ما تزال أزمة دارفور تعرف حركة مد وجزر، فحالات العنف والاقتتال ارتفعت بالمقارنة مع السنة الأخيرة. ووضعية المرحَلين تزداد سوءاً داخل وخارج المعسكرات، كما أن عددهم يتكاثر يوما بعد يوم. وقد استفحل الأمر أكثر بعد تراجع وسائل الإعلام الدولية عن الاهتمام بأزمة المهجرين، التي تعتبر أزمة انسانية بكل المقاييس، وانشغال الرأي العام الدولي أكثر بمحاكمة المتهمين بارتكاب جرائم جسيمة وضد الإنسانية. أضف إلى هذا أن الحكومة السودانية أضحت أكثر تجربة وحنكة في مراوغة المجتمع الدولي وتوظيف خطاب ديبلوماسي، بدعم عربي، من أجل الحفاظ على الوضع كما هو أو تغييره بما يخدم مصلحة الحزب الحاكم. من دون شك أن الموقف في السودان ككل، أكثر تعقيداً مما يتصور الكثيرون. فتوقيع اتفاق محدود بين بعض أطراف النزاع في دارفور والجنوب، من دون العمل على إشراك مكونات المجتمع السوداني السياسية لم يغير في الأوضاع شيئاً، بل يمكننا الجزم بأنه ساهم أكثر في تأزيم المواقف وتأجيج الاحتقان. فالحكومة السودانية والمجتمع الدولي يفضلان الترويج والعمل من خلال مفاوضات ثنائية بين الطرف الحاكم والجماعات المسلحة سواء في جنوب أو شرق، أو غرب البلاد. وعلى رغم ما حققه أو قد يحققه هذا التوجه في تلك الأقاليم، إلا أنه محدود النتائج ويهمش الكثير من مكونات المجتمع السياسي والمدني من المشاركة في إيجاد حل جذري لمشاكل تهم كل السودانيين، كما أنه يعطي انطباعاً بأن طاولة المفاوضات لا تتسع سوى لحاملي السلاح. إن وضع حلول جذرية ونهائية لتلك النزاعات التي طال امدها، والتي خلفت الملايين من المشردين، والآلاف من القتلى في الجنوب وفي دارفور وفي أماكن أخرى، يتطلب حواراً لا يتسع فقط لأطراف من دارفور، بل يشمل السودان كله، حوار يساعد على إحداث تقدم حقيقي في مد جسور الثقة وإعادة البناء والاصلاح. فالسودان كما عبر عن ذلك بتأثر عميق الوزير السوداني السابق فرانسيس دينغ"يعاني من موقف متناقض"، حيث لا تزال تبعات حرب طويلة ومكلفة في الجنوب، ومعضلة إنسانية لامتناهية ومتنامية في دارفور، فضلاً عن مشاكل أخرى في البلد. إن تاريخ المشكل السوداني هو تاريخ طويل من الإهمال والتهميش عمدت إليه الحكومات المتعاقبة للأقاليم السودانية المختلفة. فالصراعات السودانية لها جذور تاريخية عميقة، منها ما هو من مخلفات الاستعمار البريطاني - المصري، ومنها ما هو نتاج سياسات غير حكيمة في تناول الشأن السوداني - السوداني، لكن منها كذلك ما هو نتاج الطبيعة الإثنية والدينية المتعددة للبلاد والتي كانت دائماً ذات أبعاد متعددة، أحياناً قبلية، وأحياناً دينية مسلمين، مسيحيين، احيائيين بالاضافة إلى أبعاد إثنية أفارقة، عرب... إلخ. كما أن هناك أيضاً أبعاداً أخرى أسهمت في تغذية الصراع في أجزاء مختلفة من البلاد بما في ذلك ندرة المياه والموارد الطبيعية، والفقر، وافتقاد الديموقراطية، بالإضافة إلى تسع دول جوار لكل منها مشكلاتها وصراعاتها الخاصة. في الحقيقة أزمة السودان أزمة ديموقراطية و"أزمة حادة في الهوية". ففي السودان أن يصف شخص نفسه بالأخلاق العربية يعني أنه أعلى شأناً من السودانيين ذوي البشرة الأدكن. فالإرث الإستعماري الذي خلق تقسيمات عنصرية بين ما يعرف بالمسلم"العربي"في الشمال والمسيحي والإحيائي في الجنوب والمسلم"الإفريقي"في الغرب استمر مع الأسف بدرجات مختلفة مع الحكومات السودانية المختلفة، بالإضافة إلى استمرار التهميش والمعاناة لدى السودانيين في جنوب وغرب وشرق وشمال البلاد. وقد نتج عن ذلك نظام طائفي غير معلن مبني على أساس اللون والدين والعرق. إن معاهدة السلام الشاملة التي تم توقيعها بين الحزب الحاكم، المؤتمر الوطني، والجبهة