ماذا يفعل العرب لو رفضت إسرائيل مرة أخرى المبادرة العربية، أو عملت على إحباطها بإثارة العقبات أمام تنفيذ قرار "تفعيلها"؟ هل أعددنا الخطة "ب" لمواجهة فشل الخطة؟ وماذا أعدت كل دولة عربية على حدة من خطط لمواجهة احتمال انفراد إسرائيل بالهيمنة على الشرق الأوسط، أو اقتسام الهيمنة مع دولة غير عربية أو افتعال حرب معها؟ وما هي الخطة"ب"لمواجهة احتمال انسحاب أميركا من الشرق الأوسط في المستقبل المتوسط الأمد؟ أم أننا نقرر سياسة ومواقف ونتركها للزمن لا نغير فيها أو نبدل إلا عندما تفشل تماماً فنقرر تحريكها أو نتركها هي الأخرى للزمن؟ أسأل لأنني انتهيت منذ لحظات من قراءة ملخص لمحاضرة ألقاها شخص يكره العرب ولا يخفي هذه الكراهية. خصص حياته لتحقيق هدفين: أولهما: زيادة هيمنة الصهيونيين اليهود وغير اليهود وسيطرتهم على مفاتيح عملية صنع السياسة واتخاذ القرار في أميركا، وثانيهما: نشر الكراهية للأميركيين العرب والمسلمين، وتقييد حركتهم وتحجيم قوتهم ومنعهم بكل الطرق من الوصول إلى العقل الأميركي. وكان آخر ما قام به في هذا الشأن ما عرف بحملة كرامر ضد معاهد وأقسام تدريس شؤون الشرق الأوسط في الجامعات الأميركية، حين طالب الحكومة الفيديرالية بإيقاف دعمها لكل المؤسسات الأكاديمية التي يشتم فيها رائحة تعاطف مع مواقف العرب وحقوقهم في فلسطين أو غيرها. وطالب الطلاب الأميركيين، وبخاصة اليهود، بالإبلاغ عن أي أستاذ ينتقد إسرائيل أو الصهيونية وإيقافه فورا عن التدريس ومنع نشر كتبه ودراساته. اللافت للنظر أن هذه الحملة دشنها السيد مارتين كرامر في تشرين الثاني نوفمبر سنة 2001، أي بعد أقل من شهرين من حادثة تفجير برجي التجارة العالمية في نيويورك! والسيد كرامر لمن لا يعرفه ويتابعه، هو"زميل"في معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، وهو معهد يؤمه أكاديميون وصناع رأي عرب، وبعضهم من الكارهين لأمتهم العربية أو الإسلامية أو على الأقل غير متعاطفين مع قضاياها وأقطارها، ولا أريد أن أستخدم في حقهم التعبير الذي يستخدمه الناشطون من الصهاينة في حق اليهود الذين ينتقدون تصرفات إسرائيل، وهو"الكارهون لأنفسهم"، فمساحة الاختلاف ليست ضيقة. ولا ننسى أن من هذا المعهد جاءنا من يحاضر فينا ويؤنبنا ويؤرق ضميرنا تمهيداً لإدانتنا تاريخياً ودولياً، قائلاً إن عرب شمال أفريقيا لم يبذلوا جهوداً كافية لحماية اليهود من محرقة النازية. المهم هو بث الكراهية في الغرب ضد العرب والمسلمين، فالمحاضر وقد ألف كتاباً في الموضوع يعرف، كما نعرف، أن بلادنا كانت محتلة من حلفاء اليهود الأوروبيين والأميركيين. ولم تكن لشعوب هذه المنطقة علاقة بيهود ألمانيا، أو بغيرهم من يهود أوروبا. أطلت في هذا التمهيد، ولكنه التمهيد الضروري للتأكيد على أهمية الانتباه لما يكتبه ويقوله كرامر وأمثاله. فالدلائل تؤكد أنه نجح في الجزء الأعظم من مهمة نشر الكراهية ضدنا ثم تعميقها، ونجح مع غيره في فرض حصار على مسلمي وعرب أميركا وعزلهم والإساءة إليهم، ونجحوا جميعاً في نقل الحصار إلى غرب أوروبا ومجتمعات أخرى. وأطلت في التمهيد لأنني أردت التنبيه إلى أهمية المحاضرة التي ألقاها كرامر أمام مؤتمر رؤساء المنظمات اليهودية الأميركية الكبرى الذي عقد في القدس قبل شهور، وقام بنفسه بتلخيصها ونشرها للتأكيد على أهمية ما قال، وأقوم هنا بتلخيص التلخيص. أما عنوان المحاضرة فكان"النظر إلى الخلف، النظر إلى الأمام... الموقف