ربما بين أقل مَن يفهمون الدين على حقيقته هم هؤلاء الذين يكتفون بقراءة النصوص المجردة ويصرون على تفسيرها حرفياً وأصولياً. وفي ظل طغيان هذا الاتجاه، يكون التساؤل عن دور الدين في المجتمع والحياة العامة وطبيعة علاقته بالسياسة والمؤسسات الاجتماعية الأخرى خصوصاً الطبقية منها، هو بداية الخروج من هذه المتاهة. لا يحتاج الانسان ان يملك ذكاء خارقاً كي يدرك ان عيد ميلاد المسيح في أميركا، وربما في العالم المسيحي قاطبة، أصبح ظاهرة تجارية صاخبة في الدرجة الأولى. ان أمكنة العبادة التي يؤمها المؤمنون والمؤمنات في مواسم الأعياد هذه ليست الكنائس بل مراكز التسوق، حتى أصبح شراء المقتنيات الضرورية وغير الضرورية وتبادل الهدايا هما مصدر المتعة الطاغية، وليس للروحانيات سوى دور ضئيل على هامش الصخب التجاري. ويدرك البعض هذه الحقيقة، الا ان الصحة الاقتصادية تتخذ الأولوية على الصحة الروحية والقيم المسيحية التي بسببها طرد المسيح التجار من الهيكل. وكانت هذه هي المناسبة الوحيدة التي استعمل فيها العنف. مواسم الأعياد، كظاهرة تجارية، أمر معروف. فالثقافة المادية طغت على الثقافة الروحية طغياناً ساحقاً، وليس من حاجة للتركيز على هذه المسألة. فالأمر معروف لدى الجميع ويعترف به أكثر الناس تديناً. ونخطئ حين نظن انه قد ينشأ في الغرب رد فعل للتشديد على أهمية الروحانيات في عالم طغت عليه المادية. ويكون الخطأ أكثر فداحة حين نظن ان المادية تستمد دعمها النظري والفلسفي من الماركسية أكثر من الفلسفة الرأسمالية الذرائعية السائدة. كل فكر هنا، بما فيه الفكر الديني، موظف في خدمة المادة والمكانة الاجتماعية والازدهار الاقتصادي. وكل أخلاق تتعارض مع المادة والنمو الاقتصادي يكون مصيرها موتاً حتمياً. ليس هذا ما أريد ان أقف عنده في هذه المقالة، ولكنها مقدمة كان لا بد منها. ما أريد ان أركز عليه مسألة اخرى لها حضور أقل ان لم يكن نادراً في أذهان الناس رغم ما لها من ارتباط وثيق بما أشرت اليه في هذه المقدمة. استجلب نظري في مواسم الأعياد الحالية في أميركا استخدام آخر للدين، هو الاستخدامات السياسية في خدمة القوى المهيمنة، التي هي أقل وضوحاً في وعي الناس من الجوانب المادية. وحين يجري حديث عن الدين السياسي، تتوجه الأنظار في الغرب، خصوصاً في أميركا، الى الاسلام وليس الى الصهيونية اليهودية ونادراً ما يكون التوقف عند الأصولية المسيحية اليمينية. وأقل ما يستجلب النظر ويسترعي الانتباه لدى الغالبية العظمى من الناس هذا التحالف الأصولي المسيحي مع الصهيونية. لذلك سيكون غريباً جداً ان نتحدث عن وجود حركة مسيحية سياسية ناشطة في أميركا بقيادة يهودية صهيونية. واذا ما طرحت هذه المسألة في الغرب، خصوصاً في الولاياتالمتحدة، يتم تجاهلها ويصرف النظر عنها بتهمة "العداء للسامية" أو "النظرية التآمرية". ولكن بين وقت وآخر "يعوم على السطح بعض الحقائق التي يصعب التنكر لها، من ذلك التقدم من جانب تحالف جهنمي بين فريق من المسيحيين الأصوليين والصهاينة بمشروع قانون جديد أمام الكونغرس الأميركي، والذي ستجري مناقشته لاقراره في مطلع السنة الجديدة. وتطلق على المشروع تسمية قانون التحرر من الاضطهاد الديني ويحمل اسمي صاحبيه Wolf - Specter Bill، ويستهدف به بشكل خاص العالم العربي والاسلامي والصين، ويقوم على الادعاء المفتعل باضطهاد المسيحيين. قد يفشل هذا المشروع، ولكن يقف وراءه تحالف متين بين الحركة الصهيونية وأصولية مسيحية يمينية متطرفة. يتقدم بالمشروع أمام الكونغرس عضو يهودي في مجلس الشيوخ عن ولاية بنسلفانيا هو أرلن سبكتر ونائب في المجلس عن ولاية فيرجينيا هو فرانك ولف، وكلاهما من الحزب الجمهوري المحافظ. واذا ما أقر هذا القانون، يتوجب على الحكومة ان تفرض عقوبات على بلدان متهمة باضطهاد المسيحيين ومنها بلدان عربية، حسب