يشغل البحر حيِّزًا مهمًّا في الرواية العربية، فقلّما يخلو بلد عربي من كاتبٍ أو أكثر اتّخذ من البحر موضوعًا روائياً، وهذا أمر طبيعي في منطقة تطلّ معظم بلدانها على البحر، وتتفاعل معه في أنماط العيش وأسباب الحياة. والرواية هي حصيلة تفاعل الإنسان مع المكان في زمان معيّن، وحسبنا أن نذكر، في هذا السياق، نجيب محفوظ وإدوار الخرّاط من مصر، حنّا مينا وحيدر حيدر من سوريا، عبدالرحمن منيف من السعودية، جبرا ابراهيم جبرا من فلسطين، غائب طعمة فرمان من العراق، محمد زفزاف من المغرب، ليلى العثمان وطالب الرفاعي من الكويت، علي أبو الريش من الإمارات، وعبدالله بن محمد الطائي من عُمان، وغيرهم... على أن طريقة الاشتغال على البحر تختلف من روائي إلى آخر، وتتفاوت بين رواية وأخرى. ولعلّ آخر ما صدر في هذا الموضوع رواية «أرواد» للكاتب اللبناني محمود عثمان (منشورات ضفاف ودار الأمان). يضع الكاتب روايته في خمس وثلاثين وحدة سردية، لا تقوم العلاقة بينها على التعاقب الزمني بمقدار ما تقوم على التداخل، وربّ واقعة متقدّمة في حياة الشخصية ترد في وحدة سردية متأخّرة، والعكس صحيح. يتناول محمود عثمان «حكاية القبطان مصطفى البطريق»، كما يشير العنوان الفرعي للرواية. وهو يفعل ذلك، من خلال مجموعة لقاءات بين الراوي العليم الذي يسند اليه عملية الروي، ويتّخذ منه قناعًا له، وبين القبطان، البطل شبه الوحيد للرواية، والراوي المشارك في بعض الوحدات السردية. هي لقاءات كانت تتم، غالبًا، في مقهى بحري في منطقة الميناء الطرابلسية، ونادرًا، في رحلات بالسيارة يقوم بها الاثنان. على أنّ العلاقة التقنية بين الراوي العليم والشخصية تقوم غالبًا على جدلية الإصغاء والتكلّم؛ فمن جهة، ثمّة راوٍ يصغي ويحاور أحيانًا. ومن جهة ثانية، ثمّة شخصية تروي حكايتها. هكذا، نكون أمام بنية روائية بسيطة تناسب بساطة الحكاية المرويّة. على أن ما ترويه الشخصية هو خليط من الذكريات، والوقائع، والمغامرات، والآراء المتفرقة، في البحر والناس والحياة. هذا الإطار الروائي البسيط الذي يصطنعه الكاتب يوفّر للرواية مقداراً كبيراً من الرشاقة والسلاسة والسهولة، يجعل قراءتها محفوفة بالمتعة. بالعودة إلى الحكاية التي يرويها الراوي مستنداً إلى الشخصية، على دفعات متعدّدة بعدد الوحدات السردية، من دون التزام التسلسل الزمني لوقوع الحوادث، تطالعنا: ولادة البطل لأب أروادي سوري وأمٍّ طرابلسية لبنانية، تنقّله صغيراً بين أعمال مختلفة، فقدانه العذرية مبكراً حين تتّخذه زوجة «معلّمه» عشيقًا لها، تدرّجه في المناصب البحرية حتى يصبح شريكًا في ملكية سفينة، مغامراته الغرامية في مرافىء العالم، أخطار البحر التي يتعرّض لها، ابتعاده شبه الدائم من أسرته، سجنه، صدمته بوفاة ابنته، احتجاز سفينته من البحرية الإسرائيلية، تعاطيه التهريب... إلى ما هنالك من وقائع يستعيدها القبطان على مسمع صديقه الراوي الذي يتكفّل برويها. على رغم أن مصطفى لم يسبق له أن دخل مدرسة: «لم يرسلني أبي إلى المدرسة. ولم ألبس مريولاً أزرق مثل الذي يلبسه أترابي» (ص12)، فإنّه يصدر عن خبرة كبيرة في شؤون البحر والناس والحياة، ويتمخّض عن وعي طبقي وعنصري وقومي وإنساني، ويُدلي بآراء ثاقبة في مختلف الشؤون. هو خبير في قراءة الخرائط البحرية، يُبدي وعياً طبقيّاً مبكّراً حين يصف نفسه صبياً بالقول: «خادم أمين لعائلات برجوازية تفخر بدمها الأزرق» (ص12)، ويُبدي وعيًا عنصريًّا بالقول: «فأنا مجرّد سوري واحد من تلك الزيرة البعيدة» (ص12)، ويُبدي