المسألة اليهودية هي احدى الظواهر السلبية للحداثة الأوروبية، تلك الحقبة التاريخية التي دخلتها أوروبا مع ما جرت العادة على تسميته بعصر التنوير القائم على الإرث الفكري والفلسفي لابداعات التنويريين الاوائل من امثال سبينوزا 1632-1677، وكنت 1724-1804 وهيغل 1770-1831، والداعي للتحرر من السيطرة الدينية وإعلاء العقلانيات الانسانية، والمؤكد على الحقوق المدنية والمساواة بين أبناء أي مجتمع بشري بغض النظر عن الانتماء الديني أو العرقي. وكما كان للحداثة الأوروبية وجهها الايجابي، الذي يفاخر الغرب الأمم، كانت هناك السلبيات، التي ما زالت عالقة بالذاكرة الجماعية الأوروبية. ومن هذه السلبيات نذكر العداء للآخر الذي صاحب تنامي الشعور القومي ليحل محل الانتماء الديني الذي سيطر على أوروبا العصور الوسطى. فبينما كان الأوروبيون يعرّفون أنفسهم من خلال الانتماء الديني/ المسيحي بشقيه الكاثوليكي أو البروتستانتي، حلّ الانتماء القومي مع الحداثة محل الانتماء الديني، وشهدت أوروبا ميلاد الأمة كنواة للدولة الحديثة، فكانت الأمة الفرنسية نواة الدولة الفرنسية الحديثة، والأمة الالمانية نواة الدولة الالمانية، وكذلك الحال بالنسبة الى سائر البلدان الأوروبية. وفي هذا السياق الأوروبي كان لا بد من طرح السؤال عن وضع اليهود كمجموعة أوروبية؟ هل هم مجموعة قومية أم مجموعة دينية؟ فان اعترف الأوروبيون"بيهودهم"كمجموعة قومية وَجَبَ عليهم طبقاً لمبادئ الثورة الفرنسية - التي يرى فيها الأوروبيون المقياس التاريخي للحداثة - السماح لهم ببناء دولة مثلهم في ذلك مثل الفرنسيين والالمان وبقية الشعوب الاوروبية. وماذا لو عَرَفَ الأوروبيون"يهودهم"كمجموعة دينية؟ فان اعترافاً كهذا يمثل خرقاً لمبادئ الثورة الفرنسية التنويرية الرافضة للهوية الدينية الجماعية. وهنا وبطرح مثل هذه التساؤلات والنقاشات الدائرة حول مصير اليهود الأوروبيين ولِدت المسألة اليهودية. والحق أن جذور هذه المسألة تعود إلى عصور أوروبا الوسطى، حيث كان اليهود يعيشون على هامش المجتمعات الأوروبية، مع الفارق أن أوروبا العصور الوسطى لم تكن قائمة على المساواة بين مجتمع الغالبية المسيحي ذاته، فكانت هناك طبقة رجال الدين، وطبقة الملوك والنبلاء، وطبقة الإقطاعيين من ملاك الأراضي، بالاضافة إلى المعذبونَ في الأرض من الفلاحين وقليل من الحرفيين، وهكذا فإن المجتمع الاوروبي في عصوره الوسطى لم يكن يراعي المساواة بين الغالبية، حتى يُشغلَ باله بحقوق أقليته اليهودية، وعلى ذلك علينا أن نفهم أن المسالة اليهودية هي نتاج للحداثة الأوروبية. والناظر للكتابات الاوروبية حول المسألة اليهودية يدرك أن إمكان إعطاء اليهود وطناً داخل الحدود الجغرافية الاوروبية كحل لهذه المسألة لم يكن وارداً في الحسبان، بل كان هناك شبه إجماع بين رجالات الفكر التنويري الأوروبي بضرورة استيعاب اليهود، ليس كمجموعة دينية او قومية، بل كأفراد مُعلمنيينَ، أي مؤمنين بالمبادئ العلمانية. وقد لاقى هذا الحل القبول بين مجموعة من رجال الفكر اليهودي، فظهرت الحركة التنويرية اليهودية الهسكلا الداعية لتحديث الديانة اليهودية وتوفيقها مع متطلبات مرحلة التحديث من أجل إذابة اليهودي في المجتمعات الأوروبية المختلفة . فكانت كتابات الفيلسوف الألماني اليهودي المتنور موزيس مندلزون 1729-1786 الرامية