يحسن بنقاد اليوم أن يبكوا على أطلال مجدهم الغابر، ويرثوا حظهم العاثر، فقد ولدوا في عصرٍ يعتبرهم (مبدعين فاشلين) بل قد يبالغ فيعتبرهم مجرد أدعياء وطفيليين! أما في العصور الذهبية للنقد فقد كان لهم احترام، وكان المبدعون يحسبون لهم ألف حساب، ولا أدل على ذلك من مقولة المتنبي أعلاه! مع أن (ابن جني) لا يفقه الإبداع الشعري حتى ينقده، وإنما هو مجرد (عالم نحو كبير) ولكن حظه السعيد جعله في عصر يهتم فيه الشعراء والناس بالنحو ويلحظون أي خطأ فيه، وللحق كان (ابن جني) على اسمه (جنياً) في فهم النحو، وقد لحظ هذا المتنبي بذكائه الخارق فأطلق عبارته الشهيرة في مجلس سيف الدولة العامر بالعلماء والشعراء والنقاد وهو يشير لابن جني بإجلال! كان المتنبي ذكياً جداً يعرف من أين تؤكل الكتف! بل كان وزارة إعلام كاملة همها تمجيد نفسها وتخليد شعرها بإطلاق الدوي الهائل الذي يصنع الشهرة والمجد، وتمجيد أمهر النحاة في عصره لتجنيده في خدمته وخدمة شعره، حتى صار ابن جني ملازماً له كالخادم (مع الاحترام) وشرح ديوانه مرتين (الشرح الكبير والشرح الصغير!!) وهو مجرد توضيح لمعاني الكلمات وتخريج لما قد يقع فيه العملاق من أخطاء نحوية!! لا أكاد أشك أن ابن جني كان يسهر الليل ويزحف على ركبه يغوص في مراجعه ليجد وجهاً لخطأ نحوي اقترفه المتنبي ليرد له الجميل ويثبت أنه أعلم بشعر المتنبي منه! وهي المقولة التي (ضحك) بها المتنبي على ابن جني! وجنده في خدمته إلى الأبد بكلمة! من يصدق مقولة المتنبي أكبر شعراء العربية وهو الذي يقول: (الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم أنا الذي نظر الأعمل إلى أدبي وأسمعت كلماتي من به صمم أنام ملء جفوني عن شواردها ويسهر الخلق جراها ويختصم)؟!