابريل 1978 لاطاحة سياد بري، لكنه سحق منفذي الانقلاب بعنف وشدد قبضته الحديد في كل البلاد. فانعكس ذلك مزيداً من التذمر داخل المجتمع الذي كان يعاني من ترد سريع في احواله المعيشية. "مانيفستو مقديشو" استمر هذا الحال في التراجع نحو الاسوأ وبلغ ذروته مطلع 1990. وفي ايار مايو من تلك السنة عقد 114 من اعيان وزعماء كل القبائل الصومالية اجتماعاً سرياً في مقديشو، واصدروا بياناً طالبوا فيه الرئيس سياد بري بالتخلي عن السلطة وتشكيل حكومة انتقالية، وحملوه مسؤولية تردي الاوضاع الاقتصادية والامنية في البلاد. وعرف هذا البيان باسم "مانيفستو مقديشو الاول" وموقعوه باسم "جماعة المانيفستو". واعتقل سياد بري 40 شخصاً من اعضاء "المانيفستو" بتهمة التآمر لاطاحته وفر الباقون. وادى ذلك الى تجييش ابناء القبائل التي اعتقل زعماؤها او فروا خارج البلاد، فبدأوا ينظمون انفسهم ويستعدون للقتال، فأيقن سياد بري انه استفز اسس التركيبة الاجتماعية القبلية في البلد، واطلق المعتقلين في 15 تموز يوليو. لكن خطوة الرئيس المحبط جاءت متأخرة جداً، إذ كان السلاح انتشر في ايدي المواطنين الذين عادوا الى اصولهم القبلية. وكان حراس الرئيس، قبل نحو عشرة ايام من افراجه عن الزعماء القبليين، اطلقوا النار في حضوره على حشد في استاد مقديشو خلال افتتاح بطولة اقليمية لكرة القدم وقتلوا اكثر من مئة مواطن. تحالف ثلاثي ... وفرار بري وفي الثاني من تشرين الاول اكتوبر 1990، انعقد تحالف عسكري ثلاثي ضم كلاً من زعيم "المؤتمر الصومالي الموحد" الجنرال محمد فارح عيديد الذي ينتمي الى قبيلة هوية التي تقطن وسط الصومال، وزعيم "الحركة الوطنية الصومالية" عبدالرحمن احمد علي الملقب ب "تور" وينتمي الى قبيلة اسحاق في شمال الصومال، وزعيم "حركة الوطنيين الصوماليين" الكولونيل احمد عمر جيس الذي ينتمي الى قبيلة اوغادين في جنوبالصومال. وبعد ايام من توقيع اتفاق التحالف العسكري، زحفت قوات الفصائل الثلاثة في اتجاه العاصمة مقديشو التي كانت تشهد توتراً وصدامات بين متظاهرين والشرطة وتفجيرات متقطعة. وفي تشرين الثاني نوفمبر 1990 استولت قوات عيديد على مدينة بلعد التي تبعد مسافة 32 كلم جنوب مقديشو، وواصلت زحفها في اتجاه العاصمة التي شهدت في 28 من الشهر نفسه اول معارك في شوارعها. وفي 24 كانون الثاني يناير 1991 سيطرت قوات تور على مدينة بربرا ومينائها في اقصى شمال البلاد ثم احتلت هرغيسا عاصمة الشمال. في حين سيطرت قوات جيس على مدينة كيسمايو ومينائها في جنوبالصومال. وبعد إحكام الطوق على العاصمة واستيلاء المعارضة المسلحة على المدن الرئيسية الثلاث، فر سياد بري من قصره الرئاسي "فيللا صوماليا" وسط العاصمة في 27 كانون الثاني يناير 1991 الى مسقط رأسه بلدة غربهاري في اقصى الجنوب. وفي حين كانت قوات عيديد تطارد سياد بري في الجنوب، قررت قبيلته هوية تعيين رجل الاعمال علي مهدي محمد، الذي ينتمي الى فرع ابغال من القبيلة نفسها، رئيساً موقتاً للصومال. علي مهدي يسرق الرئاسة؟ عاد عيديد، الذي ينتمي الى فرع هبرجدر-سعد-جلف من القبيلة نفسها، الى مقديشو حيث بدأ نزاعاً مع علي مهدي معتبراً انه سرق الرئاسة منه ومن حلفائه تور وجيس. وعندما استشرى النزاع بين الرجلين، عاد تور الى شمال الصومال خمسة اقاليم واعلنه دولة مستقلة اطلق عليها اسم "جمهورية ارض الصومال" برئاسته، ويرأسها حالياً محمد ابراهيم عقال. وفي شمال شرقي البلاد، اعلن زعيم "الجبهة الديموقراطية لانقاذ الصومال" العقيد عبدالله يوسف احمد دولة اخرى باسم "بونت لاند" بلاد بونت. واستشرت العصبية القبلية بين الصوماليين الذين انضم كل منهم الى فصيل مسلح تقوده قبيلته للسيطرة على اكبر مساحة ممكنة من البلاد عبر معارك استمرت عشرة اعوام.