درسنا معاً في معهد الفنون الجميلة في بغداد، وكان آنذاك يعج بالمئات من طلاب الفن المهووسين بعشقهم. كنا نرسم بجنون، نقرأ بجنون، ننحت وندرس تفاصيل جسد الخط قراءة ورسماً، نتعلم كيف تتحرك موسيقى الرقش، نعمل أشكالاً من الطين، نخربش عليها أو نزخرفها ثم نضع عليها الأكاسيد ونتفرج عليها أياماً ننتظر بفارغ الصبر أن تجف لنشويها لنفاجأ في ما بعد بالفيروز يتلألأ من جنباتها. حفرنا الخشب والمعدن، عاملناها بالاحماض والمساحيق، حققنا الطبقات، صممنا الملصق، وصممنا على التقدم. تسابقنا إلى المقاهي وأسواق بغداد القديمة... حدائقها. طاردنا بأعيننا الصافية ملامح الجمال في أقواس الجوامع، نسينا أنفسنا ونحن نستغرق في سلاسة الزخارف والخطوط لننتبه إلى أجراس كنيسة تقرع، فنغزل شعراً في صبية بغدادية أطلت مبتسمة من شباك اختلط ألوان زجاجها بتعاريج ثوبها، بأصابع ترسم حروف وعد بالعشق. كنا نسابق في الصباح لنعرض ما كنا رسمناه على أساتذتنا والطلاب الآخرين، من عرب وأكراد وتركمان وآشوريين، أشكال عراقية مألوفة، ولكن رشاد وحده كان المختلف بيننا! بشرته البيضاء وزغب لحيته الذهبي، طوله الفارع، عفويته، طلاقة لسانه في الحديث بلغات عدة، كان يدرس الغرافيك في حين اخترت أن أتعرف أكثر إلى خفايا الطين، فدرست الفخار. اختفى فترة لكننا سرعان ما لمحناه على شاشة التلفزيون وهو يستقل سفينة سومرية أعاد بناءها النروجي ثورهيردال من القصب ليثبت ان السومريين كانوا يتنقلون من المياه العذبة إلى المالحة وصولاً إلى مراكز الحضارات الأخرى بهذا النوع الفريد من السفن. كان رشاد العراقي الوحيد بين فريق العلماء والمغامرين الذين توافدوا على منطقة الأهوار حيث عاش السومريون قبل خمسة آلاف عام. والده نزار سليم كان فناناً تشكيلياً بارزاً ورسام كاريكاتور لامعاً، وكان يكتب القصة ويرأس المؤسسة التشكيلية الرسمية في العراق آنذاك. عمه سعاد كان من رواد حركة الرسم الساخر في العراق، في حين أسس عمه الآخر جواد سليم معهد الفنون الجميلة في بغداد، كما أسس أول جماعة فنية في العراق، واشتغل على النحت والتطوير كما لم يشتغل فنان عراقي قبله، وأنهى حياته القصيرة برائعته "نصب الحرية" الذي ينتصب حتى اليوم في قلب بغداد، مذكراً بوعد الحرية الذي لم يدم. عمته نزيهة الرسامة وأستاذة الفن لأجيال من الطلاب ظلت أمينة على خط أخيها جواد، فرسمت بماء العشق نساء بغداد ومآذنها وعناق نخلها مع النهر وشجيرات البرتقال. أما والدة رشاد فهي المانية من أب كان له شأن في تجربة بلاده الفنية. لا أعرف كم من الوقت مضى لألتقيه في بيت عائلته، حيث كنت على موعد مع أبيه نزار وعدد من رسامي الكاريكاتور لنفكر بتشكيل أول خلية عمل كاريكاتورية، وبعد هذا اللقاء بعام أو عامين وجدته في أحد أروقة دار ثقافة الأطفال في بغداد، حيث كنت أعمل. رحبت به وعرفت أنه يرغب في العمل لصحافة الأطفال، وسرعان ما انضم إلى فريق الرسامين، وصار يشتغل بدأب على أفكار عدة لكتب كان يرغب في تنفيذها. اعجبني دأبه ونزوعه إلى التجديد، وسرعان ما انخرطنا في عمل مشترك لرسم ملامح شخصيات تاريخية عربية لمشروع لم يتحقق لانتاج سلسلة من أفلام الرسوم المتحركة. من هنا تبلورت صداقة فصمت عراها حرب مدمرة استطاع هو ان يفلت من خرابها وعبثها، في حين بقيت أنا اشتغل بصعوبة بالغة على الاستمرار في الرسم للأطفال والبالغين وسط حقل ألغام وساحة حرب مساحتها رقعة العراق كلها. حلّ في لندن، فدرس صناعة الرسوم المتحركة، كتب لي من هناك، وأرسل نسخاً من أفلام متحركة قصيرة من صنعه، كان شارك بها في عدد من المهرجانات الدولية المتخصصة بهذا النوع من الفن. كما بعث إليّ نسخة من كتاب قيّم حقق رسومها الرائعة بريشته لدار نشر انكليزية، وكان ذلك في منتصف الثمانينات، وهنا انقطعت أخباره... حتى علمت أنه ملّ ضباب العاصمة البريطانية وانتقل إلى حيث الشمس... إلى المغرب. - والآن... من أين تتصل بيّ يا رشاد؟ حسب معلوماتي انك انتقلت إلى اليمن قبل سنين عدة، كما أن هناك من لمحك في تونس خلال مشاركتك في "مهرجان المحرس الدولي"، حين أحرقت أمام الملأ عملك النحتي الذي أنجزته خلال أيام المهرجان احتجاجاً على غزو القوات العراقية للكويت. أجل... هذا صحيح، ولكن الأرض ليست ثابتة، أنا الآن على مقربة منك في كولونيا بالمانيا اشتغل على الإعداد لمعرضي الشخصي "عين الأهوار" الذي سيقام في لندن قريباً، ولديّ مشروع بودي لو استطيع أن اطلعك عليه، وفي اليوم التالي كنا نحتسي الشاي على أنغام المقام في مرسمي في هولندا. خلال يومين اختصرنا أحداث كل الأعوام التي مضت. تذكرنا أشياء وتناسينا أشياء. أطلعته على تجاربي الأخيرة في الرسم، وحدثته عن حِلِّي وترحالي، وفي حين كانت عيناي على الشمال العراقي في مشروع لرسم لوحات عن قصائد الشاعر الكردي شيركو بيكسي كانت عين رشاد على الجنوب حيث اغتيلت الأهوار. حدثني عن المعلومات الناقصة عندي عنه، المغرب ومعارضه هناك، اهتماماته التي لم تنته بالأطفال، انتقاله إلى اليمن وأنشطته هناك ثم أطلعني على مشروعه الذي جاء من أجله وعاد أدراجه إلى خيمته الموقتة التي نصبها في كولونيا ليواصل عمله على تهيئة أعماله الفنية لمعرضه الشخصي في قاعة سوني في لندن. عادت المياه إلى مجاريها، عادت الحرارة إلى خطوط هواتفنا، وبدأت اتصالاتنا المكثفة من جديد. عرض عليّ أن أزوره في كولونيا وأن أرافقه إلى لندن لحضور حفلة الافتتاح، فلم أرفض الفكرة! في كولونيا عمل رشاد على وضع بعض الرتوش الأخيرة على أعماله الغرافيكية التي أراد أن يطلعني على أسرار صنعتها، ففي خلطة عجيبة استطاع ان يمزج لعبة الطباعة الطينية التي ابتكرها السومريون في صناعتهم لاختامهم الاسطوانية بلعبة طباعة الأوفست الحديثة، بانتاج الرسوم بطريقة المونوتايب، وكذلك بالحفر على اللينوليوم، والنتيجة كانت لوحات طويلة غلب على معظهما رائحة الصلصال. وظهر واضحاً استخدامه وباشكال مختلفة كلمة "العين" التي عكسها في لوحات أخرى لتصبح كلمة "الاوم" السنسكريتية. أسلاكاً معدنية نحيفة حركها رشاد برشاقة وعمل منها أشكالاً هندسية في بعضها وزخرفية في بعضها الآخر... زحفت الأسلاك على بعض الأسطح الملونة حيث كان رشاد يريد، فالتصقت بها تارة، وابتعدت عنها تارة أخرى، فاكتسبت كالحرباء ألوان بيئة اللوحة. أما أعماله النحتية التي نفذ معظمها من الخشب، فإنها حملت الطابع الزخرفي المجرد، وإن كانت الأشكال الإنسانية والنباتية المتداخلة تبدو واضحة للعيان. المجموعة الثالثة من أعماله سماها "الدوبي" وهي تسمية يمنية لنوع كبير من القرع الجاف تستخدمها النسوة اليمنيات عادة لعمل اللبن. اشتغل عليها رشاد بمهارة وعالجها بطرق مختلفة، فأضاف إلى بعضها تلك الأسلاك النحيفة الملونة التي امتزجت بأسطح لوحاته أو لجأ إلى الخدش والحفر على الأسطح الداخلية لبعضها الآخر، هناك تدخلات بالطلاء اللوني، واضافات ورقية ومعدنية مختلفة... انتج رشاد مجموعة من الأعمال الآسرة لن أطيل في وصفها لكي لا أفوّت على زوار المعرض عنصري الادهاش والمفاجأة. استغرق ايداع اللوحات في الإطارات، ثم في الصناديق ليلة بطولها، استمر رشاد في العمل حتى الصباح، وحين حضر شريكه في سيارة النقل الفنان الانكليزي ريك في الصباح الباكر كنّا أودعنا أعمال وأحلام رشاد سليم في العربة، وانطلقنا نقصد عبر الأراضي البلجيكية والفرنسية... انكلترا.