عاشت الجماعات والتنظيمات السياسية ذات الإسناد الإسلامي في العالم العربي حينا من الزمن تنتظر أن تنفتح أمامها النوافذ والأبواب على مصراعيها في سبيل أن تنفرد بسدة الحكم، أو بجزء منها، أو على الأقل تمارس عملها في مأمن من الملاحقات والمطاردات والتهميش المتعمد، مما طالها في العقود التي خلت. وظل أصحاب هذا اللون من التفكير والممارسة السياسية يعتقدون أنهم أحق بالقيادة من كل المنتمين إلى تيارات سياسية وفكرية ماج بها العالم العربي على مدار قرن كامل، تمكنت فيه من أن تسيطر على مقاليد الأمور، سواء بتولي الحكم أو بامتلاك نفوذ اجتماعي كاسح. لكن هذه التيارات لم تلبث أن فترت همتها وضعفت شوكتها وران عليها الجمود، وأفلست في أن تقدم مشروعات نهضوية قادرة على أن تقود العرب إلى نجاح متصل، بعد أن وقع أغلبها في فخ الأيديولوجيات المنفصلة عن الواقع، أو صار معلقا بإرادة حكام مستبدين، وجماعات ونخب فاسدة ومتسلطة، وحلقات ضيقة من جماهير منتفعة، وليست مقتنعة. وفي حديثهم عن دورهم القيادي الذي حان وقته يقصد الإسلاميون أن دور الليبراليين العرب تراجع بعد أن نالت الدول العربية استقلالها. ففي أيام المستعمر كان أغلب النخب العربية التي تقود الكفاح ضده تنتمي إلى الليبرالية في قيمها العامة، لكنها فقدت موقعها الأمامي، بعد الاستقلال، وبروز التيار القومي، الذي غلبت عليه الأيديولوجيات ذات الطابع اليساري. ويعجز الليبراليون العرب في الوقت الراهن عن استعادة مكانتهم المفقودة ومجدهم الضائع، بل إن فريقا منهم يرميه كثيرون بالخيانة، وممارسة دور"الطابور الخامس"للمشروع الأميركي في المنطقة، والذي يسعى إلى النيل من العروبة، مفهوما وتاريخا ونظاما إقليميا، لحساب ما يسمى"الشرق أوسطية". ومن ثم فإن مصطلح"الليبراليون الجدد"بات سيء السمعة، وبات أصحابه مطالبين ببذل جهد فائق في سبيل الدفاع عن سمعتهم ومسلكهم وإخلاصهم لبلادهم، قبل أن يفكروا في تعبئة الناس حول أفكارهم وتصوراتهم، أو يسعوا إلى تجنيد أعضاء جدد في تنظيماتهم الهشة. وفي الوقت ذاته فإن الليبراليين العرب"التقليديين"يضعفون مع مشرق كل يوم جديد، بفقد أرضيتهم الاجتماعية، وانطوائهم أكثر في أبراجهم العاجية، والاستمرار في طرح خطاب نخبوي، مستغلق على أفهام كثير من العوام، وغير قادر على منافسة المنتج المعرفي والممارسة الحركية لأتباع التيارين الإسلامي والقومي معا. كما يقصد الإسلاميون بحديثهم عن أحقيتهم بتولي دفة الأمور أن التيار القومي فشل، هو الآخر، في أن يحافظ على المكتسبات المهمة التي حازها قبيل رحيل الاستعمار وبعيد التحرر منه، ولم تنجح الأيديولوجيات التي تبناها وفي مقدمها"الناصرية"و"البعثية"في أن تنهض بالواقع العربي. فالأولى ترنحت بعد هزيمة 5 حزيران يونيو 1967 ثم قضي عليها بعد وفاة الرئيس جمال عبد الناصر. أما الثانية فتعرضت لهزة عنيفة بسقوط نظام الرئيس صدام حسين على أيدي الأميركيين في التاسع من نيسان إبريل 2003، والضغوط التي تتعرض لها سورية في الوقت الراهن، على خلفية اغتيال رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري. وفي حقيقة الأمر فإن التطورات السياسية التي جرت في الساحة العربية مطلع القرن الراهن تقول بجلاء إن أيام"الإسلاميين"ربما تكون أتت، بعد أن ظلوا يلهثون وراء ميلاد لحظة التمكن طيلة سبعة عقود من القرن العشرين من دون جدوى. فالمد القومي بميوله اليسارية كان على أشده عقب فترة التحرر من الاستعمار، وهاهو يتراجع. والتيار الليبرالي الذي قاد حركة الكفاح ضد الاحتلال في أكثر من قطر عربي، يعيش حالة من العزلة النسبية، وعلى التوازي تراجع تأثر النخب العربية بالشيوعية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. لقد