الشعبية لتحرير السودان بدعم من الأممالمتحدة في كانون الاول ديسمبر 2004، مثلت نقلة كبيرة في الاحد والعشرين عاماً من الصراعات الدامية بين شمال وجنوب السودان. غير أن معاهدة السلام تلك، وهي على قدر كبير من التعقيد وفيها ما هو متناقض، تتضمن إلى حد بعيد مزيجاً من المواقف المختلفة. بحيث لا تزال الأطراف تتنازع حول قضايا ملحة كعائدات البترول المتدفق من الجنوب، وترسيم الحدود بين الشمال والجنوب، وتسليح الجيش الجنوبي من طرف دول من دون المرور عبر الخرطوم، الخ... بالإضافة إلى ذلك فإن التمويلات التى وعد بها المجتمع الدولي كجزء من معاهدة السلام والتي ستسمح بعمليات إعادة إعمار الجنوب الذي مزقته الحرب، والوعود التي أعطاها البعض لحكومة السودان لحثها على التوقيع، لا تزال حتى الآن عالقة أو أنها تقدم بوتيرة شديدة البطء، هذا كما أن هناك قانوناً أميركياً لا يسمح بتقديم تمويل مباشر للسودان، على رغم الحاجة الملحة لبدء عمليات إعادة الإعمار بالجنوب. الجنوبيون لم ينعموا حتى الآن بحصتهم في معاهدة السلام وهو ما يشكل مصدر قلق جدي لحكومة جنوب السودان. أضف إلى هذا استمرار أزمة دارفور والتي هي أزمة إنسانية بكل المقاييس، ذلك أن أكثر من مليوني دارفوري، بمن فيهم أطفال ونساء، يعيشون في أسوأ الظروف، حيث تنعدم التغذية الصحية اللازمة والطبابة والدراسة. غير أن الأزمة هي كذلك أزمة سياسية، وتتطلب حلولا سياسية. فقد أدى العنف والعنف المتبادل إلى استمرار الترحيل لمئات الآلاف من المواطنين السودانيين العزل إلى معسكرات تفتقر إلى أبسط شروط العيش الكريم، والمستفيد من هذه السياسة هو الحكومة والمتمردون. فالحكومة تريد أن تظهر للرأي العام الدولي أن الحركات المتمردة ترفض استئناف المفاوضات وأنها عملت ما في وسعها لاحتواء الأزمة. لذلك فهي لا تعمل لإيجاد حلول جدية لأزمة النازحين، كما أن المتمردين يعتبرون بقاء معسكرات النازحين رأسمالاً لا ينبغي التفريط به، فضلاً عن كونه ورقة ضغط في المفاوضات مع حكومة حزب المؤتمر الوطني الحاكم. إن حالات القتل والاغتصاب والاعتداءات المتكررة ما تزال مستمرة في دارفور بعد أربع سنوات من اندلاع الأزمة. فوضع النازحين بدارفور مزر ويتنافى مع كل القيم الإنسانية. فهؤلاء يواجهون يوميا هاجس الخوف من العودة إلى قبائل غير آمنة، كما يتخوفون من شح الموارد أو انعدامها، والفلاحة التي هي المصدر الوحيد للعيش متعذرة في ظروف غير آمنة. وفي حالة عودتهم قد تنقطع الإعانات الدولية، ولن يتوفر لمئات الآلاف من أهل دارفور ما يسدون به الرمق، وبالتالي فإن الأزمة ستزداد حدة، وقد تنتهي بكارثة إنسانية إذا استمر الحزب الحاكم وحركات التمرد في تعنتهم. والحالة هذه فإنه لإيجاد مخرج لأزمة دارفور، يتطلب الأمر حكومة مرنة ومستعدة تماماً للتفاوض مع حركات التمرد الأخرى والعمل بجد على سد الهوة الفاصلة، وهذا يتطلب من جهة الإقرار بمشروعية المطالب والعمل على تلبيتها وتوفير الحلول اللازمة، كما يتطلب من جهة الحركات المسلحة نوعا من البراغماتية وعدم التعصب. إن الحكومة لا تزال تراهن على عامل الزمن، واتقنت في السنين الأربع الأخيرة فن المراوغة السياسية، وهذا على المدى البعيد والمتوسط لن يجدي ولن يحل المشكلة ولكن سيساهم في تعميق الشرخ بين أهل السودان. ما دامت المأساة قائمة فاحتمال اندلاع الحرب ممكن. وقد أدرك حزب المؤتمر الوطني الحاكم أن الطريق إلى التنمية وإخماد فتيل الحرب، التي امتدت أكثر من عشرين عاما، أتت فيها على الحابل والنابل، يقتضي جرأة إيجاد حل لأزمته مع الجنوب، والقبول بالمطالب المشروعة لأهل الجنوب. وفعلا صفق العالم أجمع للنتائج التي أسفرت عنها