حين تنتقل قطرة الماء من النبع الى البحر لا بدّ لها من أن تتبع مساراً معيّناً هو مسار ما لا يُحصى من القطرات التي يشكل مجموعها النهر المتعطش الى معانقة البحر والذوبان فيه. ومع هذا المسار المشترك يبقى لكل قطرة خصوصيتها ومسارها الخاص. وحين ينتقل الانسان من المهد الى اللحد لا بدّ له من أن يتبع مسار الحياة الذي تسلكه بلايين الناس. غير أن لكلّ إنسان حياته ومساره الخاص المختلف عن مسار الآخرين وإن كان الجميع يؤول الى المصير نفسه. هذا المسار الخاص لبطل رواية"محاورة السيدة العجوز"وراويها للروائي السوري عبدالعزيز الجندي هو ما ترصده الرواية دار الآداب - 2007. فتقدم لنا شخصية روائية قلقة، دائمة الترحال، لا تعرف الاستقرار الداخلي أو الخارجي، تميل الى العزلة والتوحد، وتداهمها نوبات من الكآبة وأخرى من الحنين، وتعيش توترات نفسية وقلقاً فكرياً، وتجنح الى التشاؤم والنظرة السوداوية للحياة. وهي شخصية على قدر من الثقافة الأدبية. يقدم عبدالعزيز الجندي هذه الشخصية في مسارها بين النبع والمصب من خلال الأحداث والتقنيات الروائية التي يستخدمها، من المحاورة الى الوقائع والذكريات والأحلام والحكايات، ومن خلال المقارنة بينها وبين شخصية محورية أخرى في الرواية هي شخصية"السيدة العجوز". واللافت أن الكاتب لم يطلق اسماً معيناً على بطله وراويه ولا على"السيدة العجوز"شريكته في الحوار. ولعله أراد من خلال عدم اطلاق اسم علم على كل منهما تجنيسهما وجعل كل منهما يمثّل جنساً معيناً من الناس هو كما يتبين من الرواية جنس المثقفين الذين يعيشون في الخيال بقدر ما يعيشون في الواقع، وربما عانى بعضهم من الانفصام والتشظي بين الحيزين كما هي حال الكثيرين من مثقفي هذه الأيام، وربما انقطع بعضهم عن الواقع حتى إذا عاد اليه يكون الأوان قد فات. وهذه هي حال بطل الرواية وراويها. في بداية الرواية، يبدو البطل في ثلة من المثقفين، بينهم الرسام والمعلم، يصعدون جبلاً عالياً عبر طريق متعرجة في سيارة ضخمة قديمة، ويتجاذبون حديثاً ثقافياً متشعباً، فتقوم علاقة توازٍ وتزامن بين الصعود الجغرافي الى القمة والصعود الفكري بواسطة الكلام. والصعودان"كلاهما يتيح هامشاً من الحرية. فصعود الجبل يُشعر بالحرية، والخوض في حديث ثقافي يعكس وعياً يُفضي بالضرورة الى نوع آخر من الحرية. وبعد أن يعرّج البطل/ الراوي على بيت الطفولة/ النبع الصافي في الجبل حيث يلتقي أخاه الأكبر عازف البيانو ويكون بينهما حديث عن الموسيقى واستحضار لذكريات الطفولة والأوقات الحميمة، يرحل من جديد ليقضي اجازته في بيت قديم على قمة الجبل في ضيافة سيدة عجوز. وهذه المحطة في مسار الراوي/ قطرة الماء تستغرق القسم الأكبر من الرواية. إزاء الوحدة والاحساس بالغربة في تلك القمة، تنشأ أحاديث ومحاورات بين الراوي والسيدة العجوز تخوض في شؤون شتى. غير أن الشأن الذي يطغى عليها هو الثقافي/ الأدبي مطلاً على الحياة والموت والانسان والوجود. وتشكّل المحاورات علاجاً لغربة الراوي وتوحّده، فتروح تتكرر يومياً في طقس يتكرر بدوره، حيث يجلسان قرب المدفأة إزاء النافذة، ويروحان يتبادلان الحوارات والأحاديث والحكايات. وتحضر في هذه المحاورات قمم الأدب العالمي، من دون كيشوته الى فاوست الى مدام بوفاري... وغيرها. على أن بعض المحاورات تبدو منسجمة مع السياق الروائي في ما يبدو بعضها الآخر مصطنعاً ومجتلباً بقسرٍ ما. تتمخض المحاورات عن شخصيتين مختلفتين في العمر والجنس والعقلية لكنهما متكاملتان في الوقت نفسه. فمن جهة ثمة الراوي المنتمي الى الحاضر بتشاؤمه وقلقه وكآبته. ومن جهة ثانية ثمة"السيدة العجوز"المنتمية الى الماضي زمنياً والى المستقبل فكرياً بحكمتها ورضاها وتفاؤلها وفلسفتها في الحياة والموت. وكلّ من هاتين الشخصيتين هي الوجه الآخر للأخرى. وهي مفارقة بحد ذاتها، هو الشاب يحمل في داخله بذور الخيبة والفشل والكآبة. هي العجوز تحمل الرضى والنظرة التفاؤلية الى الوجود والحياة والموت. ولعلّ خير تعبير عن نظرة كل من هاتين الشخصيتين الى العالم ما يقوله الكاتب على لسان كلّ منهما، ففي حين يخبرنا الراوي متعجباً:"كم نفتقد الأشياء الرائعة في هذا العالم!"