ان تختزل خمسة عقود في 300 دقيقة، فتلك مهمة صعبة، لكنّ قناة "العربية" تمكنت من تحقيقها في البرنامج الوثائقي "زمن بورقيبة"، الذي تبث حلقاته الست حالياً، بعدما غاص محمد الهادي الحناشي، على مدى 18 شهراً، في المراجع والوثائق التاريخية، منقباً وباحثاً عن نُتف صغيرة من حياة الزعيم التونسي الحبيب بورقيبة... ويعرض الوثائقي شهادات شخصيات تونسية وعربية، ممن عاصروا مراحل مهمة من حياة رئيس تونس السابق، مثل وزير الخارجية السابق محمد المصمودي، وزميله الباجي قايد السبسي، والمدير السابق للحزب الدستوري الحاكم محمد الصياح، ومراسل صحيفة"لوموند"الفرنسي جان لاكوتير، والمؤرخ عبدالجليل التميمي والمؤرخ علي المحجوبي، ورئيس بلدية بنزرت الدكتور رشيد التراس، والباحث السينمائي عمار الخليفي، والسياسي الجزائري بوعلام بالسايح والمصري أحمد السعيد. ويترافق صوتهم مع صور وثائقية من مصادر تعود بعضها إلى نحو 80 سنة، تؤرخ لتلك المرحلة، بحياد حاول معد البرنامج التمسك به. ونالت الحلقات التي عرضت حتى الآن، اهتماماً واسعاً من التونسيين، الذين فاجأهم اهتمام قناة عربية مشارقية بحياة زعيم مغاربي، في ما يتجاهل تلفزيونهم الوطني حياة هذا الزعيم الذي ترك بصمات واضحة في حاضر ومستقبل هذا البلد، سواء اتفقوا معه أو اختلفوا. نضال تسلط الحلقة الأولى من البرنامج الضوء على حقبة الاستعمار الفرنسي لتونس، ومراحل الكفاح الوطني لطرد المستعمر، ودور بورقيبة في هذا النضال وخطبه ومواقفه، وصولاً إلى الاستقلال. وتعطي الحلقة حيزاً للحدث الأبرز الذي تلا الاستقلال:"إعلان قانون الأحوال الشخصية"، مسلطاً الضوء على الظروف التاريخية والمعطيات السياسية التي واكبت ذلك الحدث، وموجة الانتقادات والجدل الذي انطلق ولم يتوقف منذ صدوره العام 1956، كما يتناول ملابسات إعلان الجمهورية والتفاصيل، التي غيرت نظام الحكم في تونس من ملكي إلى جمهوري. وتغوص الحلقة الثانية في تفاصيل صراع بورقيبة وخصمه صالح بن يوسف، المدعوم من جمال عبدالناصر، واغتيال بن يوسف، والمحاولة الانقلابية الفاشلة التي تعرض لها بورقيبة بداية الستينات، وصولاً الى خلفيات صراعه والرئيس الفرنسي شارل ديغول. اما الحلقة الثالثة فركزت على فلسطين، ورحلة بورقيبة نحو المشرق العربي وعلاقته مع الرئيس عبدالناصر، وخلفية الصراع على الزعامة العربية بين الزعيمين، وخطاب بورقيبة في أريحا الذي أثار موجة من الغضب العربي ضده. وتعرض الحلقة علاقة بورقيبة بالقضية الفلسطينية وصولاً إلى استقباله القيادة الفلسطينية في تونس العام 1982، إثر حصار بيروت. ومن صراع على مستوى إقليمي، إلى آخر محلي في الحلقة الرابعة، ممثلاً بنزاع أركان الحكم في تونس والظروف الإقليمية التي ساهمت في توتير الأوضاع الداخلية في حقبة الستينات والسبعينات، التي مهدت لانتخاب بورقيبة رئيساً لتونس مدى الحياة... وصولاً