لإعاده قراءة التراث الديني اليهودي قراءة نقدية لإخراجه من إطار تشريعي ضيق قائم على التحليل والتحريم إلى نظام متكامل تتعايش فيه المعتقدات الدينية اليهودية مع العقلانية الانسانية، ويؤثر في المجتمعات البشرية القاطن بها ويتأثر. ونخص بالذكر يودا لايب غوردون 1831-1892 وشعره الداعي بني جلدته بأن يكونوا يهوداً في بيوتهم وحملة للواء الانسانية في سياقهم الأوروبي، وشرع المتنورون اليهود المسكليم في نشر أفكارهم الحديثة بين أبناء جلدتهم بل شاركوا في تفكيك البنية الدينية المسيطرة على الاقلية اليهودية من أجل ربطها بالنظام الإداري والاجتماعي والاقتصادي لمجتمع الغالبية، وكذلك تحرير النظم التعليمية اليهودية من قيود التعاليم الدينية وتحويلها إلى نظم تعليمية تواكب متطلبات العصر ومستلزماته. وقد أخذ"المسكليم"على عاتقهم عقلنة الديانة اليهودية كاستراتيجية تهدف إلى ذوبان اليهود في المجتمعات الأوروبية. وعرف النصف الثاني من القرن التاسع عشر انقسامات شديدة داخل التجمعات اليهودية، فبينما تأثر معظم يهود الغرب الأوروبي بالأفكار التنويرية واختلطوا بمجتمعاتهم وعُرِفوا"بيهود الغرب"Westjuden، تشبثت معظم تجمعات أوروبا الشرقية من اليهود Ostjuden بالفهم التقليدي للديانة اليهودية، معتبرينَ أنفسهم حماة تراثهم الديني من الاندثار. ومع موجات التطرف القومي الأوروبي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر أخذ العداء لليهود في التزايد، وهو عداء لم يكن بالجديد في أوروبا، فلقد عرفت منذ اعتناقها المسيحية كراهية دينية الجوهر لليهود، ورأى رجال الدين المسيحي في اليهودي صورة الآخر البشع الذي خانَ وشارك في الصلب. ونُعِتَ اليهود لذلك في الفكر المسيحي الأوروبي بأشنع الأوصاف، وعانوا الأمرين وعزلوا وانعزلوا في أوروبا المسيحية. وبمجيء الحداثة الأوروبية، ظن المتنورون من اليهود أن ذوبانهم في أوروبا علمانية، سينهي الكراهية الأوروبية المشرّعة دينياً، غير ان ظنهم خاب مع تزايد التطرف القومي الأوروبي الذي أتى بكراهية جديدة لم تكن مشرعة هذه المرة دينياً بل عرقياً، ترى في اليهود جنساً آخر يشكل خطراً وخيماً على الأجناس الاوروبية، وأخذت هذه الكراهية بعداً أيديولوجياً تمثله ظاهرة العداء للسامية. وكان اول من استخدم مصطلح العداء للسامية صحافي ألماني مغمور يسمى فيلهيلم مَرّ 1819-1904، وقد استغل النقاشات الدائرة في ذلك الحين حول الثورة الصناعية وما جلبته من تغيرات اجتماعية وصراعات بين فئات المجتمع الالماني من رجال الدين الخائفين من اندثار الروحانيات وتعاظم الماديات كنتيجة للعلمنة، وما يعنيه ذلك من التفاف النخبة المثقفة حول ايديولوجيات جديدة لم تعهدها أوروبا من قبل، وأحساسهم بخطر يهودي متوهم. وفي مثل هذا الجو المتكهرب تزايدت في المجتمعات الأوروبية النزعة القومية الشوفينية، وأصبح الجو العام جاهزاً لتقديم كبش للفداء، يُحمّل وزر التغيرات التي تعيشها أوروبا. انتهز مَرّ تلك الاجواء ليصدر كتيباً عنوانه"انتصار اليهودية على الجنس الجرماني"، معلناً أن كراهية اليهود لا تعود لأسباب دينية، بل لأسباب عرقية، فهم، أي اليهود، غرباء عن الجنس الأوروبي ودخلاء على الثقافة الأوروبية، وعليه فليس هناك جدوى من محاولات استيعابهم داخل الجسد الأوروبي الواحد، اذ أنهم يمثلون ورماً خبيثاً يجب