القائمين على هذا المشروع. اما فكرة التدخل في شؤون العرب الداخلية وشؤون الصين التي قد يرافقها عقوبات محددة بحجة اضطهاد المسيحيين فصاحبها وقائد حملتها هو صهيوني يهودي معروف واسمه مايكل ج. هوروفيتز بالتحالف مع سيدة مسيحية أصولية يمينية شديدة التطرف اسمها نينا شي. وقد ألقت السيدة شي خطاباً أمام جماعة السيادة العسكرية لهيكل أورشليم، فجاءت رسالتها شديدة الوضوح: الادعاء حسب قول هذه السيدة ان ملايين من المسيحيين يتعرضون في الوقت الحاضر لاضطهاد رهيب خصوصاً في بلدان اسلامية عدة وفي الصين. ذكرت منها بالاسم المملكة العربية السعودية حيث حسب زعمها "تقطع رؤوس المسيحيين" ومصر حيث "لا يسمح للأقباط ان يبنوا كنائسهم أو يصلحوها الا بإذن من حسني مبارك" والسودان حيث "مات سبع مئة الف مسيحي في السنوات الثماني الأخيرة منذ استولى الأصوليون الاسلاميون على السلطة"، وباكستان حيث "حرقت الكنائس وسجن المسيحيون بحجة الكفر وضربوا حتى الموت من جانب الرعاع المسلمين"، وبين الفلسطينيين حيث "يختبر المسيحيون تمييزاً متزايداً من قبل جيرانهم الاسلاميين الأصوليين" راجع مجلة "نيويورك تايمز" في 21/12/1997. طبعاً لا تذكر هذه السيدة وحركتها المتطرفة أي شيء عن الاضطهاد الذي يتعرض اليه المسيحيون والمسلمون من قبل اليهود الصهاينة في فلسطين، ولا الى حرق كنائس السود المسيحيين في أميركا، ولا الى اضطهاد المسلمين في البوسنة أو بقية اوروبا، ولا الى التمييز المتزايد ضد العرب مسيحيين كانوا أم مسلمين في الولاياتالمتحدة، ولا الى التشويه المتعمد الذي تمارسه الصهيونية لزمن طويل ضد الحضارة العربية والاسلامية في وسائل اعلامهم وأفلام هوليوود وفي الدراسات الشرق اوسطية الأكاديمية من قبل المستشرقين خصوصاً اليهود الصهاينة منهم، ولا الى الهيمنة الصهيونية على الكونغرس والبيت الأبيض والمؤسسات المالية وإبعاد الديبلوماسيين الأميركيين عن حلقات صنع السياسة الشرق أوسطية لمجرد كونهم يميلون من منطلق المصلحة الأميركية لتفهم وجهات النظر العربية. ولم تذكر هذه السيدة ما تقوم به تركيا من اضطهاد وخرق لحقوق الانسان بسبب تحالفها مع اسرائيل. وعندما اعترض بطرك القدس للروم الكاثوليك لطفي لحام على أفكار الأصولية المسيحية المطعمة بصهيونية يهودية وعلى كتاب نشرته نينا شي، قالت باستعلاء "هذا الرجل" مشيرة بإصبعها اليه إستخفافاً من دون ان تذكر اسمه أو لقبه "هو من نوع الشيء الذي يعترضنا". وتطرح المسيحية الأصولية اليمينية، بقيادة يهودية صهيونية، نفسها على انها حركة صليبية جديدة، ويدعي المنتمون الى جماعة السيادة العسكرية لهيكل أورشليم انهم فرسان "يتحدرون روحياً من الصليبييين الذين حاربوا الكفار". ويلقى مثل هذه الجماعات تأييداً من عائلات متمولة كبيرة تفخر بأصولها الطبقية وتنظر باستعلاء الى من هم دونها من البيض وغيرهم من الطبقات والعرقيات الأقل حظاً وجاهاً. كل ذلك يشير الى تكوّن صليبية جديدة تدعمها قوى غير متدينة لأسباب سياسية واقتصادية لا علاقة لها بالشؤون الدينية الخالصة. وبسبب اقتران "التهديد الاسلامي" بالتهديد الشيوعي السابق، يشعر اتباع الأصولية المسيحية اليمينية بضرورة التركيز على الصين كما على العالم العربي والاسلامي فتشدد ادبياتها على اتهام الصين باضطهاد المسيحيين أيضاً. ويتم التركيز على الصين كما على العرب والاسلام، ربما لأن النظام الرأسمالي العالمي المتمثل بأميركا فشل حتى الآن في احتواء هذا البلد احتواء كلياً وتهديمه وتعطيله والهيمنة عليه كما فعل بالنسبة الى الاتحاد السوفياتي. ويأتي هذا التركيز على اتهام الصين باضطهاد المسيحية في اطار الضغط الأميركي وفي محاولة لفصلها عن بقية العالم الثال ثوتحييدها اقتصادياً وسياسياً ومنعها من ان تشكل قوة عالمية. هذا مع العلم ان وضع المسيحيين في الصين