أهم ما يجعل المتنبي لقراء العربية مبهراً ومحط شغف كبير وتحيز يصل لحد الهوس أحياناً، إتيانه بإعجاز شعري في هذه اللغة، مؤسس على ضغط المعنى المحكم أو المتناقض بصيغ لغوية وشعرية، استطاع من خلالها كتابة أبيات شعرية وقصائد تكشف عما في النفس البشرية وهي نفسه هو بالذات من قلق وغربة وحكمة وعبث واستعلاء وشغف بالمجد واستخفاف بالناس أجمعين حكاماً ومحكومين، ملوكاً وسوقة وتحقيق ذاته العظمى المنتخبة على امتداد السلالات والأعراق وملء العالم بها من خلال الشعر. هو إنسان خارق شعري". وأقول"قراء العربية"لأن شعره متصل اتصالاً عضوياً باللغة... ومن حيث ينزل المعنى في الصيغة والكلمات والإيقاع نزول الروح في الجسد. فهو تلميذ بادية السماوة حيث العربية البكر، وتخرج على الزجاج والأخفش وابن دريد وأبي علي الفارسي كما تحزّب له أكبر فقهاء اللغة الذين عاصروه. مشروع المتنبي ليس سياسياً، السياسة لديه جزء وتفصيل. مشروعه وجودي قائم على أنه هو السوبرمان المتحدر من قوم وأعراق ونفوس كأنها تأنف سكنى اللحم والعظم، وأنه من أجل ذلك لا بأس من تقتيل الناس الذين يناديهم بهذا استخفافاً:"غيري بأكثر"هذا"الناس ينخدع..."وأن المجد هو القوة المطلقة"وتضريب أعناق الملوك"... وأنه هو السابق الهادي لما يقوله، وكأن جبران خليل جبران أخذ منه قوله في"السابق":"أنت سابق نفسك يا صاح"فالمتنبي يقول: "أنا السابق الهادي الى ما أقوله إذا القول قبل القائلين مقول". لم يمدح المتنبي سوى المتنبي... كل ممدوح آخر مستعار لأناه... حاول أن يكون نبياً فلم يستطع لأن ذلك لا ينبغي له أو لسواه بعد الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلّم... فكان شاعراً. لا ينبغي للنبي أن يكون شاعراً تبعاً للنص القرآني ولا ينبغي لأبي الطيب الشاعر أن يكون نبياً. هذه المناظرة تذوب في جسد النص اللغوي ذاته سواء كان نصاً مقدساً كآيات الذكر الحكيم أم قصيدة من قصائد المتنبي... ولكن ثمة ما يصل بين الحالين: النفس المصفاة والمختارة. قوة الكلمات. وبعد القرآن الكريم، من نعم وأعطيات العربية المتنبي. ثمة في شعر المتنبي ما يخترق المناسبات، وتظهر أبياته على حد تشبيه الطيب الصالح لها، بمثابة كرات من نار تجتاز الآفاق والأزمنة. وعلى رغم موت بعض أدواته، بفعل تطور التاريخ ومعه المفردات، فإن الرمز يبقى سارياً ولا ينتكس. لو أخذنا بيتاً من أشهر أبياته في الفخر:"الخيل والليل والبيداء تعرفني/ والسيف والرمح والقرطاس والقلم"ودققنا في كلماته اليوم كلمة كلمة لقلنا: الخيل اليوم للاسطبل أو لميدان السباق، ولم تعد للمعركة، والليل لم يعد ليل الستر والبوادي، كذلك البيداء، والسيف والرمح لمتاحف الآثار وحتى القرطاس والقلم تغيرا بفعل تطور التكنولوجيا والانترنت... ومع ذلك يبقى رمز الاعتداد بالنفس سارياً والبيت يذكره المعتدون بأنفسهم. التناقضات جزء من عبقرية المتنبي. يضاف لذلك إحساسه المتفرد والحاد بالعظمة والغربة معاً. قطفه البلاغي العبقري للحكمة. تلاعبه بالمعاني تلاعباً يجعل قارئه دائم التأهب للمفاجآت والتوليد. وهنا بعض ما يحضرني: *"مَن لو رآني ماء مات من ظمأ ومَن عرضت له في النوم لم ينم". *"وإن أسلم فما أبقى ولكن سلمت من الحِمام الى الحِمام". *"صحبت في الفلوات الطير منفرداً...". *"فشرّق حتى ليس للشرق مشرق وغرّب حتى ليس للغرب مغرب". * شاعر لبناني