اللقاءات بين جيش تحرير السودان والحزب الحاكم والتي انتهت بالتوقيع على اتفاقية السلام في نيروبي، عاصمة كينيا بتاريخ 9 كانون الأول 2005، ولو أنها ناقصة وغير منسجمة في بنودها. غير أنه، وللأسف الشديد، ما تزال هذه الروح غير متوفرة حتى الآن في المحادثات بين الطاقم الحكومي ومتمردي دارفور. إن السياسة هي فن الممكن واقتناص الفرص، وقد جاء الوقت للدخول في مفاوضات جادة بين الأطراف، من أجل سودان جديد لكل السودانيين، سودان تنعدم فيه النزعة القبلية، وتكون فيه العلاقة بين المواطن والدولة أساسا كافيا لتدبير الحقوق والحفاظ عليها. فالسودان في حاجة ماسة وأكثر من أي وقت مضى إلى حوار سوداني - سوداني يمكن البلد من الخروج من كل هذه الأخطار التي تتربص بوحدته. وبالفعل فالسودان دخل مرحلة حاسمة يجب التركيز فيها على بناء المؤسسات ونظام مواطنة يحتفظ كل سوداني فيه بجميع حقوقه، بغض النظر عن انتمائه الديني أو القبلي. إن النزعة القبلية ستؤدي، إذا استمرت، إلى توالد نزعات قبلية أخرى ومصالح ضيقة يضيع فيها حق المواطن والهوية السودانية. وليس أمام القوى السياسية السودانية وحركات التمرد بدارفور والحزب الحاكم سوى تبني الديموقراطية، أهدافا وممارسات، لإعادة الثقة داخل النسيج الاجتماعي، وبناء المواطنة على أساس التعددية وليس على الانتماء القبلي الضيق. إن السودان، الذي ينشد البقاء وتأمين استمرارية وحدته، مطالب أكثر من أي وقت على أن يعمل على نشر وترسيخ ثقافة الانفتاح والتعدد، و تجنب المخاطر الجيوسياسية التي تحدق به، عبر الاعتماد الصارم على مبادئ العدالة والسلام وتبني لغة الحوار والتسامح. إن ما يحتاج المجتمع الدولي أن يعيه، في الوقت الراهن، هو أن العمل ممكن من خلال تقوية الدور الذي يمكن أن يلعبه الاتحاد الافريقي وتعزيز قواته لحفظ السلام، عددياً ولوجيستياً حتى تصبح قادرة ولها صلاحيات تتعدى دور المراقبة إلى دور فرض مناطق آمنة خالية من السلاح حتى تتاح الفرصة لإعادة الثقة بين المهجرين والسلطات المحلية والوطنية، وبالتالي خلق إمكانية العودة. علينا أن نبحث عن حلول سريعة من الموجود والممكن بدل الاستمرار في الضغط لحمل السودان على قبول قوات دولية بدل عمليات مشتركة. كما يجب التزام حركات التمرد والحزب الحاكم باحترام المناطق الخالية من السلاح، وعدم تجنيد أو تعبئة النازحين، وهذا يلزم الدولة أيضا بوقف أي هجوم يمكن أن يؤدي إلى نزوح اشخاص جدد. لكن ذلك لا يعني أن يتحول دور الأممالمتحدة من وسيط إلى طرف في المواجهة، كما حصل في الصومال عام 1993، حين دخلت قوات حفظ السلام في مواجهة مع الجنرال محمد عيديد أفقدتها وضعية الحياد. ينبغي أن تتجنب قوات حفظ السلام الأممية في السودان حصول ذلك مهما كان الثمن، ومن جهة أخرى لا بد من إيجاد حل سياسي، بمشاركة وموافقة جميع الأطراف حتى يتحمل كل طرف مسؤوليته. أما فيما يخص المحاكمة الدولية، التي أقرها مجلس الأمن، فالحل هو محكمة دولية في السودان تضم قضاة سودانيين أكفاء وقضاة دوليين، والتجربة في سيراليون خير تجربة، على رغم أن الوضع هناك، على عكس السودان اليوم، لم يكن يسمح بهكذا محكمة نظراً لآثار الحرب التي دمرت تدميراً شاملاً البلد ومؤسساته. محكمة كهذه يمكن أن تسدي خدمة كبيرة للسودان حيث تؤهله لترسيخ دولة الحق والقانون. فالبلد على قاب قوسين أو أدنى من الدخول في مرحلة انتقالية، وينبغي تسهيل دعم أسس البناء الديموقراطي والعادل والتعددي الذي سيتيح مستقبلا توفير قضاء نزيه ومستقل، هو وحده الكفيل بالقيام بمتابعة آخرين ومحاكمة جميع من يثبت تورطهم في جرائم ضد الإنسانية. * مراقب حقوقي سابق في المفوضية السامية لحقوق الإنسان بدارفور.