وعياً قومياً حين يعبّر عن قرفه ممّا يحدث في غزة ودمشق والقاهرة وبنغازي، ويُبدي وعياً إنسانياً حين يؤمن بانتمائه إلى الإنسانية جمعاء. ويُدلي بآراء ثاقبة تُشكّل خلاصات تجربته الكبيرة، وتتناثر على صفحات الرواية، كقوله: «الميناء يا أستاذ ماخور كبير»، «الميناء ملتقى الحضارات» (ص36)... وإذا كان ما يُنسَب إلى الشخصية من آراء ومهارات بحرية أمراً مبرّراً بفعل الخبرة المكتسبة من العمل في البحر، فإنّ بعض ما يُنسَب إليها من وعي متقدّم، على أنواعه، وآراء متفرّقة في شؤون الحياة لا ينسجم مع كون الشخصية غير متعلّمة ولم تدخل مدرسة قط ولم تقرأ كتاباً، ما يطرح رسم الشخصية على المحك. ناهيك بمفارقة داخلية، فهو يُبدي رأياً تقدّميّاً في المرأة وآخر رجعياً محافظاً في الثورات العربية، ومفارقة أخرى خارجية في علاقته بالراوي، فالقبطان الأمّي متقدّم الرأي في المرأة، بينما الراوي المتعلّم محافظ الرأي (ص88، 89). انطلاقًا من هذه الوقوعات، نحن إزاء شخصية إشكالية، مغامرة، متحرّرة، وجودية، عاطفية وطريفة، تُقبل على الحياة بكلّ حواسها، وتعيش على حافّة الخطر، وتأتي نهاية الرواية المتمثّلة بنزول القبطان بقدميه إلى البحر، والتوغّل فيه حتى يغمره الماء ويختفي، لتنسجم مع هذه الصفات، وتُشكّل نهاية مناسبة للشخصية والرواية. ولئن كانت الرواية تدور حول قبطان بحري، فإنّ البحر فيها هو أقرب إلى إطار خارجي لحركة الشخصية منه إلى فضاء روائي، فنحن لا نقع فيها على تفاصيل ومصطلحات تتعلّق بالحياة البحرية، ونمط العيش وأدواته، وأجزاء السفن ومكوّناتها، وعمل البحارة في مواجهة الأخطار. بل ما يُطالعنا مجرد ذكريات عن حياة الشخصية المعنيّة، تنطوي على مقدار كبير من الحنين إلى الماضي، والضيق بحاضر تحاصرها فيه الوحدة، وظلم ذوي القربى، والتقدّم في العمر... تتّخذ «أرواد» مسارًا أفقيًّا، تتوزّع فيه الأحداث المتقطّعة، المختارة، على خمس وثلاثين وحدة سردية، تقوم على السرد الذي يتخلّله الحوار، بشكليه المباشر في بعض الوحدات، وغير المباشر في معظمها، بحيث يروي الراوي ما قالت الشخصية مستعيناً بالفعل «قال» ومشتقاته ومرادفاته. وفي هذا النوع الأخير يكون الحوار أحادياً؛ فثمة شخصية تحكي، وراوٍ يصغي ويحفظ في ذاكرته... غير أنّ الوحدة السردية الرابعة والثلاثين تختلف عن سواها في كونها حواراً مباشراً بين الشخصية والراوي يخلو من السرد، ويتمحور حول الموت. على أن أفقية المسار الروائي تكسر نمطيّة المسار التقليدي للرواية العربية الذي تنطلق فيه الحوادث من نقطة معينة، وتأخذ في النمو والتصاعد حتى تبلغ ذروة معيّنة، ثم تأخذ في الانحدار وصولاً إلى الحل... إضافة إلى أنّ الرواية تكسر نمطيّة السرد مرّتين اثنتين؛ أولى بمقطع من ملحمة غلغامش (ص73)، وثانية بنشيد رثاء (ص82). ما خلا ذلك، ثمّة سرد طليٌّ، سلس، ينساب على رسله من دون مطبّات أو معوقات. يصوغ محمود عثمان نصّه بلغة رشيقة، جميلة، تستخدم الجمل والعبارات القصيرة والمتوسّطة، تجنح نحو الأدبية، وتتّخذ مستوى كنائياً في التعبير عن الفعل الجنسي مؤثرة التلميح على التصريح، تقلّ فيها أدوات الربط، فتنساب الجمل المتعاقبة في حركة موجيّة تناسب الموضوع. وهي تستخدم أيضاً الصور والمحسنات البيانية بمقادير محدّدة من دون إسراف، فينجح الكاتب في المحافظة على توازن مستحبٍّ بين السرد والأدب. وبهذه المواصفات، على مستوى الحكاية والخطاب واللغة، يقدّم محمود عثمان نصاً روائياً جميلاً، سلساً، تمتع قراءته، فلا يعود القارىء من الغنيمة بالإياب.