إلى"زمن الفتن"، في الحلقة الخامسة التي تعرض الفتن الداخلية والتكالب على خلافة بورقيبة منذ تحوير الدستور التونسي وما شهدته البلاد من اضطرابات تشبه الحرب الأهلية... فيما خصصت الحلقة السادسة والأخيرة للإضاءة على تفاقم الأوضاع في تونس وبروز الإسلاميين كطرف بارز في المعادلة السياسية، حيث يتناول البرنامج نهاية زمن بورقيبة، عارضاً الأوضاع التي عاشتها تونس في الثمانينات، كأحداث"الخبز الدموية"التي راح ضحيتها عشرات التونسيين، والمواجهات مع التيار الإسلامي ممثلاً في حركة"النهضة الإسلامية"والصراع على خلافة بورقيبة في فترة الشيخوخة، وصولاً إلى الظروف التي مهدت لتحول السابع من تشرين الثاني نوفمبر 1986 الذي قاده الرئيس التونسي الحالي زين العابدين بن علي. كما تعرض الحلقة جوانب من حياة بورقيبة بعد الإطاحة به، وصولا إلى وفاته في 6 نيسان أبريل 2000. لا تقدم حلقات"زمن بورقيبة"الزعيم التونسي السابق كپ"عميل فرنسي"كما يراه معارضوه، ولا كپ"قائد وطني مخلص"كما يراه مريدوه، بل ب"حياد مهني"بحسب الزميل محمد الهادي الحناشي، الذي يؤكد لپ"الحياة"انه وزميله المخرج التونسي ماهر عبدالرحمن،"حرصاً على توثيق مرحلة من أكثر المراحل أهمية في تاريخ البلاد، دامت نحو خمسة عقود، وما زالت تلقي بظلال كبيرة على الوضع فيه، على رغم مرور أكثر من عقدين على عزل بورقيبة، وسبع سنوات على وفاته". ردود فعل متباينة ويكشف الإعلامي التونسي ان ردود الفعل على البرنامج"قد تغري بخوض تجربة أخرى في توثيق مسيرة شخصية عربية ثانية، أو مفاصل مهمة مر بها بلد عربي آخر". وقد تجاوزت ردود الفعل حول البرنامج، منذ بث حلقته الأولى التي تزامنت مع احتفالات تونس بعيد استقلالها، الساحات والمنتديات التونسية باللغتين العربية والفرنسية على شبكة الإنترنت إلى فضاء الجامعة التونسية وأعمدة الصحف اليومية، مثل"الصباح"التونسية، التي أفردت مساحات لأكاديميين ومثقفين تباينت مواقفهم من البرنامج، لتعكس حال التضارب حوله، بين مرحب بما قدمه من معلومات ووثائق تاريخية، وبين من يعتبره"تضخيماً لشخصية بورقيبة وإلغاءً لخصومه". وهو ما ينفيه الحناشي، معتبراً أن"قناة"العربية"من خلال إنتاجها لهذا العمل لم تطرح فكرة التوثيق لتاريخ تونس، لأن هذا الأمر من اختصاص الباحثين والمؤسسات"، وپ"أن قراءة البرنامج يجب ألا تتجاوز العمل الإعلامي الذي قدمته قناة موجهة لعموم العرب، وليس للتونسيين فقط". وأشار الحناشي إلى"التغاضي عن بعض التفاصيل الصغيرة، لسبب واحد هو كونها تبقى من اختصاص المهتمين فقط، ولا يمكن فهمها من قبل الجمهور العريض، الذي يحتاج إلى لغة بسيطة، وتسلسل في الأحداث تقتضيه الضرورة التقنية لمثل هذه الأعمال"، معتبراً أن"الجدل الحاصل في تونس وخارجها شهادة على نجاح العمل وتحقيقه للغايات التي أرادت القناة بلوغها، وهي الاقتراب أكثر من الجمهور المغاربي".