اجتزازه ليعافى الجسد الأوروبي. وتزايدت الكتابات المعادية للسامية، وتزايدت معها الصور النمطية المعادية لليهود، فعرفت الثقافة الأوروبية، صورة اليهودي ذي الانف المعوج، الذي لا يشغله شاغل الا حياكة المؤامرات، مستخدماً أسلحته المعروفة عبر التاريخ: المال والجنس. فكانت صورة اليهودي المرابي والمُركّع تحت قدميه الملوك والرؤساء، وأيضاً صورة اليهودي القبيح الملاحق لنساء أوروبا الجميلات، وصورة اليهودي عديم الشرف مطلق العنان لنسائه وراء الشباب الأوروبي من أجل تخريب عماد المستقبل. وانتشرت مثل هذه الصور النمطية واصبح العداء للسامية جزءاً لا يتجزأ من الوجدان الأوروبي، وثقافة شائعة لا يدور الخلاف على ماهيتها ولكن حول نوعية التعامل معها. ومع تنامي العداء للسامية في أوروبا في القرن التاسع عشر، أخذ العديد من المفكرين اليهود في البحث عن السبل لمواجهة الرفض الاوروبي المتزايد ليهودها، فكانت كتابات موزيس هيس 1812-1875 وليون بينسكر 1821-1891 وغيرهما، وهي كتابات وان اختلفت حول رؤيتها التفصيلية لحل المسألة اليهودية، الا ان ما يجمع بينها هو رؤيتها للحل في اطار قومي يهودي. وهنا وجب الوقوف طويلاً امام احدى المحاولات الفكرية الرامية لحل المسألة اليهودية، وذلك ليس من أجل دراسة هذا الفكر بذاته وأنما لايماننا بأن هذه المحاولات من جانب مفكري يهود أوروبا تمثل بدايات المأساة التي يعيشها الفلسطينيون اليوم. ونركز في هذا السياق على أحد نشطاء يهود ذلك العصر : تيودور هرتزل 1861-1904. وبداية نوضح أن أهمية هرتزل لا تكمن في مكانته الفكرية - فهو ذاته لم يعترف بمثل هذه المكانة - بل في احياء وبلورة الفكر اليهودي المنادي بحل للمسألة اليهودية ووضعها في اطار حركي تنظيمي قومي، جرت العادة على تسميته بالحركة الصهيونية السياسية ودخل هرتزل التاريخ كمؤسس للصهيونية السياسية، التي تولدت عنها ومنها دولة لليهود في فلسطين. اقتنع هرتزل بأهمية بناء حركة قومية يهودية، وهو بذلك لا يخرج عن الفكر السائد في أوروبا القرن التاسع عشر، فمع تزايد النزعات القومية الأوروبية، لم لا يحق لليهود من الأوروبيين ما يحق لأي مجموعة عرقية أوروبية اخرى؟ غير ان قناعة هرتزل بقومنة اليهود رافقها يقينه، بأن أوروبا لن تسمح ليهودها ببناء وطنهم القومي المنشود في اطارها الجغرافي. ولتأكيد وجهة نظرنا هذه نذكر بأن فلسطين وأوغندا والارجنتين ومدغشقر، وهي الاماكن التي طرحت كوطن ليهود أوروبا، انما يجمع بينها حقيقة، كونها خارج الفضاء الجغرافي الأوروبي. ومال اختيار هرتزل الى فلسطين لما لها من وقع ديني وثقافي على النفس اليهودية. وهذا لا يعني ان الحركة الصهيونية السياسية قامت على فكرة دينية، اذ ان هرتزل ورفاقه ومن بعدهم الجيل الثاني المنشئ للدولة العبرية كانت تغلب عليهم العلمانية، بل العداء للفكر الديني اليهودي، الا ان هرتزل ومن بعده ديفيد بن غوريون قد ادركا اهمية تسخير الدين في خدمة هدفهم السياسي من اجل تعبئة اكبر عدد من اليهود خلف الفكرة الصهيونية وبعد ذلك للدولة الجديدة. ولاقى هرتزل معارضة شديدة من ماكس نورداو 1849-1923 وآحاد هاعام 1856-1927، فيذكر ان نورداو بعد زيارته فلسطين صاح في وجه هرتزل بأن فلسطين آهلة بسكانها من العرب وذلك رداً على مقولة هرتزل الشهيرة بأن فلسطين هي ارض بلا شعب لشعب بلا ارض وبالاضافة