الاشتباكات التي شهدها الشمال اللبناني، تمرين آخر يثبت فيه السلاح شرعيته، على حساب الشرعية المجتمعية، ويقفز الى حريته المنفلتة، التي هي مرادف آخر، للقيود التي تكبل كل الحريات الفردية والجمعية الأخرى. يشكل الذهاب الى اقتناء السلاح، واستعماله تعبئة لشغور يحدثه غياب السياسة. هذه الكلمة، أي السياسة، ليست مغلقة على الافهام، عندما تستحضر كمحصلة ومصالح وتطور مجتمع بشري بعينه، لكنها تصير عصية على الشرح والتعليل، عندما يصبح السلاح هو السياسة عينها، وعندما تضمر السياسة لتلامس مقاس الأدوات القتالية المستخدمة. في أوطان العرب، ولبنان منها، ضخّم الاستحواذ على السلاح، منسوباً الى فعله الأهلي وليس الوطني، الشعور بالتمركز على الذات الفردية المسلحة، وجعلها تماهي بين هيبتها الخاصة، ورهبتها المفردة، وبين ممارستها لحريتها المقاتلة، على حساب الذوات الأخرى، المنزوعة السلاح، برغبة منها، أو على الرغم عنها... يجدر التأكيد هنا، ان الذات الفردية لا تعني الفرد بعينه فقط، بل هي تدل دلالة واضحة على"الفصيل المقاتل"أو المنظمة المسلحة، أو الطائفة المعسكرة، أو"الأمة"التي تنتدب نفسها لقيادة فكر وحياة واجتماع أمم أخرى... تتضخم"الفردية"في التشكيلات الاجتماعية المشار اليها، كلما تراجع حجم الوطني الاشمل، أي كلما أصاب الفشل القضايا الكبرى، وكلما حصدت"القوى الناهضة لأهدافها الجليلة"الخيبات المتتالية! في هكذا وضعيات سياسية، تحضر ذكريات القضايا كحنين، الى ماضٍ، ليس جميلاً بالضرورة دائماً، لكن قواها الخائبة تظل مستمرّة في الواقع السياسي ككوابيس شديدة الوطأة. لا ينجو الوضع العربي العام من هذه الآثار المريرة، مثلما يستمر لبنان وفلسطين، في دفع فواتير"نضالية"... جلّها مجاني... هذا حتى لا نقول إنه بات عبثياً. لا محلّ للمراجعة والمحاسبة والاستخلاص والإفادة من قاموس"الفرديات النضالية"، على النحو الذي ذهبنا الى تعيينه، لأن سيف"القضية"يظل مرفوعاً في وجه كل"ترف ثقافي"من هذا القبيل، ولأن القضية مقدسة، بحد ذاتها، فإنها غير قابلة للفحص، او الاستدراك. الثبات والديمومة الآلية، صفتان راسختان"للقضية"، لذلك فإن التطورات وعاديات الزمن تقف مباشرة امام أبواب حصونها المنيعة. تتفرع صلابة"القضية"وقدسيتها لتطال ببركتها القوى والبرامج والأسلحة، لتصير مقدسة هي الأخرى. أما حاصل اجتماع"القداستين"، فصعوبة اضافية تغذي حال التجاوز، المفروضة على المجتمع، وتهميش آخر لكل تعريف يحاول ان يجعل من"الأوطان"شيئاً نوعياً مختلفاً، عن مجرد أرقام مساحة، وبيانات تعداد سكان، ومادة لينة طيعة، لا تصلح لأن تغادر فرضية التعبئة والتحشيد، التي يفرضها"القادة الجدد المقدسون"ويستمرون في الدعوة الى تصديق"معجزاتها"والايمان"بالعقل الفعال"الذي تصدر عنه! يشكل ما ورد جزءاً من أدوات القراءة، للأحداث التي يعيشها لبنان..."