فشلت، لأكثر من عقدين، كل الاقتراحات السياسية والمبادرات الديبلوماسية والقرارات الدولية، بما فيها المبادرات المحلية الفلسطينية والإسرائيلية مثل وثيقة جنيف، في صناعة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين وإنهاء الصراع. وهناك أسباب عدة لذلك، لكن من أهمها استمرار المجتمع الإسرائيلي وقياداته السياسية والعسكرية والنخب الفكرية في تفادي الاجابة عن الأسئلة الصعبة. ومن أهم هذه الأسئلة حدود دولة إسرائيل، وموقف إسرائيل من مواطنيها الفلسطينيين، وعلاقتها بجيرانها وبالأمن الإقليمي، وسيطرتها على مفاصل الحياة للشعب الفلسطيني في الأراضي المحتلة، ومَن هو اليهودي، وأهمية القدس التاريخية والجغرافية للمسلمين والمسيحيين، وعلاقتها بالقانون الدولي، وعلاقة يهود الخارج بالدولة، ودستور الدولة، وعسكرة المجتمع الإسرائيلي والهوس الوجودي، وهل هي دولة علمانية أو دينية أصولية، وسيطرة الدولة على أكثر من 90 في المئة من الأراضي، وأسئلة أخرى. وقد ساهم عدم تعامل القيادة الإسرائيلية الجدي مع الأسئلة الصعبة في إرباك الفلسطينيين، الذين ظنوا أن اعترافهم بإسرائيل وقبولهم فقط ب 22 في المئة من فلسطين التاريخية كفيل بإقناع إسرائيل بإنهاء النزاع. كما ساهم في إرباك العرب الذين ظنوا أن المبادرة السلمية التي تبنتها قمة بيروت العربية في 2002، والتي يمكن تلخيصها باستعداد الدول العربية للاعتراف بإسرائيل والتطبيع الكامل معها في حال انسحابها إلى حدود 1967 وإيجاد حل"عادل"لقضية اللاجئين، سيشجع القيادة الإسرائيلية على الانسحاب من الأراضي المحتلة وإنهاء الصراع. ولنفس السبب فإن المجتمع الدولي، حينما يتعلق الأمر بالنزاع العربي-الإسرائيلي، مصاب بالارتباك. فالقيادة الإسرائيلية ترفض التعامل مع القرارات الدولية والقانون الدولي دون تقديم أي بدائل تنسجم مع تراث المجتمع الدولي في حل النزاعات. فهي تتجاهل اليوم قرار التقسيم لسنة 1947، وهو القرار الدولي الذي اعترف بإنشاء إسرائيل على جزء من جغرافية فلسطين التاريخية في مقابل إنشاء دولة فلسطينية على الجزء الآخر. ولا يكف كثير من السياسيين الإسرائيليين، وإلى يومنا هذا، عن اتهام العرب والفلسطينيين برفضهم قرار التقسيم آنذاك وتحميلهم مسؤولية عدم اقتناص تلك الفرصة التاريخية. وعندما عرض العرب والفلسطينيون الاعتراف بإسرائيل تمتد حدودها إلى ما هو أكثر بكثير مما خصصه قرار التقسيم، تلكأت القيادة الإسرائيلية في اغتنام تلك الفرصة التاريخية واستمرت بتطبيق نظرية الأمر الواقع، والتي يمكن تلخيصها بضم أكبر مساحة من أراضي الضفة الغربيةوالقدس إلى إسرائيل بأقل عدد من السكان الفلسطينيين، مما سيجعل من إمكانية إنشاء دولة فلسطينية قابلة للحياة أمراً مستحيلاً. ولعل الجدار الذي بنته إسرائيل منذ سنوات قليلة وأسمته"السور الأمني"، بينما يسميه الفلسطينيون"جدار الفصل العنصري"، من الأمثلة الصارخة على تطبيق تلك النظرية. ومما يصعّب انغماس الإسرائيليين في التعامل مع الأسئلة الصعبة إهمال حكومتهم المستمر للرسائل والتوصيات الصادرة عن المنظمات الدولية والمحلية لحقوق الإنسان والمؤسسات الدولية المستقلة. ولعل أكبر دليل على ذلك الطريقة الفظة التي تعاملت بها الحكومة الإسرائيلية مع حكم محكمة العدل الدولية بشأن مسألة الجدار، والذي جاء فيه ان"إسرائيل ملزمة بإنهاء الانتهاكات الصارخة للقانون الدولي"وعليه فهي ملزمة بإنهاء أعمال بناء