تراجع حاد للصحافة المصرية لا يخفى على أبنائها، ولا على غيرهم من المعنيين بدورها في التلاحم مع القضايا العامة للمجتمع، وعلى رغم كسر التابوهات التقليدية وإنهاء الممارسات التعسفية التي كان يمارسها النظام السابق ضد قطاع عريض من الصحافيين، فإن هناك أزمة ما زالت قائمة، ويتوقع لها أن تطول طالما بقيت قضايا المهنة المهمة والملحة بعيدة من عقلية النخبة الصحافية الجديدة. فلا يمكن لنقابة مأزومة أن تكون عوناً في مواجهة إشكاليات مجتمع، إذ إن ثمة ارتباطاً وثيقاً بين أزمة النقابات والأزمة العامة التي تبدو البلاد في ظلها متجهة إلى مجهول. وكان من المقرر أن تصبح هذه القضايا الشغل الشاغل للانتخابات المقررة مطلع الشهر المقبل، خصوصاً أن ثمة تداعيات سياسية ومجتمعية جديدة تشهدها البلاد منذ أحداث ثورة 25 كانون الثاني (يناير)، وكانت انعكاساتها هائلة على المهنة أفراداً ومؤسسات، غير أن قضايا أخرى على أهميتها ما زالت تحتل الواجهة بينما تُطرح قضية استقلال النقابة وأزمات المهنة بشكل سطحي وبمنأى عن الواقع الجديد، ما يجعلها إحدى أكثر القضايا إثارة للجدل. والأرجح أن قضية استقلال النقابة بعيداً من الانتماءات السياسية والإيديولوجيات العقائدية يبقى اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، في حاجة ماسة إلى معالجة مقننة وملزمة، لا سيما مع جهود قوى وتيارات سياسية متباينة الخلفيات ومتعارضة المرجعيات، وعلى غرار النظام السابق، يريد كل منها القفز على النقابة والتحليق بها منفرداً، أو بمعنى آخر حرص كل تيار على استقلال النقابة عن سلطة ما يرفضها وتبعيتها لسلطة أخرى يقبلها أو يتبعها أو يعمل لمصلحتها. وحين يحدث ذلك، يغدو مفهوم الاستقلال ضحية صراع انفلت من المعايير والقواعد الموضوعية. والواقع أن تجاهل هذه القضية، والتحايل عليها، رغم أهميتها في عمل نقابة الصحافيين ودورها في الارتقاء بالمهنة وأعضائها تبقى أحد تجليات أزمة المهنة. وإذا كان التعامل مع ملف استقلال النقابة يتطلب إرادة صحافية واعية وعملاً جاداً على مستوى هياكل المهنة المؤسسية، وبمشاركة فعالة من المجتمع الصحافي، فثمة أزمة أخرى تتعلق بطبيعة وجودة الأداء المهني، فرغم الانفجار العددي للصحف اليومية والمجلات الدورية ما زال عطب مستشرياً في جسد المهنة، ولعل أولى الأسباب يعود بالأساس إلى غياب معايير منضبطة في تحديد من يصلح، أو لا يصلح، للعمل الصحافي المهني، وتتحمل نقابة الصحافيين المسؤولية عن هذا المتدهور جنباً إلى جنب الكيانات الصحافية. أما ثاني هذه العوامل فيرتبط بجدول القيد، والسياسة البيروقراطية والعشوائية التي انتهجتها النقابة وما زالت في منح العضوية، من دون الارتكاز إلى قواعد مهنية يمكن على أساسها تحديد صلاحية الصحافي مهنياً، والتي ترتبط أساساً بمستواه وموهبته وقدراته. وكان بارزاً، هنا، فتح الباب على مصراعيه أمام قيد العشرات ممن كانوا يعملون في وظائف إدارية، ولا يدركون أبسط القواعد المهنية، وهذه خطيئة لعلها كبيرة. ولذلك تشتد الحاجة الآن إلى مراجعة طريقة القيد في نقابة الصحافيين، لأن استمرار هذه الطريقة ينذر بكارثة في حق المهنة. أما المؤشر الثالث فيتعلق بشخصنة الصحافة، فقد تحولت بعض المنابر الصحافية إلى أبواق تعبر عن مصالح ونفوذ أصحابها خصوصاً عدد من رجال الأعمال الذين حازوا الثروة والسلطة في عهد النظام السابق، وبالغوا في مداهنته وتملقه، وتفاقمت هذه الظاهرة ربما بصورة أكثر فجاجة في أعقاب نجاح ثورة 25 يناير، ولتتحول إلى صراع شديد بين عدد من كبار رجال الأعمال لإصدار الصحف إضافة إلى القنوات الفضائية، حيث يحاول كل منهم حماية مصالحه وتلوين صورته وتحصين امتيازاته، وليس كما يتوهم البعض للقيام بدور في التعرض لقضايا ومشكلات جدلية كانت غير مطروحة من قبل. والسؤال المطروح، هنا، هل يلتفت أصحاب الحناجر الثورية لمثل هذه القضايا الشائكة، سواء تلك المتعلقة باستقلال النقابة بعيداً من التحيزات السياسية، أو تفعيل وتحديث آليات النقابة وتطويرها، خصوصاً ما يتعلق بطبيعة القيد في نقابة الصحافيين، أم ستكون الانتخابات المقبلة صراعاً مفتوحاً بين تيارات سياسية ترتدي عباءة المهنة يحاول كل منها منفرداً أو بالتحالف مع الغير اختطاف النقابة. والأرجح أن ثمة مؤشرات تؤكد أن القضايا الجوهرية للمهنة ستنحى جانباً، وبدا ذلك جلياً في عدم وجود برامج للمرشحين، إضافة إلى تسخين الجدل حول طبيعة الإشراف القضائي على سير العملية الانتخابية وانقسام الجماعة الصحافية على نفسها بشأنه، وإذا كانت مراقبة الانتخابات تشكل رهاناً حقيقياً على مرحلة التحول الديموقراطي التي تشهدها البلاد، بالنظر إلى دورها الحيوي في توفير تقييم دقيق ومتجرد عن طبيعة العملية الانتخابية، فيبقى مهماً أيضاً التوافق على منهجية عمل جديدة تكون نواة لنقابة ترتكز أضلاعها على الاستقلال والمهنية والاستقرار لضمان أداء الدور المنوط بها في التفاعل مع قضاياها المجتمعية من ناحية، والارتقاء بالمهنة التي أوشكت على التحول لسوق نخاسة يتاجر فيه الكبار وأصحاب النفوذ بالمهنة وأخلاقياتها.