فالوطن الصغير"لا يزال ساحة"لنباتات ثورية"من كل الأجناس، كما لا يزال محافظاً على تصنيفه كساحة"تجريب واختبار". في امتداد"الصلابة العربية"، تقدم الحيثيات اللبنانية عناصر صلابتها الخاصة، التي تجعل من"الاستخلاص"الذي قلنا بضرورته، مهمة صعبة التحقق. أهم العوامل الوازنة في هذا المقام، جمود التشكيلة اللبنانية الطوائفية، بل إن حراك هذه"التشكيلة"غالباً ما يتم عكسياً، بحيث يجري جرّ"الاجتماع"الى الموروث، كلما ووجه هذا الاجتماع بصعوبات وتعقيدات الحاضر! تقيم الذات الطائفية"المناضلة"هي الأخرى، والمنافحة عن كينونتها، في الموروث، تعرّف حراكها به، وتهتدي الى مطالبها من خلاله، بذلك تكشف"الطوائفيات"أزمنتها المختلفة، في زمن واحد، طابعه... الماضي. على خلفية"الماضوية"سنجد من السهل إحياء العصاب الطوائفي، وذكرياته المقيتة، في مواجهة الفلسطيني"ككائن نضالي"دائم يسقط في معترك السجال، والقتال، اعتبار أن الفلسطيني، قد صار، منذ مدة ليست بالقصيرة، ضحية"عصاب تحريري"وكبش فداء للجمود السياسي العربي العام، الذي تشهد بثقله، الوقائع العامة، لدى الصديق ولدى العدو. يحق لنا، والصورة ما هي عليه، أن نذهب الى القول، إن الصراع الذي نشب في شمال لبنان، يستقي مادته من جمودين فلسطيني ولبناني، يظللهما جمود العجز العربي العام، عن ملامسة امكان اختراق السقوف السياسية السميكة المفروضة بتضافر"قوى الذاتي والموضوعي"بحيث تصير المراوحة سمة لكل"السياسات العربية"... من المعلوم أن المراوحة تعادل سير القهقرى عندما نكون في ازاء حركة"الحياة الدائبة" الى ذلك، من المستطاع القول، إن"اللبنانيين والفلسطينيين"يتقاتلون انطلاقاً من فراغين سياسيين. مادة الفراغ الأول، اللبناني، غياب سياسة موحدة داخلية، تستطيع الفرز بين ما هو ممكن داخلياً، وما هو مطلوب خارجياً، وما هو ضروري عربياً. هذا الغياب أحال كل شأن لبناني، مصيري أو يومي، الى موضوع اجتهادات متباينة... بل ومتناحرة أحياناً. أما مادة الفراغ الثاني، الفلسطيني، فمتمثلة في غياب الانجاز الوطني الذي يسمح بالاقتراع في صالح وجهة سياسية، على حساب وجهة سياسية أخرى. ملء هذا الغياب، بحضور وطني فلسطيني عارم وجامع، لا يستطيعه الفلسطينيون، لأسبابهم الخاصة ولدواعي المتلاعبين بقضيتهم من خارجها، وكنتيجة لسد الآفاق في وجه"حراكهم"من قبل اسرائيل الممسكة بخيوط اللعبة وموازينها. ينجم عن هذا الواقع، ردود فعل"كفاحية عكسية"تعيد استحضار"السلاح، واسلوب الكفاح المسلح، وخطاب التعبئة..."وما ينجم عن ذلك من"أحلام ثورية وردية"!. في ساحتي الفراغين، اللبناني والفلسطيني، فراغ مخيف، تتقدم لملئه والإقامة فيه، آلة الموت"الأصولية". عليه، لنا أن نتوقع نسخاً أخرى من التهميش المجتمعي، وتجاوزات على السيرورة الاجتماعية العامة، التي لا يقبل القائمون بها، أي لون من ألوان الاعتراض... لأن"النبوءة"تبشر بالنصر الآتي، ولأن الثمن يظل قليلاً في سبيله، حتى وإن لامس ذلك... مستقبل الأوطان! * كاتب لبناني