أصبح واضحاً أن تغييراً طرأ على الفكر السياسي الغربي تجاه التيارات الإسلامية في المنطقة. فالولاياتالمتحدة أرسلت في الشهور الأخيرة إشارات مختلفة تشير إلى إمكان التعامل مع التيار الإسلامي المعتدل، بعدما فشلت في تحقيق إنجازات ملموسة مع الأنظمة القائمة. ولعلنا نتذكر أن وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد ذكر مرة أن واشنطن لا تمانع في قيام نظام حكم إسلامي في العراق شرط أن يكون مختلفاً عن النسق الإيراني! ويبدو أن شيئاً من ذلك يمكن أن يتحقق في بغداد تحت إشراف أميركي ومباركة من إدارة جورج دبليو بوش. كما أن كل الوفود التي جاءت إلى المنطقة تحت مسمى لجان تقصي الحقائق في موضوع الحريات في دول الشرق الأوسط ركزت في لقاءاتها على قضية التمثيل السياسي للتيار الإسلامي، وانتقدت الحظر المفروض على جماعة"الإخوان المسلمين"في عدد من العواصم العربية. وتعطي تصريحات وزيرة الخارجية الأميركية الحالية كوندوليزا رايس انطباعاً يؤكد أحياناً ما ذهبنا إليه من أن الولاياتالمتحدة لا تمانع في التعامل مع القوى السياسية المختلفة في الشرق الأوسط - بغير استثناء - إذا كان ذلك طريقاً للإصلاح أو سبيلاً للحد من موجات الإرهاب. أما دول الاتحاد الأوروبي فقد عبرت فرادى أو في بيان جماعي عن قبولها التعامل مع التنظيمات الإسلامية القائمة في الشرق الأوسط على نحو يفتح الباب أمام حركة"حماس"الفلسطينية، وهي ابنة شرعية لتنظيم"الإخوان المسلمين"، لكي تكون قوة سياسية مؤثرة في الساحة. أي أننا أصبحنا، وللمرة الأولى، أمام موقف جديد يرحب بالتنظيمات الدينية والتيارات الإسلامية شرط نبذها للعنف وجنوحها للاعتدال واستعدادها لقبول الآخر. هذه مقدمة أردنا منها أن نشير إلى تأثير ذلك على مستقبل القضية الفلسطينية على اعتبار أن شريحة كبيرة من المقاومة الوطنية تتحرك تحت مظلة إسلامية رحبت بها إسرائيل في البداية عندما كانت تتحدث كثيراً عن القيادة البديلة، اذ وجدت في حركة"حماس"ما أوحى لها بذلك، إلى أن توالت ضربات هذه الحركة، في مقاومة مشروعة ضد الاحتلال الإسرائيلي. عندئذ بدأت إسرائيل تعيد ترتيب أوراقها وتركز على البنية الأساسية للمقاومة الفلسطينية مستهدفة القيادات التاريخية للحركة بعمليات اغتيال متعمدة مع تشويه دولي لصورة"حماس"ودمغها بالإرهاب. ولم يؤثر فقدان الحركة لشخصيات كبيرة مثل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي وغيرهما من قوافل الشهداء في مضي"حماس"في مسيرة النضال، رغم الخسائر التي تكبدتها في الفترة الأخيرة والحملات التي شنتها عليها إسرائيل دولياً وإقليمياً ومحلياً. وبرحيل ياسر عرفات، وباعتباره القيادة التاريخية للشعب الفلسطينية، برز بعده الاتجاه المعتدل في حركة"فتح". وتولى"أبو مازن"قيادته في ظروف شاع فيها نوع من الأمل الذي قد يكون كاذباً والتفاؤل الحذر الذي لا يدوم طويلاً. ومع ذلك فإن الشواهد الجديدة لا تزال توحي أن الانتخابات الفلسطينية المقبلة قد تعطي لحركة"حماس"ميزات جديدة تدفع بها إلى الأمام، بل وربما إلى مائدة المفاوضات ذاتها. وهنا يمكن رصد الملاحظات الآتية: أولاً: بدأت إسرائيل تشحن حرباً صامتة على القيادة الفلسطينية الرسمية وتقلل من فعالية"أبو مازن"ورفاقه مع ادعاء مستمر أنه لا يوجد شريك فلسطيني في السلام وهو الأسلوب نفسه الذي مارسته مع عرفات في سنواته الأخيرة. فإسرائيل تحتاج من وجهة نظرها إلى قيادة فلسطينية تحرس أمن إسرائيل وتنسى مطالبها الأصلية في الأرض المحتلة والكيان الوطني المستقل. ثانياً: يرى"الليكوديون"في إسرائيل أن"حماس"وليست"فتح"أو سلطة الحكم الذاتي هي التنظيم الند للحكومة الإسرائيلية. وأن التفاهم معها قد يكون أجدى من التفاهم مع جماعات أو شخصيات معتدلة. فالسلام النهائي بالمفهوم الإسرائيلي قد يتحقق بالحوار مع أكثر الجماعات تشدداً لان الأخيرة ستكون قادرة على الإمساك بمقاليد الأمور وضبط الأمن وفقاً للفهم الإسرائيلي المغلوط دائماً خصوصاً في مسألة تسبيق الأمن