قد تحسن كثيراً عما كان عليه في السابق وان بدأت تكثر الارساليات الدينية اليها كما الى الاتحاد السوفياتي للصيد في الماء العكر. واذا ما عدنا الى مسألة هيمنة قيادات يهودية صهيونية على الحركة المسيحية الأصولية، نجد ان مايكل هوروفيتز الذي يصف نفسه بأنه "ارثوذكسي يهودي غير ملتزم" استنبط استراتيجية فعّالة لاستجلاب القيادات المسيحية الى صف الحركة الأصولية، اذ يتصل بهؤلاء ليوبخهم بقوله: "انا يهودي انا مهتم بمسألة اضطهاد المسيحيين، لماذا انت المسيحي غير مهتم؟" وقد قام بهذا النشاط من دون كلل هو والصحافي أ. م. روزنتال الذي يحرر عموداً في صحيفة "نيويورك تايمز"، وقد كتب مرات عدة في مسألة اضطهاد المسيحيين في الشرق الأوسط. وبين من ساهموا في هذا المجال كاتب يهودي محافظ آخر هو وليم كريستول. ما يسعون اليه، ان باستخدام هذه الوسيلة أو غيرها، هو جزء من عملية التحريض ضد العرب وتعميق الفجوة بين البلدان العربية والولاياتالمتحدة، وترسيخ شرعية الاستمرار في الاستيلاء الاسرائيلي على أراضي الضفة وبناء المستعمرات. ولا يبدو ان الصهيونية ستمتنع عن استعمال أية وسيلة كانت، وان لم تتوافر بعض السبل سيعملون على استنباطها واختلاقها. وهذا ما أدركته المؤسسة المسيحية المتنورة في ما يتعلق بمسألة اثارة موضوع مسألة اضطهاد المسيحيين في العالم العربي والصين فدخلت في معركة محدودة ومترددة مع اليمين المسيحي الأصولي في تحالفه مع اليمين اليهودي المؤيد لسياسة حزب ليكود وقيادته المتطرفة. ولكن المسألة لا تقتصر على المتطرفين من اليهود والمسيحيين في أميركا. هناك مسائل ليس من يجرؤ على اثارتها، بل صار الى تبنيها من قبل الخطاب السائد في الثقافة الأميركية ومنها ان المنظمات اليهودية الأميركية أسهمت في تحديد الهوية الأميركية نفسها. في السابق كان الفكر الأميركي السائد ينظر الى المجتمع الأميركي على انه مجتمع انصهاري Melting Pot، أي تنصهر فيه كل الشعوب، والحضارات المهاجرة اليه. غير ان تعبيراً آخر حل محله فأصبحت الهوية الأميركية توصف في الوقت الحاضر بأنها هوية تعددية، فانتعشت فيها الولاءات العرقىة والدينية، خصوصاً الصهيونية منها التي كانت في السابق تحاول التأثير بطرق غير مباشرة في السياسة الأميركية. وكانت الثقافة الأميركية توصف بأنها علمانية ذات أصول في الحضارة الأوروبية التي تعود جذورها الى الحضارة اليونانية. ولا تزال هذه الثقافة تنعت نفسها بالعلمانية، الا انه أصبح من المألوف ان يُقال في الوقت ذاته انها ثقافة يهودية - مسيحية. متناسية جذورها في الحضارة اليونانية. وتتجاهل جماعة الثقافة السائدة ما لا يقل خطورة، فكيف يمكن التوفيق بين مقولة "العلمنة" ومقولة "اليهودية - المسيحية"؟ ربما يمكن التوفيق بين المصطلحين. ولكن عندما صرح حاكم ولاية أميركية منذ سنوات قليلة بأن الثقافة الأميركية ثقافة مسيحية، انتقدته المؤسسات اليهودية بحجة ان المجتمع الأميركي مجتمع علماني ولا يجوز ان يطلق عليه هذه التسمية، وشنت عليه حملة اعلامية اضطرته للتراجع والاعتذار علناً. ولا تثار مثل هذه الحملة، عندما يردد سادة الثقافة السائدة ان المجتمع الأميركي يهودي - مسيحي متجاهلين وجود ديانات اخرى كالاسلام الذي أصبح عدد أتباعه في أميركا يفوق عدد اليهود. وأهم من ذلك ان نسأل هنا اذا كان من غير المقبول القول بأن أميركا بلد مسيحي لتناقض ذلك مع العلمنة التي يكفلها الدستور الأميركي، فلماذا يكون من المقبول وصفها بأنها يهودية - مسيحية للاعتبارات نفسها؟ هذا سؤال لا يطرح في أميركا، وليس من يجرؤ على طرحه طالما للمؤسسات والمنظمات اليهودية هذه الهيمنة السياسية والاقتصادية والثقافية. وقد أصبحت هيمنة مباشرة بالاستيلاء على المناصب الأساسية في الادارة الأميركية، خاصة فيما يتعلق بشؤون الشرق الأوسط لا لغرض سوى خدمة اسرائيل.