الجيوبوليتيكي للشعب اليهودي". يقول كرامر إن الجغرافيا السياسية للشعب اليهودي لم تكن أبدا مستقرة أو ثابتة. جزء من هذه الجغرافيا السياسية كان من صنع اليهود أنفسهم وجزءان كانا من صنع غير اليهود، أي من صنع التاريخ،"القوة الأعظم التي لا تهدأ". قبل سبعين عاماً كانت أوروبا مركز"العالم اليهودي"، أما الآن فاليهود يطيرون فوق أوروبا ولا ينزلون فيها أو يستقرون عليها، خصوصاً وقد أصبحت الولاياتالمتحدة وإسرائيل الآن قطبي العالم اليهودي. ويعود الفضل في هذا الوضع النموذجي لليهود إلى رجال"شعروا بالهزات قبل أن يقع الزلزال". وعندما انفتحت الأرض وغطست أوروبا في الجحيم، كانت لدى بعض اليهود"الخطة ب"جاهزة للتنفيذ. والآن يعيش اليهود في الخطة"ب"، قدم في أميركا، أي في أكثر المجتمعات انفتاحاً وقوة وقدم في دولة يهودية مستقلة وذات سيادة. لم يحدث في تاريخ الشعب اليهودي أن عاشوا في وضع أفضل من هذا الوضع الذي يعيشون فيه الآن. لذلك كانوا عبر التاريخ دعاة ثورة وقادة تغيير وخصوم الوضع القائم، ولذلك أيضا هم الآن إن صح التعبير"شعب الوضع القائم"بامتياز. هم الآن ضد التغيير وضد الثورة، ولا يريدون للعالم أن يتغير. ولا يخفي كرامر، أن هذا الوضع القائم المفضل لدى إسرائيل ينطبق أيضاً على وضعها في الشرق الأوسط. إذ يقول إنهم، أي اليهود، يتمنون تحسين وضعهم بالنسبة الى جيرانهم، وهو ما يطلق عليه الحالمون، السلام. ويقول إنه ومع ذلك يجب الاعتراف بأن اليهود راضون إلى حد يجعلهم يفضلون هذا الوضع القائم على مخاطر تغييره. ولما كان التاريخ لا يتوقف من أجل فرد أو شعب فانه يجب توقع أن تتغير موازين القوة الدولية، وأن اليهودية ستعاد صياغتها، وفي النهاية سترسم خريطة جديدة للشرق الأوسط. ويطرح كرامر خمسة اتجاهات تاريخية طويلة الأمد قد تمحو في النهاية حال الوضع القائم الذي يفضله اليهود لأنفسهم. وبالمناسبة لا يوجد بين هذه الاتجاهات احتمال وقوع دمار نووي شامل. الاتجاه الأول: احتمال قوي بأن يضعف النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط. ويشير كرامر هنا إلى مقال ريتشارد هاس الشهير ولكنه ينتقد فكرة أن نهاية أميركا في المنطقة بدأت فعلا وتعجل بها حرب العراق. ففي رأيه أن نهاية الحقبة الأميركية ستحتاج إلى أكثر من العراق، ولكنه يعود ويعترف أن هاس بشكل عام على حق، فالتقدم التكنولوجي سيضعف اعتماد أميركا على نفط الشرق الأوسط. والمؤكد في كل الأحوال أنه بعد عشرين سنة ستكون أميركا اقل اهتماما وارتباطا بالشرق الأوسط. ثم يسأل: هل استعد اليهود لهذا الاحتمال؟ أين الخطة ب؟ الاتجاه الثاني: احتمال قوي أن تخرج أوروبا من الحسابات الكلية للغرب بسبب الانخفاض المتسارع في معدل الولادات وتصاعد الهجرة الإسلامية والزيادة في معدل مواليد المهاجرين والنمو المتتالي للتعددية الثقافية... هذه العناصر إذا لم ترتد أو تتوقف ستؤدي إلى خروج أوروبا من المعادلة الغربية أو نزع صفة الغرب عنها. ويقول كرامر إن أوروبا، حتى من دون يهود، جزء لا يتجزأ من المنظومة الاستراتيجية والحضارية التي تربط بين إسرائيل وأميركا، وخروجها من هذه المنظومة يعني أن إسرائيل ستصبح محاصرة بالعداء الإسلامي بشكل أشد. ويسأل كرامر أين الخطة"ب"لمواجهة خروج أوروبا من الغرب؟ الاتجاه الثالث: احتمال أن تحصل إيران على وضع القوة الإقليمية الكبرى، باعتبار أن الطموح الامبراطوري الإيراني اتجاه طويل الأمد بغض النظر عن طبيعة النظام الحاكم. ستكون إيران في وقت قادم المنافس الإقليمي لإسرائيل حتى لو أجلت مشروعها النووي وأسقطت نجاد. وها هي تستخدم ثقلها لتثبيت مكانتها في العراق ونفوذها في الخليج. عندئذ، قد تنجح إيران في جر إسرائيل إلى حرب باردة أو حرب استنزاف طويلة. فأين الخطة"ب"لمواجهة هذا القطب الإقليمي الصاعد؟ الاتجاه الرابع: احتمال أن يحدث للدول العربية المتاخمة لإسرائيل ما حدث للعراق إذا استمر في هذه الدول المرض الذي تسبب في نزيف العراق، واسمه مرض نقص الشرعية. ويذكر كرامر أن خريطة الشرق الأوسط رُسمت منذ قرن لتخدم مصالح امبراطوريتين زالتا. ويعتقد انه إذا انهار العراق ستسقط دول أخرى وقد تنجر دول مجاورة لإسرائيل إلى حروب الفتنة، وساعتها لن تجد إسرائيل نفسها أمام"حزب الله"واحد، بل أمام عديدين. ويسأل كرامر: هل استعد اليهود بالخطة"ب"لمواجهة انفراط الدول المتاخمة؟ الاتجاه الخامس: احتمال أن يفقد مشروع الحل القائم على إقامة دولتين أهميته، لأن الفلسطينيين، حسب قوله، سيفشلون كأمة. ويعني بالفشل أنهم لن يكون لديهم الانسجام الواجب توافره من أجل ترجمة الهوية الفلسطينية إلى دولة - أمة. ويقول إن بعض الإسرائيليين يتحدثون عن أن إنشاء دولة فلسطينية أمر ضروري لشرعية إسرائيل وبقائها. ولكن هؤلاء لا يناقشون الوضع الذي قد ينشأ نتيجة استحالة قيام هذه الدولة الفلسطينية، مع العلم أن فكرة الدولة الثنائية القومية مرفوضة من الشعب اليهودي، ثم يسأل: هل توجد خطة"ب"لمواجهة فشل قيام دولة فلسطينية؟ يقول كرامر في نهاية محاضرته إن اليهود يجب أن يتوقعوا أحوالا وظروفا دولية وإقليمية تجعل العواصف المقبلة أشد قوة وأكثر تكراراً. إسرائيل قامت وانتعشت في ظل السلم الأميركي. ولم تنشب حرب بينها وبين العرب منذ 1973، والسلام يسود معظم الحدود، والسكان اليهود يتزايدون. والاستثمارات تتدفق. في الوقت نفسه حصل يهود أميركا على مكانة ونفوذ لا سابقة لهما بفضل قيامهم بدور الوسيط بين الولاياتالمتحدة وإسرائيل وبفضل استعدادهم للعمل من أجل إسرائيل. الخلاصة: كانت الرحلة بأكملها رحلة سلام طويل ومثمر. ولكن يذكر كرامر بأن هرتزل عندما وضع الخطة"ب"كانت أوروبا تعيش فترة سلام غير مسبوقة في التاريخ الأوروبي، سلام امتد لثلاثين عاما. وكان هرتزل يعرف أن هذا السلام لن يستمر وأن أسسه ضعيفة. ولذلك وضع الخطة"ب". نعيش الآن مرحلة مماثلة.. ونعرف أن الوضع القائم في الشرق الأوسط لن يدوم ويجب أن تكون لدينا الخطط البديلة. يجب أن تقيم إسرائيل تحالفات وتضرب أهدافاً وتعيد رسم الحدود ولن تكون بالضرورة نفس التحالفات والأهداف والحدود المألوفة."مشكلة أيامنا هذه، هي أن المستقبل لن يكون تماما مثلما عودنا أن يكون". هنا ينتهي عرض أفكار مارتين كرامر، وهنا نعود إلى أسئلة نسألها بتكرار حتى صارت معتادة... وربما ممجوجة، نسألها للدول العربية مجتمعة إن شاءت، ومنفردة أيضا. هل لدينا خطط لمواجهة الاتجاهات الخمسة ذاتها التي تحدث عنها كرامر وعرضناها بإيجاز؟ نعرف ونعترف أننا كحكومات لم نجهد أنفسنا بالتفكير فيها أو في غيرها. هل نتعب قليلا فنضع الخطة"ب"لمواجهة كل منها. ثم نجهد أنفسنا فنضع خطة"ج"لمواجهة كل خطة"ب"يضعها اليهود ليواجهوا بها اتجاهات المستقبل الخمسة؟ نعود إلى السؤال الأبسط والبديهي والعاجل، ما هي الخطة"ب"لمواجهة فشل المبادرة العربية؟ أرجو أن لا تكون الإجابة: عقد قمة اخرى لتفعيل التفعيل. * كاتب مصري