يشغل تقطيع السطح الى مساحات هندسية على الأغلب تجمعها أو تتخللها اشغال أجساد ملتمة على نفسها أو مشوهة مع مقاطع من وجوه وأطراف وعيون وبعض وحدات فولكلورية وبقايا كتابة، الحيز الأكبر في جهد داود سلمان في معرضه الذي أقيم في قاعة الكوفة في لندن أخيراً. ذلك السطح الذي لا يكشف عن رغبة بالاستمتاع بالرسم كعالم قائم بذاته بقدر ما هو وسيط لبلوغ سعادة ايصال فكرة متحققة خارج القماشة، واعتداد داود بفكرته من القوة بحيث انها كثيراً ما اختارت شكل ظهورها وعلاقات ذلك الشكل، وهي تستغل تسامح الرسام للتمدد الى حدود توحي بانتمائها الى تجارب وعوالم مختلفة وتغترب عن بعضها. وداود يعزو ذلك الاختلاف إلى نوعين من المعالجة أو الرسم لديه احدهما يهتم بما هو باطني وداخلي والآخر بما هو خارجي وبيئي، اضافة إلى اختلاف المواد المستخدمة كل مرة. وهو يحيل عرضه لتجاربه المختلفة الى رغبته في وضع مشاهده "في صورة ما يمكن أن يحدث لشخص واحد ونفس واحدة من اضطراب، وتقلبات وتغير في طبيعة النظر الى موضوع محدد، فإن المراوحات والصعود والهبوط، البرود والدفء، اليأس والثقة، والحزن والسعادة وغيرها، كل هذه المتضادات كانت تظهر بجلاء شديد في حياتي خلال السنوات القليلة الماضية. وان غايتي الأبعد من عرض كل تلك الأعمال على جدار واحد لا تكمن في مادة كل لوحة على حدة وانما في معنى عرضها كلها معاً، مع اعتقادي بوحدة الجو الداخلي لكل الأعمال التي انتجها جميعاً داخل محتوى فكري واحد". يتعمد داود ان يترك لمشاهده فرصة مراقبة السرعة في تنفيذ أعماله واكتشاف ما يوحي بالانقطاع والعزوف المفاجئ عن الاستمرار في مباشرة اللوحة وكأن شيئاً أو حدثاً ما غير متوقع حال بين الرسام ولوحته. يقول: "انني أرسم كمن يحاول التملص من شراك القماشة لكي يوقع نفسه في شرك آخر، ورؤيتي الى موضوعي تتغير بسرعة تضطرني الى محاولة اللحاق بها. ويبدو ان تلك هي طبيعتي أو طريقتي في العمل، لذلك اعتبر أعمالي السريعة والصغيرة الحجم أنجح من تلك المدروسة بتأن وهي الكبيرة الحجم عموماً. وبما أن موضوع اللوحة هو ما يستغلني بشكل أكبر فإن مستوى معقولاً من جودة التنفيذ في الألوان والبناء والخطوط يفي بغرضي من اللوحة". وعلى رغم وجوده الطويل في أوروبا يقيم في المانيا منذ أواسط السبعينات وتحصيله الفني المختلف وارتباطه بعالم الفن الأوروبي والألماني على وجه الخصوص، إلى الحد الذي يمكن القول معه ان شخصية داود سلمان الفنية تكونت في وسط مختلف وضمن شروط مختلفة، إلا أن آثار تربيته ودراسته الأولى في العراق تطل هنا وهناك خجلة حيناً ومتباهية بنفسها أحياناً الى حدود مربكة لا يأبه معها الرسام لفرادة تجربته ويبدو من خلالها طيعاً وفياً أكثر منه مندفعاً ومعتداً بخصوصية عالمه. وكأن داود جلس وحيداً في عزلته الألمانية يرتب ماضيه وأشياء طفولته الحميمة ويحميها ليعيد عرضها على زواره وكأنها لقى وبقايا نادرة لا يملك مثلها سواه، تمنحه الاطمئنان وترتب صلته بالأشياء وتتحول علامات على خيط درب سري في متاهة من الدروب. يقول داود: "كلما مضيت أكثر في مشوار حياتي وفني في أوروبا كلما ازددت اقتناعاً بأنني انتمي الى بيئة مختلفة وتراث فني مختلف، وتعمق شعوري بأنني الابن الشرعي لذلك التراث. احياناً ارسم شكلاً أو جزءاً من شكل معروف رسمه قبلي فنان آخر من الرواد العراقيين، أو انتج لوحة ضمن مناخ أعمال ذلك الفنان. ولا أجد مشكلة في ذلك إذ أنني اعتبر تجارب الآخرين تجارب شخصية لي عشت فترتها وتعلمت على يد منتجيها وصادقتهم وفكرت مثلهم". ويضيف: "ان آثار الفنانين الرواد ظاهرة في أعمالي فقد عشت في بيت جواد سليم، ونزيهة سليم كانت استاذتي وكذلك اسماعيل الشيخلي، الأمر الذي زرع في ذاكرتي وعواطفي حباً متجدداً للمدرسة البغدادية مثلاً. ذلك بالاضافة الى تأثري بما كنت أشاهده وأدرسه من آثار وفنون عراقية قديمة، سومرية وبابلية وآشورية واسلامية، خلال فترة عملي في المتحف العراقي ببغداد. هذا من جهة، ومن جهة أخرى أنا أشعر بأنني عندما ارسم تلك الاشكال والأجواء التي تشبه توصلات اساتذتي أكون في الواقع ارسم تحويراتهم واستعاراتهم من المدارس الأوروبية أو انني أرسم اشكالاً أوروبية لأنها هي الأصل الذي أعيش بينه الآن ومنذ مدة طويلة". الوان داود شفافة أرضية على الأغلب واقعية تخدم بناءات غير واقعية. وبينما تنسج خطوطه وأشكاله فكرته وتؤلفها وتعطيها شكلها ودفقها فإن ألوانه غير المقصودة لذاتها تعمل في خدمة ذلك النسيج، وهي تسعى باتجاهه أكثر من سعيها باتجاه نفسها اذ لا تشغل مرتبة عليا من اهتمام الرسام المنصب على أشكاله المسيطرة على مساحة لوحته بقوة خطوطها وحركيتها الديناميكية، فموضوع داود يبدأ بالخط والشكل ويتأكد بالألوان.