فلنعر اهتمامنا، أيتها الرعية الكريمة، إلى مسألة معقّدة هي إيمان غوردون براون. فساسة أوروبا الغربية لا يحيدون عن شعار أليستير كامبل الشهير، "الأمور الدينية ليست شأننا". فهم على يقين من أن أضعف نفحة دينية تبث الخوف في ناخبيهم العلمانيين. والأرجح أن يتكلم غوردون براون، في خطبه الآتية، على الوظائف وليس على سفر أيوب. ولكن باعث رئيس وزرائنا العتيد على السياسة. يبقى في الظل ما لم نتطرق إلى موضوع ديانته. فالإيمان المسيحي هو الحاكم في نظرته إلى العالم فوق ما كان في حال توني بلير. ولعل غرابة المسألة هي أن براون يتولى الحكم في بلدٍ معظم سكانه غير متدينين. فمن هو المعبود الذي يعبده براون، وكيف يؤثر في حكمه بريطانيا؟ فغالبية الأوروبيين تحمل الدين، وعلاقته بالسياسة، على مبشرين يخطبون الناس على شاشات التلفزة، ويزعمون أن المسيح يلهم الناخبين الاسم الذي عليهم خطَّه على ورقة الاقتراع. وعلى هذا، فالمسيح لا يفارق المرشح الجمهوري الأميركي. وهو يبارك الأثرياء، ويضرب المثليين بتاج الشوك. والمثال الجلي على هذا هو الراحل جيري فالويل. ففالويل قال، عشية انتخابات 2004 الرئاسية:"يخبر الربّ بأن انتخابات 2004 الآتية تحد عظيم، وهو بارك بوش ولا حساب على ما يفعله الرئيس، حسناً أم قبيحاً". ولكن المسيحية تبطن تقليداً سياسياً ثانياً هو التقليد الذي ينتسب إليه براون. ففي أواخر القرن التاسع عشر، كانت المسيحية في الدول الناطقة بالإنكليزية، قوة احتجاج تناصر حركات تحامي عن الفقراء. وها إن الحياة تدبّ من جديد في القلب المسيحي هذا بعد سبات عميق. وشهدت السنوات السابقة ردّ الاعتبار، على ضفتي الأطلسي، إلى تيارات مسيحية واجتماعية استرسلت في غيابها. وتربى براون على صيغة المعتقد الاجتماعي البريطانية. فوالده، جون براون، كان قسّاً في كنيسة اسكتلندا، وأثّرت فيه مشاهد الحرب العالمية الثانية بغلاسكو، أي الفقر المدقع الذي كابده أطفال هذه البلاد. وفي أوائل التسعينات، شرح براون الابن عقيدة أبيه فقال:"كان أبي مسيحياً اشتراكياً أكثر منه أصولياً. وكان بابنا مفتوحاً للناس على الدوام. وأنا، ابن القسيس، كنت قريباً جداً من المعاناة التي تصيب الناس، وهي قاسية جداً في أغلب الأحيان". ويرى رئيس وزرائنا العتيد نفسه قريباً من مبادئ كنيسة اسكتلندا، المتمردة على الامتيازات والمنددة بأصحابها. وهي انشقت، في 1843 عن كنيسة إنكلترا، وأصرّ أعيانها على حقهم في اختيار قسّيسيهم ورفضوا أن تملي عليهم الطبقات العليا من يتولى هدايتهم. واختصر براون المسألة بقوله:"رفضوا أن يكونوا رهن إرادة اللوردات". وأقام براون، طوال شبابه، على نازع المساواة هذا. ولكن ما هو أثر هذا العملي في سياسات براون المتوقعة؟ مال براون، في 2005، إلى كتاب كتبه القس جيم واليس، ووسمه بعنوان"سياسات الله: لم يخطئ اليمين الأميركي فيما لا يفقه اليسار شيئاً". ويدين الكاتب تشديد اليمين"على الشؤون الجنسية والثقافية متجاهلاً شؤون العدالة الأهم". ويهاجم الكتاب السم الفالويلي، مقدار ما يدين ما يسميه"العلمانية الأصولية". فالعلمانيون، على ما يرى واليس،"يخطئون في اعتقادهم أن الروحانيات لا علاقة لها بالتغيير الاجتماعي"، ويؤمن بأن الدين يجب أن يحفز الناس على السعي في تحقيق"العدالة"للفقراء. ويناصر واليس انبعاث"الديانة النبوية". ويضيف:"ليست النبوة استشراف المستقبل، فهي أولاً إثبات الحقيقة الأخلاقية. والأنبياء يقاضون الحاضر، ويبينون طريق الجواب الصالح". ويحتج لرأيه بأن المجتمعات حين يحكمها العدل والمساواة لا تحتاج إلى ظهور الدعادة والمرسلين. ويزعم براون أنه إنما"يصغي إلى"رسائل الأنبياء"يلغي بعض ديون أفريقيا، ويضاعف مساعداتها، ويزيد حصة الأطفال الفقراء من الضرائب البريطانية. ولكنه يخالف هذا المنطق عندما يترك أصحاب الثراء الفاحش يفلتون من الضرائب. وهذا الضرب من التفكير يصيب أمثالي بأزمة. فأنا أعتقد أن الإيمان يؤدي حتماً إلى انحراف في التفكير. ولكن بينما يتعاظم أثر الدواعي التي تحمل رئيس الوزراء البريطاني على الميل إلى اليمين، وتملق الأثرياء، ألا ينبغي أن نفرح بالدواعي التي تحمله على الانتصار للفقراء؟ وإذا كان الإيمان هو السبب في شحذ أفضل غرائز براون وتهذيب أسوئها، أيليق بنا أن ندين إيمانه؟ والحق أن جيم واليس، قدوة براون، يناهض الإجهاض وزواج المثليين إلخ. ومن دواعي القلق أننا لا نعلم شيئاً عن رأي براون في هذه المسائل. وثمة معضلة سياسية ثانية قد تقيد براون، ومصدرها تدينه، هي توسيع المدارس الدينية. فالحكومة البريطانية الحالية تروج لتقسيم بريطانيا إلى معاقل تربوية دينية وإثنية لا يختلط فيها التلامذة بعضهم ببعض. وهذه الخطة وصفة للتقسيم العنصري والكراهية. وقد يحول تحيز براون الديني، واعتباره الدين قوة إيجابية، دون سعيه في علمنة مدارسنا. وفي ضوء ما سبق، يبدو غوردون براون مشاكساً وغامضاً. وهو، في أفضل صوره يميل إلى مساعدة الفقراء ويكره الامتيازات المتوارثة. وأما في أسوأ أحواله، فيروقه تقسيم الناس شيعاً ومدارس مختلفة يعبدون خالقهم كل على طريقتهم. عن يوهان هاري، "اندبندنت" البريطانية، 28/5/2007