يستدعي الالتهاب الذي شهده الجنوب اللبناني، هذا الأسبوع، ملاحظتين: الأولى، هي مغادرة التحليل المطول لطبيعة اسرائيل العدوانية ولمغزى استهدافها للأرض اللبنانية. ف"تعميق الشرح"في هذا المضمار لن يتعدى المعروف والمكرّر عن اسرائيل، منذ ما قبل قيام"الكيان الغاصب"وحتى الآن. أما الملاحظة الثانية، فهي ان المبادرة الى تحريك"الجبهة"كانت في يد"حزب الله"، وجاءت في سياق ارتفاع سقف خطابه السياسي في الداخل، وفي المدى الاقليمي أيضاً. أهمية الإشارة هذه مستمدة من ضرورة الوضوح الذي صار واجباً وملحاً في نقاش"المقاومة الاسلامية"، وفي التفاعل مع خطابها"الوطني"الذي ما زال في ظاهره الأعم"ما فوق وطني"، ويبدو وكأنه يغرد خارج سرب"الاجتماع اللبناني"العام. لقد أبدى"الطيف السياسي"اللبناني حكمة ونضجاً في أدائه حيال"حزب الله"، الذي يقيم الآن في الموقع المتقدم لمصالح كتلة أهلية لبنانية ذات وزن حاسم في التشكيلة الداخلية. هذه المقاربة الهادئة من"الطيف"المذكور، محمودة ومطلوبة، ويجب الاستمرار في التمسك برصانتها. ذلك ان كل ما يقع خارج"الهدوء المرن"يؤدي الى نتيجة واحدة: فتح الوضع اللبناني برمته على اللااستقرار. ومع الهدوء التفاعلي، خطاب سياسي لبناني آخر، ناجع وذو جدوى، هو الإصرار على الحوار كمدخل لنقاش مصير سلاح"حزب الله"، وهو، أي الحوار، ما ينبغي تزكيته والتشديد عليه، والتحذير من مغادرته الى أوهام حلول قهرية وقسرية، مما لا تحتمله البنية اللبنانية، ومما لا يقتضي تعريضها لأي خطر من هذا القبيل. لكن،"التقديمات"السياسية التي يلجأ اليها"الطيف السياسي"ليست تفويضاً مطلقاً لپ"حزب الله"، بل ان أصحاب"التسهيلات"يسجلون حقهم في النقاش، موافقة أو اعتراضاً، من موقع الشراكة في الفعل، وليس من موقع الموافقة على النتائج التي تصدر عن الأفعال، خصوصاً أن كل أداء سياسي الآن مفتوح مباشرة على أسئلة الخيارات الوطنية اللبنانية الكبرى، ويمس مساً مباشراً المصير الوطني اللبناني العام. تحت هذا السقف، لا مفر من نقاش أداء"حزب الله"الأخير، واعادة إدراجه في سياق خطواته السياسية المتلاحقة التي زادت وتيرة"حماستها"تباعاً. أول ما يستوقف في ازاء النشاطية المتجددة لپ"المقاومة"سؤال"الى أين؟"الذي جرى ترداده كثيراً في سياق سياسي مختلف. نعم الى أين؟ لقد صار صعباً القول ان"القتال"الأخير يندرج في عملية طويلة هدفها اعادة اذكاء روح"الكفاح المسلح"، واستنهاض الالتفاف الشعبي اللبناني من حوله. فبمقياس سياسي وطني و"أهلي"يمكن الادعاء ان"المقاومة"تتجه الى توسيع رقعة المعترضين عليها"أهلياً"، أي أنها تنسج خيوط عزلة متنامية من حولها، وهي تحاول أن تقفز فوق بعض الحواجز الداخلية التي رفعتها التطورات اللبنانية وما أحاط بها دولياً واقليمياً. وتكاد"المقاومة"تقترب من تعريفها كفعل"فئوي"وكنشاط يختص بكتلة"أهلية"دون غيرها. لذلك، ستظل آثار حراكها محاصرة داخل هذه الكتلة وغير قادرة على تجاوزها الى سائر"الكتل"الأخرى. لم تكن الحال كذلك سابقاً، لذلك فإن الواقع الراهن يستدرج أسئلة شتى لاستجلاء المقصود والكامن خلف"التكتيكات"القتالية - السياسية الأخيرة. بكلام موجز: تكاد المقاومة تفقد الغطاء اللبناني الذي شكل، بصمته وبقبوله وبرضاه وبعدم رفضه، رافعة من روافع العمل المقاوم، وذلك على خلفية"الانفراد"الذي بات التبرم منه يتجاوز"الهمهمة والتمتمة"! النتيجة