، تؤكد هي:"العالم ذاته هو روعة الروائع". ص 79. على أن العلاقة بين الشخصيتين لم تكن علاقة ندية بل كانت أقرب الى علاقة التلميذ بالمعلمة، فالكلمة الفصل لها، والتحليل الصائب منها، والحجة الأقوى حجتها. وكثيراً ما تختتم الكلام بتوصية أو نصيحة تلقيها على مسمعه بمحبة، وتنصرف الى شأنها. ومن هذه الخواتيم قولها:"لا تغضب! فمن الغضب تهرب السعادة... ولا تحزن، فالحزن يعكّر صفو الحياة كما تفعل أقدام الأطفال في ماء الجدول الصافي!... ولا تكره الحياة! فالحياة قصيرة وسرعان ما تنقضي!... ولا تخشى الموت! فالموت هو الخاتمة السعيدة لكل حياة!.."ص136. مثل هذه الخاتمة التي لا تنأى عن الوعظ تعكس حكمة وبعد نظر وعمقاً في مقاربة المفاهيم لدى السيدة العجوز ناهيك بما تفرزه المحاورات من ثقافة نقدية واضحة وقدرة على التحليل مبينة عندها، وبدرجة أقل عند الراوي. كأن الروائي أراد أن يقول إن الأكبر سنّاً هو الأكثر معرفة، والأعمق تجربة، والأوضح نظرة، والأقدر على مقاربة شؤون الحياة والموت. وتستمر الحال على هذا المنوال من أحاديث ومحاورات وحكايات تختلف وتتكامل، وتتكرر في طقوس متشابهة في المكان والزمان والوضعية الى حد أنني سألت وقد شارفت الرواية على نهايتها: أين الحكاية في الرواية؟ وهل تكفي المحاورات في موضوعات الحياة والموت والأدب والوجود لتشكل أثراً روائياً؟ وهل بوسع هذا المسار الأفقي للاحداث عن قمة الجبل في ذلك البيت القديم أن يقنع القارئ بروائيته؟ غير أن تحوّلاً درامياً مفاجئاً في نهاية الرواية كسر رتابة السياق الأفقي وفاجأ بغير المتوقع، ذلك أن الراوي، وهو على أهبة الرحيل، يكتشف أن السيدة العجوز التي طالما تحاور معها قد ماتت منذ سنوات، يخبره بذلك الآذن الذي كان يقوم على خدمته خفية. وهنا تكون الصدمة الكبرى، فيغادر وقد تحوّل البيت/ المكان الروائي من مهد للراحة والاجازة الى قبر للصور والذكريات، ولا يتخفف من صدمته إلا وهو يواكب النهر متماهياً معه ويتطلع الى البحر من وراء الأفق مقرراً أن يرتمي بين أمواجه وعدم العودة أبداً، متوسلاً إياه سبيلاً الى السماء، فالبحر هو"عتبة منزل السماء"من وجهة نظره. وهكذا، فبقدر ما كانت الحياة ثقيلة الوطأة على الراوي شكل الموت باعثاً على الراحة والطمأنينة ودرباً الى منزل السماء. وإذا كان السياق الروائي لم يُرهص بمثل هذا التحوّل وتلك النهاية، فإنه كان الأولى بالروائي أن يمهّد لهذا التحوّل الحاد في مجرى الأحداث بالتخفيف من واقعية السيدة العجوز تمهيداً لتحويلها من امرأة حقيقية تحاور الراوي الى امرأة متخيلة. ولو انه اكتفى بأن ينسب اليها أقوالاً معيّنة تقولها على مسمع الراوي لبدت عملية التحوّل مستساغة. أما أن تُنسب الى السيدة العجوز أقوال وأفعال وتشارك الراوي في ارتشاف القهوة وتناول الطعام ومعاينة الكتب، ثم نكتشف فجأة أنها لم تكن موجودة إلا في مخيلته فهذا مما يجافي المنطق الروائي ولا يُقنع القارئ. وإذا كان الكاتب استخدم تقنيات الذكريات والأحلام والأفلام والحكايات في خطابه الروائي، فإن الوظيفة الروائية للتقنية الواحدة كانت تختلف من موقع الى آخر في الرواية، فالحلم، على سبيل المثال، يقوم بوظيفة مكمّلة للوقائع حيناً، ويقوم بوظيفة استباقية/ تمهيدية حيناً آخر عندما يُرهص بوقائع آتية. والذكرى قد تكون مضحكة تخفف من قساوة الحاضر، وقد تكون حزينة يتم اسقاط الحاضر عليها. أما الحكايات المتبادلة فبعضها ورد في السياق الطبيعي وشكّل جزءاً لا يتجزأ من السرد، وبعضها بدا مقحماً عليه وغير وثيق الصلة به كما في الحكاية الأخيرة الطويلة عن القاضي المهيب الذي جرى نفيه مع أسرته خلال الحرب العالمية الأولى. وعلى الرغم من ذلك، تبقى"محاورة السيدة العجوز"، بما فيها من سلاسة اللغة وطلاوة السرد وغرابة الاحداث والغنى الثقافي والنظرات الثاقبة في الحياة والموت، أثراً روائياً ممتعاً يمكن أن نقرأه من دون أن نحس بالندم. * محاورة السيدة العجوز - رواية عبدالعزيز الجندي - صدرت عن دار الآداب في 183 صفحة من القطع الوسط.