يقول طارق متري، في مجال تحليل تطور أفكار الانجيليين المحافظين تجاه اسرائيل عندما كان الرئيس كارتر وهو واحد منهم في الأصل يسعى لسلام في الشرق الاوسط: "... خلال اسابيع معدودة ارتفعت نبرة الانجيليين المحافظين وصدر اعلان في معظم الصحف الاميركية الرئيسية يقول: آن الأوان لأن يؤكد المسيحيون الانجيليون ايمانهم بالنبوءات الكتابية وحق اسرائيل الإلهي في الأرض... وانهم ينظرون بقلق شديد الى اية محاولة لاقتطاع وطن او كيان سياسي من الوطن اليهودي. وازدادت اعداد المتراجعين عن تأييد كارتر حتى هزيمته امام ريغان، والتي لعبوا فيها دوراً لا يُستهان به". ونحن نعرف ان العامل الحاسم في هزيمة كارتر ما كان إقدامه على التوسط في السلام بين مصر واسرائيل، بل ازمة الرهائن الاميركيين في السفارة الاميركية في طهران، والتي استمرت زهاء الاربعمئة يوم، وشملت اكثر من ثلاثمئة اميركي. واذا عنى ذلك شيئاً، فهو يعني من جهة ان ليس من السهل - في ما وراء المسيحيين الصهاينة - تحديد مقدار التأثير ذي الخلفية الدينية في دعم اسرائيل، ومن جهة ثانية يمكن التأريخ لبدايات التأثير الانجيلي المحافظ في العمل السياسي، وصول الرئيس جيمي كارتر الى سدة الرئاسة، وهو واعظ انجيلي من الانجيليين المحافظين، المتحركين خارج الكنائس الكبرى او الرئيسة السبع. ومع ان الانجيليين المحافظين هؤلاء لا ينتمون الى تنظيمات او كنائس منضبطة، فإن كارتر كان وما يزال واقعاً في صلب اتجاههم. لكن على رغم ذلك، فقد هزمه رونالد ريغان، الذي لا يمكن اعتباره انجيلياً بالمعنى الكارتري، لكنه إضافة الى خطابيته ذات الالغاز الدينية، كان في ما يبدو من التحقيبيين المؤمنين بنهاية الازمنة، والامارات النشورية المرتبطة بها استناداً الى سِفْر دانيال ورؤيا يوحنا. يجمع كتاب طارق متري خمسة امور: الخريطة الدينية لأميركا المعاصرة، مع استعراض موجز لتواريخ النهوض الديني والموجات الانجيلية العالية، والكنائس الاميركية الرئيسة السبع وأسباب تراجع تأثيرها، وصعود الانجيليين المحافظين الذين لا يسهل قياس حجمهم لكنهم بالتأكيد اكثر عدداً وأكبر تأثيراً من الكنائس التقليدية، والمسيحية الصهيونية ومدى نموها وتأثيرها الحقيقي في السياسات تجاه الشرق الاوسط واسرائيل، وموجة العداء للاسلام قبل 11 أيلول سبتمبر 2001 وبعده. وتتقدم دراسة هذه الظواهر الخمس او تتخللها تأملات في مسائل مثل: الرسالة الاميركية، او الاستثناء الاميركي والمدى الحقيقي للوعي بها وبه، ومعنى الدين المدني او العام الذي يشترك فيه سائر الاميركيين، ومعنى مصطلح الاصولية والعلائق القديمة والمستجدة للدين بالسياسة. الاصولية الاميركية اصولية انجيلية في الاساس، وان قلّدها بعض الكاثوليك. وهي تعني احياناً نزعة "حروفية" في فهم نبوءات العهدين القديم والجديد. لكن بقليل من التأمل يتبين ان في كل الاحوال لا بد من نوع من انواع التأويل والتحوير والاستبدال، شأنها في ذلك شأن الاصولية الاسلامية او الهندوسية او البوذية. انما البارز فيها انها طليقة السراح، لأنها غالباً نوع من التمرد على المؤسسة الضابطة او المنظمة. والواقع ان هذه الظاهرة ظاهرة السراح الطليق بحدود معينة تقع في اصل البروتستانتية، التي هي في الاساس تمرد على صرامة الكنيسة في الكاثوليكية. بيد ان هذه الفرادة تظل محدودة ايضاً، لأن الاصوليات في الاديان الاخرى تشكل ضروباً على المؤسسة او التقليد، في الوقت الذي تدّعي فيه العودة الى الاصول في شكل رمزي. انما الفريد حقاً في الامر هو التكوين الاميركي، والذي يتضمن ايماناً عميقاً بالتفرد والاستثنائية والرسالية حتى لدى كثير من العلمانيين. وهذا هو الجامع في "الدين المدني" الاميركي، الذي يرى في شبه القارة ومهاجريها "مدنية على جبل" بحسب تعبير الانجيل بأحد معنيين: التفوق على العالم والانعزال عن فساده، او الاتجاه لتبشير العالم وقوده نحو هذا النموذج السامق للايمان بالحرية والكرامة والطهورية والخلاص. والواقع ان هذا الاقتناع والاعتزاز القومي/ الديني يقع في اصل انفلات موجات التمظهر الاصولي، الذي ادى في الحقبة الحاضرة الى هذه الكتلة الهائلة 40 الى 50 مليون من الانجيليين المحافظين، كما يسميهم طارق متري، وأرى الافضل تسميتهم بالإنجيليين الجدد، او المولودين ثانية، او من جديد، كما يسمون انفسهم. وصحيح ان هؤلاء المتطهرين يميلون للفردانية، ويستلهمون التجربة الشخصية في المسيح. لكنهم ايضاً يصغون لنداءات ونبوءات العهدين القديم والجديد. وعندما تبرز لديهم التجربة الفردية في الخلاص تظهر احاسيس ومشاعر المحبة والعدالة. اما عندما تغلب دواعي الايمان بظواهر النصوص وما تتضمنه من نبوءات، فإن البارز عندها لديهم النذر والبشارات بنهاية الازمنة وبالنشوريات وعودة المسيح او رجعته، وارتباط ذلك باليهود ومملكتهم بحسب الرؤى، والتي تتحول في النهاية مملكة للمسيح. وهكذا تتضرع على ذلك مظاهر وظواهر التضامن مع اسرائيل التي يتطرف فيها المسيحيون الانجيليون الصهاينة، وتظل تلك الميول ملحوظة لدى المعتدلين ودائماً من الانجيليين المحافظين او الجدد. وقد تبدو هذه الظواهر والمعتقدات غريبة لأول وهلة. لكنها معروفة لدى سائر الديانات المؤسسة على نص مقدس او شخصية مقدسة، والتي لا تنضبط او تعقلن او تروتن من خلال مؤسسة قوية. اما ما نريد فهمه هنا فهو هذا الاقبال المستجد من جانب "المولودين من جديد" على امرين اثنين: النزوع التبشيري الكبير في شرق اوروبا وأميركا اللاتينية وافريقيا وبعض نواحي آسيا، والهجوم للسيطرة على سياسات الدولة الاميركية الخارجية وبخاصة في الشرق الاوسط. طارق متري يرجع ذلك للرسالية او الاستثنائية الاميركية من جهة، والنهوض اليميني الديني على مشارف نهاية الازمنة، ومن ضمن علاماتها انهيار الاتحاد السوفياتي الإلحاد، والاقتناع بضرورة اقتناص الفرصة للانتصار للمسيح: فرصة القوة المهيمنة، وفرصة الاقبال على خلاصية المسيح. اما اليمينيون العلمانيون من اهل المجمع الصناعي/ العسكري فينتهزون الفرصة السانحة في هذا المد الشعبي الضخم لتحقيق اهدافهم في السيطرة على العالم في ظل غطاء جماهيري يتضاءل في وعيه الانتقاد والمراقبة والمحاسبة. وأعترف ان الاسباب السالفة الذكر، ما اقنعتني لجهة فهم هذا التسييس الشديد للمشاعر الدينية، مما لم يكن معروفاً في اميركا الانجيلية من قبل. لكن من جهة اخرى، فإن تاريخنا الحديث ايضاً ما عرف تسييساً للاسلام، يشبه ما نشهده لدى تيارات "الصحوة الاسلامية". لقد درجنا على تعليل قوة الاصولية الاسلامية العنيفة وغير العنيفة، بفشل تجربة الدولة في مجالين الثقافي والسياسي، والفكرة السائدة عن تلازم الدين والدولة في القديم والحديث. والذي يبدو لي ان الجديد الذي غيّر وجه العالم هذه الحداثة التي تسمى الان عولمة والتي يصعب معها العودة بالظواهر الى الوراء، الى التاريخ، او الجذور الكامنة في التجربة التاريخية. كتاب طارق متري، شديد الغنى، وبالغ الحساسية. ويشكل مقدمة لفهم الظاهرة الدينية في الولاياتالمتحدة، لكنه يقول ايضاً ان اميركا لا تزال تعددية، ولا تزال مؤسساتها السياسية والقضائية بالغة الاستقلال والانتظام. وأحسب ان الخطر علينا وعلى اميركا وعلى العالم ليس آتياً من الانجيليين القدامى او الجدد، بل من الحروب الوقائية والاستباقية، التي تدمر في الداخل الاميركي بقدر ما تدمر في ديارنا.