التي قد تترتب على ذلك، لاحقاً، ليست أقل من مراكمة العجز، موضوعياً، في مسيرة الفعل المقاوم، بدل أن يكون حراكها مدعاة لاستجماع المزيد من أوراق قوتها. الى"الرافعة الداخلية"، لا يمكن اغماض"الفكر"عن واقع تراجع الغطاء العربي، الذي أمنه القرار السوري في لبنان، مثلما لا يمكن اشاحة التدقيق عن واقع الغطاء الايديولوجي الايراني الذي يصارع على جبهة"تخصيب اليورانيوم". هذا للقول، ان من العسير على"أهل المقاومة"الاستمرار في ممارستهم"الهجومية"من دون اعتبار لاهتزاز روافع أساسية من روافع زخمهم القتالي الذي جعلهم رقماً أساسياً صعباً في معادلة السياسة الداخلية اللبنانية. بالعودة الى أحكام السياسية اللبنانية، قد نقرأ في عملية"حزب الله"الأخيرة، نوعاً من سياسة"حافة الهاوية"التي ما زالت ترفض العودة الى الحجم الطبيعي المحفوظ لصنّاعها. مضمون هذه السياسة يقتضي افصاحاً، ويتطلب تقديم رؤية للنقاش، من ضمن بنودها"مصير السلاح"، لكن مع الانتباه مسبقاً الى أنه لا يمكن"السلاح"أن يكون بند النقاش الوحيد، أو مادة الحوار المفردة. يستدعي الأمر هنا خواطر عدة منها: ان الأهمية في الحوار هنا يجب أن تعطي للخيار المقاوم الشامل، الذي مارسه اللبنانيون طوال عقود، وكانت لپ"حزب الله"المساهمة الوازنة والحاسمة في هذا المسار. التوقف أمام"خيار المقاومة"يفضي الى عنوان حواري شامل هو: كيف يُحمى لبنان من الاختراق الاسرائيلي في السياسة وفي الاجتماع وفي الاقتصاد وفي الثقافة وفي الأمن؟ وما دور"العمل العسكري"ضمن هذه المنظومة الحمائية؟ هذا نقاش أوسع من قضية السلاح، الذي يجب التذكير بالمناسبة أنه وسيلة، وأن"حملته"وجدوا لحماية لبنان، وأن من غير السياسي ومن غير المنطقي تناول المعادلة مقلوبة، بحيث يصير البحث في كيف يحمي الوطن المقاومة، وليس كيف تحمي المقاومة الوطن؟ وبحيث يصير"الاجتماع"خادماً لوسائل مناعته وحصانته، بدل أن تكون هذه الأخيرة موظفة لدفع عملية وحدته وتطوره وتنامي لحمته الداخلية. عليه، تصبح مقولة"مزارع شبعا"غير مقنعة، حتى ولو كانت محقة، ومعها تصير عبارة"شاء من شاء وأبى من أبى"التي أطلقها أحد مسؤولي"حزب الله"أخيراً، مكابرة سياسية لا تستند الى قضية كبرى مثل القضية الفلسطينية التي أوحت للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات بنجاعة ترداد تلك الجملة. لا يخفى هنا أن ثقل"التحرير"خفّ داخلياً اذا سلّم الجميع، كما هو حاصل، بأن معظم الأرض اللبنانيةالمحتلة قد جرى تحريره، وصار مطلوباً بالتالي تحرير مسيرة لبنان السلمية الطبيعية، ليستطيع هذا البلد الاستقواء على عوامل ضعفه الكثيرة. في هذا المجال لا نيّة لبنانية تضمر ان"حزب الله"يمنع التسوية الداخلية، لكن ثمة شعوراً واسعاً أنه يزيد من صعوبات انضاجها وبلورتها. من حق"الحزب"، ومن ورائه"الشيعية السياسية"، أن يبلور وحدة الطائفة في مقابل"التوحد الطوائفي"الآخر، لكن من الخطر أن تسيج الوحدة بالعزلة، أو أن يؤول التمسك بالحصة الداخلية الى شروط الانغلاق. مفيد التذكير هنا بأن في سياسة"حافة الهاوية"لاعبين آخرين، وأنه ليس شرطاً الاكتفاء بإتقان السير فوق الحبال من جانب واحد، فقد يعمد الآخر الى هزّ الحبال على طريقته... عندها قد تضيع مكاسب كثيرة، وتصير السياسة"فن الخيال"بدل أن تكون فن الممكن، انتزاعاً وتثميراً في البيئة الوطنية الداخلية. كاتب لبناني.