الى نورداو عارض آحاد هاعام هرتزل لنفيه الوجود العربي في فلسطين ولسوء استخدامه الدين اليهودي من اجل الوصول لهدف سياسي، داعياً اليهود النظر الى فلسطين نظرة روحية لا سياسية. غير ان هرتزل كان على علم بالوجود الفلسطيني، بل وبالخصوصية الاسلامية للشرق العربي، الا انه كابن للقرن التاسع عشر، لم يكن ينظر الى الشرق العربي الا النظرة الكولونيالية السائدة في زمنه. وهي نظرة المستعمر التي ترى ان ابناء المستعمرات البدائيين ينتظرون قدوم الأوروبي للانتفاع منه، ولقد شخص هرتزل في روايته اليوتوبية"الارض القديمة الجديدة"Altneuland شخصية رشيد بك، ذلك العربي الذي استقبل اليهود في فلسطين بالكرم العربي المعهود لاقتناعه ان يهود أوروبا انما جاؤوا الى فلسطين لجلب العلم والتقدم، بل المنفعة الاقتصادية لسكانها العرب، ويأمل رشيد بك في نجاح اليهود في نقل فلسطين الى الحضارة. غير ان اهمية الشخصية الكاريكاتورية للفلسطيني رشيد بك في"الارض القديمة الجديدة"، تكمن في انها تسلط الضوء على رؤية هرتزل للشخصية العربية. ولتوضيح ذلك، نعود لنُذكّر باحاد هاعام، الذي ذكر في نقده لهرتزل، ان مشكلة هرتزل الكبرى تكمن في انه يود ان ينشئ دولة لليهود في الشرق العربي، كما لو كانت هذه الدولة تقع بين المانيا والنمسا! وهذا من الأقوال التي يجب ان لا تفارق ذهن أي عربي يود فهم الدولة العبرية، اذ انه يشكل مربط فرس في فهم الرفض الاسرائيلي للشرق العربي. قامت الحركة الصهيونية كرد يهودي قومي على الرفض الأوروبي بقبول اليهودي كجزئية من الكل الأوروبي، بل افسحت أوروبا ليهودها الطريق للبحث عن وطن خارج فضائها الجغرافي، ونتيجة لهذا"الطرد"ليهودها، وفدوا الى الشرق، وبدلاً من ان يتصالحوا ويتفاعلوا حضارياً مع الشرق العربي الاسلامي، اختاروا ان يكونوا وكلاء للثقافة الأوروبية الطاردة لهم، في مواجهة شرق عربي يبحثون فيه عن حياة جديدة، وهذا يشرح ما ذكره هرتزل في كتابه"دولة اليهود"Der Juden Staat، حينما يقول،"سوف تكون دولتنا المنشودة هي حصن للحضارة الأوروبية امام همجية الشرق". وعليه، فان معضلة اسرائيل اليوم تكمن في انها تمثل مفارقة تاريخية anachronism، أي ان هذه الدولة وان كانت تقع في قلب الشرق العربي، الا انها تستمد الشرعية من ايديولوجيا تعود الى القرن التاسع عشر، وهو ما يفسر الاستعلاء الاسرائيلي في التعاطي مع الفضاء العربي ككيان حضاري متأخر. وعليه، فاسرائيل وان كانت جغرافياً في الشرق العربي، الا انها حضارياً ليست منه، ولم تسع في يوم من الايام لأن تكون منه. ولذلك فإن المصالحة السياسية بين العرب واليهود لن تؤدي الى سلام منشود ما دامت اسرائيل ليست مستعدة لمصالحة حضارية مع فضائها العربي الاسلامي. ويخطئ رئيس الوزراء الاسرائيلي شارون، حين يصرح في العدد الاسبوعي من جريدة يوديعوت احرونوت الجمعة 22 نيسان/ ابريل2005 من ان اشكالية الصراع العربي - الاسرائيلي تكمن في عدم مقدرة العرب على قبول فكرة الوطن القومي لليهود، اذ ان امكان قبول اسرائيل كدولة في الشرق العربي، تتوقف على قدرة اسرائيل على تحمل مسؤوليتها التاريخية امام الشعب الفلسطيني واعترافها بخطئها التاريخي في حقه، كخطوة اولى نحو تفاعلها السلمي مع الشرق العربي بدلاً عن تقوقعها وراء اسوار صهيونية القرن التاسع عشر. أكاديمي مصري. أستاذ في جامعة لايبزغ.