الجدار داخل الأراضي الفلسطينيةالمحتلة بما فيه في داخل القدسالشرقية ومحيطها، وعليها إزالة ما تم بناؤه هناك". وما يثير الدهشة أن الحكومة الإسرائيلية لم تكتف بتفادي الأسئلة الصعبة فقط، بل قامت بتعيين أفيغدور ليبرمان على رأس وزارة مستحدثة، هي وزارة الشؤون الاستراتيجية، ليناط به اقتراح حلول للأسئلة الاستراتيجية والصعبة. وهو يميني مهووس باقتراح حلول عنصرية تنم عن كره عميق لكل ما هو فلسطيني وعربي. فهو الذي اقترح، كما كشفت صحيفة"هآرتز"الإسرائيلية، إغراق آلاف المساجين السياسيين الفلسطينيين في البحر الميت وعرض توفير الحافلات التي ستنقلهم إلى هناك. إن تجنب العقلاء في إسرائيل والنخبة الإسرائيلية المثقفة ومراكز الأبحاث هناك الإجابة عن الأسئلة الصعبة فتح المجال لمتطرفين مثل لييرمان ليمثلوا الواجهة الاستراتيجية الإسرائيلية، وأضاع فرصاً مهمة لصناعة السلام، وأغلق المجال أمام ظهور قيادات تاريخية بعد اغتيال رابين على يد متطرف إسرائيلي، وحوّل ناشطاً نقابياً مخضرماً مثل عمير بيريتز إلى أضحوكة عسكرية، وأسقط وزراء قبل نهاية فترة حكمهم، وأعاد الاعتبار مرة أخرى للهوس الوجودي، وقسّم المجتمع الإسرائيلي إلى جزر اجتماعية غير منسجمة سياسياً، وأضعف من فرصة إسرائيل للعب أي دور في الأحداث السياسية الساخنة في الشرق الأوسط بحيث أصبحت عبئاً على الاستراتيجية الأميركية في المنطقة، وأضر باستقرار الخريطة الحزبية في إسرائيل لتصبح أشبه ببورصة الأوراق المالية، وتحولت النظرية الأمنية الإسرائيلية إلى مغامرات عسكرية غير محسوبة تأزّم الأوضاع ولا تقدم حلولاً. واليوم، هناك أربعة أسئلة ملحة على إسرائيل التعامل معها إذا كانت تريد تفادي مزيد من الارباك والدم، والسماح لفرص السلام بالمضي قدماً، وهي: حدود دولة إسرائيل، علاقة الدولة الإسرائيلية بمواطنيها الفلسطينيين، وعلاقة إسرائيل بجيرانها، خصوصاً الفلسطينيين، وعلاقتها بالأمن الإقليمي. فعندما اقترحت وزيرة التربية الإسرائيلية يولي تامير أن يظهر الخط الأخضر على الخرائط المعروضة في الكتب المدرسية، كان رد فعل رئيس الوزراء أولمرت غامضاً:"ليس من الخطاً تحديد الخط الأخضر على الخرائط، ولكن من الواجب التأكيد على موقف الحكومة والاجماع الشعبي على أن لا عودة إلى خطوط عام 67". فلا أحد يعرف اليوم عن أي حدود تتحدث القيادة الإسرائيلية. وبالنسبة الى علاقة إسرائيل بمواطنيها الفلسطينيين، فأغلبية الرأي العام الإسرائيلي وأجهزة الأمن ما زالت تنظر إليهم باعتبارهم تهديداً أمنياً، بينما تعاملهم الدولة كمواطنين من الدرجة الثانية. وما زالت نظرة الحكومة الإسرائيلية إلى جيرانها، خصوصاً الفلسطينيين، نظرة فوقية تميل إلى إبقاء أدوات السيطرة الإسرائيلية على مصيرهم ومقدراتهم قائمة. وساهم عدم حل الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني في توتير الأجواء في المنطقة وإضعاف المعتدلين وتعرض النظام الأمني في المنطقة إلى انتكاسات خطيرة ستكون عواقبها خطيرة للغاية على الجميع، بمن فيهم إسرائيل. ويجدد العرب اليوم التزامهم بمبادرة السلام العربية، وهناك محاولات فلسطينية ودولية وإقليمية لفتح آفاق للسلام من خلال هذه المبادرة. إلا أن كثيرين من المراقبين غير متفائلين لأن إسرائيل ما زالت تؤجل التعامل مع الأسئلة الصعبة. إن المجتمع الإسرائيلي ما زال غير جاهز للسلام بسبب قصر نظر قيادته ونخبه وغياب قيادة تاريخية مثل رابين.