في مصح نفسي هو عبارة عن حديقة غناء كبيرة خارج المدينة وعلى جدران كنيسة بروتستانتية حديثة البناء والشكل، لا تشبه الكنائس التقليدية، افتتح معرض الفنان العراقي كمال خريش وسط حضور لافت لجمهور معظمه من أشخاص يعانون اضطرابات نفسية، فيما كان صوت فيروز الناعم يمنح القاعة - الكنيسة جواً من الشفافية الممزوجة بهدوء فاتن يبعث على الراحة المطلقة. المعرض ثمرة عمل مشترك بين الفنان والمؤسسة النفسية كتجربة جديدة لعلاج المرضى الذين يعانون من الاكتئاب الدائم بالفن التشكيلي على غرار التداوي بالموسيقى. وقدم الفنان دروس"عمل تطوعي"في الرسم إلى هؤلاء الناس استمرت ستة أشهر. وقد كان حضورهم ومتابعتهم الأعمال الفنية والحديث عنها الأكثر إثارة في المعرض. ضم المعرض خمساً وعشرين لوحة مختلفة الأحجام والأشكال ونفذ معظمها بتقنية واحدة، زيت على القماش. المعرض برمته يستلهم البيئة العراقية والبيئة السومرية تحديداً، حيث النساء السومريات المستلقيات قرب الماء الشفاف الذي تبدو من خلاله الأسماك، والطيور والمشاحيف زوارق صغيرة والسماء الصافية الجنة المفقودة. الألوان الحارة والمشرقة التي توزعت بين الأحمر والبرتقالي والأصفر والبني عكست أجواء البيئة المتخيلة في الجنوب العراقي الثاوية في ذاكرة الفنان خريش. وتظهر أحياناً ألوان داكنة إلى جوار الألوان الحارة هي الأثر الذي يتركه المكان الراهن، تذكرنا بتقنية رامبرانت في استخدام الظل والضوء ونولده وفان غوغ أيضاً، إذ تكون العتمة أحياناً أكثر عمقاً من البقع الساطعة ولا يمكن تفكيك رموزها بسهولة. يهتم الفنان كمال خريش بالخطوط والتكوينات أكثر من اهتمامه باللون، فهو على خلاف الكثير من الفنانين يبدأ باللون وينتهي بالتخطيط. وتلعب الغواية دوراً كبيراً في ثيمة العمل الفني ككل ما يجعل اللوحة دائماً قابلة للإضافة والحذف من دون أن يستطيع الفنان السيطرة على حركة اللوحة. الخطوط لا تقل أهمية وجمالية من اللون وهي أكثر حركة من الألوان التي تأتي ثانوية في أعماله. وهو ميال إلى الغرافيك ويحاول أن يجعل التضاد قائماً بين الهارمونية والخط واللون من أجل أن تكون اللوحة أكثر حركة وانسجاماً. لا يستخدم الفنان كمال خريش خامات كثيرة في العمل بل يحاول ان يعمل بخامات بسيطة وطيعة، ويحاول أن يختزل الكثير من التفاصيل الصغيرة كلما أتيح له ذلك وما يعول عليه هو أن لا يكون عمله قطعة ديكور خالية من الروح، إذ يركز على عمق اللوحة كي تكون قابلة للمشاهدة أكثر من مرة واحدة. وعلى رغم أن أعمال خريش تندرج في إطار التعبيرية، إلا أنه لم يستطع التخلص من إرثه العراقي المتمثل بكبار الفنانين العراقيين أمثال جواد سليم وفائق حسن اللذين بدت آثارهما واضحة على خطوط كمال خريش وتكويناته. إلا أن أجواء جواد سليم كانت أكثر حضوراً، خصوصاً إذا عرفنا أن جواد استلهم البيئة السومرية في الكثير من أعماله. هذا هو المعرض التاسع في مسيرة الفنان خريش لكنه لا يشبه أياً من معارضه السابقة. ويبدو أن المعرض المقبل لن يشبه هذا المعرض لسبب بسيط هو إن الفنان لا يؤمن بمدرسة واحدة ولا ينتمي إلى تيار فني معين. ويبدو عمله مثل عمل الشاعر أو الموسيقي يستمد قدرته من الإلهام الذي تمنحه إياه الأشياء في الطبيعة والحياة.