بدأ نجم"الإسلاميين"العرب يلمع، وأخذ أصحابه يعدون العدة لولاية الأمر في أكثر من بلد عربي، آخرها مصر، التي باتت جماعة"الإخوان المسلمين"المحظورة قانونا، هي قوة المعارضة الرئيسة فيها. وركبت الثقة المبالغ فيها كثيرا من"الإسلاميين"فراحوا يتيهون على الناس، معتبرين أن دورة التاريخ انتهت إليهم، وأن المستقبل سيكون لهم إلى الأبد، بعد أن جربت الجماهير العريضة غيرهم وخرجت خالية الوفاض، أو حصدت قليلا لا يسد كل الحاجات، ولا يلبي كل المطالب، ولا يحقق كل الأمنيات العريضة، التي تاقت إليها الشعوب العربية عقب استقلالها. ويعتمد"الإسلاميون"في تعزيز خطهم البياني المتصاعد عربيا على أربعة أمور يمكن ذكرها على النحو التالي: 1"شرعية المقاومة"، بمعنى الاتكاء على أن عناصر إسلامية، تنتمي إلى جماعات وتنظيمات عدة، هي التي ترفع لواء المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين وجنوب لبنان والجولان، وضد الاحتلال الأميركي للعراق. بل إن هذه العناصر تمكنت عبر"تنظيم القاعدة"من نقل المعركة إلى أرض"العدو"وإجباره على الدفاع بعد أن استمرأ الهجوم على العرب والمسلمين، وذلك من خلال الأعمال الإرهابية التي ينفذها التنظيم في أوروبا والولايات المتحدة، والتي ترى فصائل إسلامية عدة أنها تشكل خطوة واثقة على طريق تحرير أرض العرب والمسلمين من الاحتلال، وإعادة الهيبة إلى المنطقة، وإفشال أي مشروع لتفتيتها أو هضمها. 2 حيازة جماعات إسلامية"معتدلة"ثقة جماهير غفيرة أولتها لمرشحي التيار الإسلامي في انتخابات تشريعية ومحلية جرت في أكثر من بلد عربي خلال السنوات الأخيرة، ومنها الكويت والأردن والمغرب والبحرين والمملكة العربية السعودية ومصر، مع تقدم"الإسلاميين"في الخريطة السياسية لبقية الدول، إما عبر القنوات الشرعية، أو من خلال العمل السري، وانتهاز فرصة تاريخية للقفز إلى السلطة، مثل ما يحدث بالنسبة لسورية الآن، اذ ينظر إلى جماعة"الإخوان المسلمين"على أنها أقوى طرف معارض للنظام، وبالتالي فهي المرشح لوراثته حال سقوطه. 3 تقديم"الإسلاميين"أنفسهم باعتبارهم ضحايا، أو جماعات مضطهدة، يمارس ضدها تمييز سياسي واجتماعي بل وديني في بعض الأحيان، وأنهم بذلك يكونون التيار الذي دفع ثمن الكفاح ضد نظم حكم تتراوح بين الطغمائية والشمولية، ومن ثم فهم أولى بوراثة هذه النظم من غيرهم. ونجح بعض فصائل الإسلاميين في السنوات الأخيرة في إحتلال موقع متقدم في التقارير الدولية التي ترصد"الاضطهاد"و"التمييز"الديني في العالم العربي. 4 إلحاح الإسلاميين على حقهم في نيل فرصتهم، كما نالتها التيارات السياسية والفكرية الأخرى، وهذا الإلحاح واضح عيانا بيانا في كتاباتهم عن أنفسهم وعن الآخر، وفي شعاراتهم السياسية وأهمها"الإسلام هو الحل"، وفي عملية التلقين المستمرة التي يقوم بها قيادات الحركة الإسلامية ورموزها لأتباعها. ومن يطالع كتابات سيد قطب ومحمد قطب وأنور الجندي وغيرهم يلمس هذا التصور حاضرا بشدة، ويجد أنه وصل في أذهان"الإسلاميين"وأفئدتهم إلى درجة العقيدة السياسية، بل الدينية في بعض الأحوال والمواضع. ورغم أن هذه العناصر الأربعة لا تخلو من مصداقية نسبية، إذا قيست على الواقع المعيش، فإنها تتجاهل أمورا عدة، أو تقفز عليها بشكل متعمد، وبطريقة يراد منها أن يكون"الإسلاميون"في الواجهة، بغض النظر عن مدى ملاءمة تفكيرهم السياسي للواقع، ومدى قدرته على أن يقدم بديلا حقيقيا لما هو موجود. ومن بين هذه الأمور: أ لا تعتمد حركة المقاومة في العالم العربي على الإسلاميين فقط. ففي فلسطين لا يمكن أن نختزل الكفاح ضد الاحتلال في سلوك حركة المقاومة الإسلامية"حماس"والجهاد الإسلامي، ونهيل التراب على تاريخ من النضال تحت