على السلام!. ثالثاً: إن حركة"حماس"على الجانب الآخر بدأت ترتب أوراقها وتراجع مواقفها تمهيداً للعب دور سياسي في ما بعد الانتخابات المقبلة، وهو أمر متوقع بل ومألوف في المنطقة. واتخذت"حماس"أسلوباً لا أستطيع أن أصفه بالتهدئة، ولكن درجة العنف المتبادل أصبحت اقل تأثيراً في الأسابيع الأخيرة، ما يمكن تفسيره بوجود حوار داخلي في حركة"حماس"يطالب بالإفادة من الظروف الدولية الحالية مع الشعور بانكماش الدور العربي عموماً. رابعاً: إن الأجواء مواتية للتعامل مع التيارات المختلفة من جانب القوى الكبرى، فعدد من العواصم العربية يعيش حال فوران سياسي غير مسبوق. وهناك إحساس عام بالترقب مع احتمال ظهور حلول غير تقليدية للمشكلات المزمنة. ويجب أن أسجل هنا في صراحة أن نبرة التيارات الإسلامية أصبحت أعلى من قبل وأكثر جرأة رغم انحسار شعبيتها في بعض القطاعات، ولكن أصبح لديها إحساس جديد بوجود طرف قوي يحمي دورها تحت دعاوى الإصلاح ومنطق التغيير، فضلاً عن شعور عام بأن سطوة الأنظمة الحاكمة لم تعد بالقوة نفسها التي كانت عليها قبل سنوات، كما أن المنطق الغربي في التفكير يميل بطبيعته إلى الواقعية والتعامل مع من يظنون أنهم أكثر تشدداً وأشد تأثيراً. خامساً: إن القضية الفلسطينية دخلت مرحلة تحاول فيها إسرائيل تصفيتها وقصر مفهوم الدولة المستقلة على قطاع غزة وأجزاء صغيرة متناثرة من الضفة الغربية، بحيث تصبح فلسطين المستقلة دويلة صغيرة بعد تفكيك عناصر القضية وتجزئة مراحلها. وعلى رغم إيماننا بوحدة الصف الفلسطيني وأنه لا تفريط في الثوابت الوطنية، فإن خلق صراع سياسي داخل البيت الفلسطيني أمر يمكن استثماره إسرائيلياً بصورة كاملة، فالدولة العبرية برعت تاريخياً في شق الصف والتفرقة بين أبناء الوطن الواحد. هذه ملاحظات أردنا أن نقول بها إن دوراً متزايداً لحركة"حماس"سيكون مشهوداً في الفترة المقبلة، بل قد تكون هي الطرف الفاعل في المفاوضات يوماً ما. ولعلي أذكر الجميع بأن حزب"نكومو"في زيمبابوي كان في مقدمة النضال ضد الوجود البريطاني، لكن حزب موغابي هو الذي حاز السلطة. ولماذا نذهب بعيداً، فلقد كان في جنوب اليمن حركتان للتحرير إحداهما قومية تتصدر النضال بقيادة عبد القوي مكاوي وزملائه والثانية شعبية بقيادة قحطان الشعبي ورفاقه. ولكن الذي حدث هو أن الحركة الشعبية قفزت إلى السلطة غداة الاستقلال في أواخر العام 1967. فالسنوات الأخيرة في النضال الوطني لحركات التحرير تحمل مفاجآت قد لا تكون في الحسبان، والعبرة دائما بالخاتمة بعد الصراعات الطويلة والكفاح المستمر. وإسرائيل ليست دولة عادية بل هي كيان استيطاني من نوع خاص يخطط لأكثر من مئة عام ويمضي في طريقة من دون أن يتأثر بالمتغيرات حوله، فالطريق مرسومة ولكل قيادة دورها وهي لا تملك، مهما كانت قيمتها، احتكار السلطة أو الاستئثار بالقرار، فالمجد الشخصي لا مكان له لدى القيادات الإسرائيلية إذ أن عملية توزيع الأدوار ظاهرة تاريخية برعوا فيها وحققوا معها مكاسب كبيرة. لذلك فإن الساحة الفلسطينية مدعوة أكثر من أي وقت مضى إلى التماسك والتضامن ووأد الفتن، واليقظة أمام محاولات شق الصف أو إثارة النعرات مهما كان مصدرها، فإذا كانت القضية الفلسطينية هي القضية العربية الإسلامية الأولى، فإن تحرك الفصائل الفلسطينية نحو توحيد الكلمة والتضامن من أجل الغاية المشتركة هو مطلب قومي، خصوصاً أن حركة"حماس"قبلت دخول الانتخابات المقبلة والشراكة في الحكومة الفلسطينية، بحيث تصبح طرفاً مباشراً في إقرار التسوية ومراحل المفاوضات التي تسبقها. ولا شك أن حكمة"أبو مازن"ستكون دعماً لوحدة الصف والوقاية من الصراعات والفتن، كذلك فإن قيادات"حماس"وفي مقدمها خالد مشعل لن تفرط في حق فلسطيني أو تتهاون مع أية مقدسات إسلامية أو مسيحية. وأنا ممن يؤمنون بأن الدولة الفلسطينية المقبلة ستتسع لكل الأحزاب السياسية والتيارات الوطنية والمطلوب هو التكاتف دائماً والبعد عن الصراعات أبداً. * كاتب قومي، عضو البرلمان المصري.