راية فتح وفصائل يسارية لا تزال تقاوم حتى هذه اللحظة. وفي العراق تشير الإحصاءات إلى أن المقاتلين المنضوين تحت لواء ما يسمى بتنظيم القاعدة في بلاد الرافدين لا يشكلون سوى نحو ثلاثة في المئة في حركة المقاومة المسلحة، ونسبة مقاربة لهذا تنتمي إلى تنظيمات"إسلامية"عراقية، والأغلبية تنتمي إلى حزب البعث، وهو قومي عربي. كما أن جزءا من أداء القاعدة في العراق ليس موجها ضد الاحتلال إنما ضد العراقيين أنفسهم، ممن يخالفون هذا التنظيم في أفكاره وتوجهاته ومذهبه الديني. وفي لبنان لا تقتصر المقاومة على"حزب الله"وإن كان هو الأبرز في السنوات الأخيرة. فهذا الحزب مدعوم من نظامي حكم علمانيين، يعض الأول بالنواجذ على مقاومة إسرائيل، وهو النظام السوري، ويمنح الثاني"حزب الله"شرعية سياسية ويسمح له بحرية الحركة، ويمد له يد العون ما أمكنه، وهو النظام اللبناني. ب وجود ضحايا آخرين، يساريين وليبراليين، للأنظمة الحاكمة في العالم العربي، يدفعون أيضا ثمنا لنضالهم من أجل حياة سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية أفضل، وهذا معناه أن التيارات الأخرى لم تستسلم للوضع السائد تماما، وتترك الراية في يد"الإسلاميين"فقط، بعد أن اشتد ساعدهم، وباتوا ظاهرين على الجميع. فحركة النضال من أجل الديموقراطية، والمساعي الرامية إلى تقوية شوكة المجتمع المدني، يقع الجزء الأكبر منها على عاتق"الليبراليين"و"القوميين"، وبعض فصائل اليسار الجديد. وهؤلاء يتعرضون لألوان عدة من التقييد والتضييق السياسي والاقتصادي. ج قصور نظرة بعض الإسلاميين إلى الديموقراطية، وإجراءاتها أو آلياتها، ومنها الانتخاب. فالامتثال للنهج الديموقراطي والرضاء به وسيلة للحكم، يجعل من اعتقاد هؤلاء بأن التجريب السياسي انتهى إليهم وأنهم بمنزلة"نتيجة"لكل المقدمات التي توالت في تاريخ العرب الحديث والمعاصر، هو اعتقاد خاطئ، يفتئت على متطلبات الديموقراطية نفسها، ولا يجعل الناس مطمئنين كثيرا إلى أن التنظيمات والجماعات الإسلامية المسيّسة آمنت بالتعددية السياسية وتداول السلطة، أو آمنت بإقامة"الشرعية"على اختيار الجماعة، خصوصاً في ظل عدم إيمان فصيل فاعل من الحركة الإسلامية بعملية الانتخابات، الأمر الذي بينته انتقادات الرجل الثاني في"القاعدة"أيمن الظواهري لمشاركة"الإخوان المسلمين"في مصر في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وتظهره بجلاء بعض أدبيات التيارات السلفية والجهادية المتواجدة تحت رايات ومسميات عدة في العالم العربي من شرقه إلى غربه. إن ارتفاع صوت الإسلاميين على ما عداهم، وامتلاكهم قدرة على الحشد والتعبئة، واكتسابهم رصيدا جماهيريا عريضا، هي أمور لا يمكن نكرانها. كما أن رغبة"الإسلاميين"في العمل بين الناس، بالحصول على الشرعية السياسية والمشروعية القانونية، هي حق لهم كجماعات وطنية، وتيار سياسي فرض نفسه، وتميل الكفة لصالحه في المستقبل، إن استمرت التيارات السياسية والفكرية الأخرى على حالها. لكن حتى تضيف الحركة الإسلامية إلى رصيد الأمة، وتنجيها من الوقوع في كارثة جديدة، فلا بد من تطوير فكرها السياسي، بترشيد جموحها إلى نيل السلطان بأي طريقة، وترسيخ إيمانها بحق التيارات السياسية الأخرى في التواجد والاستمرار والعمل، وبناء قدرة على التفاعل الخلاق مع العالم الخارجي، وقبل كل ذلك تقديم برامج واقعية ومدروسة للنهوض بالواقع العربي المتردي، وآليات تضمن أن حلول الإسلاميين محل الآخرين في تولي زمام الحكم في بعض البلدان العربية، ليس تبديلا للوجوه، ولا وضع لافتة جديدة على"منشأة"قديمة، أتى عليها الظلم السياسي والاجتماعي، فأصبحت جدارا يريد أن ينقض. * مدير مركز أبحاث ودراسات الشرق الأوسط القاهرة.