كان واضحاً أن الفوز الذي حظيت به حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في الانتخابات التشريعية العام الماضي يعود لأسباب مختلفة، تبدأ بالعامل السياسي الوطني، ولا تنتهي بالعامل الإداري ورغبة الفلسطينيين بوقف عجلة الفساد المسرعة. وقد تبدى ذلك بصورة واضحة، حين غدت قضايا الفساد مادة رئيسة في الدعاية الانتخابية للمرشحين، حيث وضعت جميع القوائم محاربة الفساد على رأس جدول أعمالها الانتخابي. إلا أن حركة"حماس"كانت أكثر"أريحية"في الحديث عن قضايا الفساد، بعكس حركة"فتح"الحزب الرئيس الذي قاد السلطة خلال أكثر من عشر سنوات، فضلاً عن ان الشارع الفلسطيني جرب"فتح"في المؤسسات الحكومية، ولم يجرب"حماس"، وبالتالي تفوقت الأخيرة في"حجتها"في شأن قضايا الفساد. وبالفعل أثبت يوم الانتخابات أن عدداً كبيراً من المرشحين الذين التصقت بهم قضايا فساد من قريب أو بعيد، سقطوا سقوطاً مدوياً في صندوق الاقتراع. لكن كيف تعامل النواب الفائزون مع قضايا الفساد التي أعلنوا مراراً وتكراراً أنهم في صدد اجتثاثها، ومحاسبة من تثبت عليه قضايا التلاعب بالمال العام، والكشف عن حوادث الاختلاسات والرشاوى، لا سيما أن"حماس"حظيت بغالبية كبيرة في المجلس التشريعي، وأصبح لها القول الفصل في اتخاذ القرارات وسن القوانين الخاصة بمحاربة هذه الظاهرة. إن عاماً كاملاً من عمل المجلس التشريعي، يبين أن هناك قصوراً واضحاً في أدائه الرقابي، استناداً الى الوقائع الآتية: أولاً: ليس من الإنصاف ان نتجاهل العراقيل والعقبات"الموضوعية"التي وضعت في طريق المجلس التشريعي وهو متجه لتفعيل أدواته الرقابية، ومن أهمها: 1- الخطوات الاستباقية التي أقدمت عليها حركة"فتح"بعيد إعلان نتائج الانتخابات، حيث قلصت الكثير من الصلاحيات الدستورية الخاصة بالمؤسسة التشريعية وقامت بپ"ترحيلها"الى مؤسسة الرئاسة، كما سنت عدداً من القوانين، وأصدرت رزمة من القرارات لصد أي تقدم حمساوي في اتجاه محاربة الفساد وكشف ملفاته. 2- التأخير المتعمد والغياب المتكرر لنواب فتحاويين في حضور اجتماعات لجنة الرقابة في المجلس التشريعي المكلفة ملاحقة قضايا الفساد، وبالتالي عدم تحقق النصاب القانوني في هذه الاجتماعات، بمعنى عدم قانونية أي قرار أو ملاحظة ترفعها اللجنة الى بقية النواب. ثانياً: من الواجب التذكير بأن هناك إشكالية ذاتية تتعلق بالنواب الجدد، لا سيما نواب"حماس"، وهم المستجدون على التجربة البرلمانية، فقد أتوا في وضع لا يحسدون عليه، حيث عُلقت عليهم آمال كبيرة، وملفات ثقيلة بانتظار فتحها وملاحقتها، ورؤوس"ثقيلة العيار"تنتظر التحقيق معها واستجوابها، وبالتالي جاءت قلة الخبرة وخلو السيرة الذاتية لمعظم نواب"حماس"من أي تجربة برلمانية أو دستورية سابقة لتضع تبعات مكلفة على تجربتهم الوليدة، لا سيما أن الدعاية الانتخابية التي سبقت يوم الاقتراع أوصلت الفلسطينيين الى قناعة"خاطئة"مفادها أن العهد المقبل هو عهد تطبيق شعار: من أين لك هذا؟ ثالثاً: لا شك في أن الوقائع الميدانية والمعطيات السياسية في الواقع الفلسطيني التي نجمت عن النتائج المفاجئة للانتخابات التشريعية، ورفضها من جانب قطاعات كبيرة من حركة"فتح"، والعالم العربي، والمجتمع الدولي، عملت على ما يمكن أن يسمى"تسييس"العمل البرلماني، الأمر الذي حرفه عن مساره بالتأكيد، وجعل أي متابع لجلسات البرلمان الفلسطيني يحسب نفسه يشاهد ندوة سياسية بحتة، بحيث غلبت على الأجندة الدورية لجلساته الملفات السياسية التي تعالج من الحكومة والرئاسة والقوى السياسية. في هذا السياق من الضرورة نقد الدور الغائب للمجلس التشريعي في ظل ما يشاع عن قضايا فساد هنا وهناك، وتلاعب بالمال العام وإهداره، من خلال طرح الملاحظات الآتية: 1- يتحمل النواب مسؤولية كبيرة في عدم فتحهم ملفات فساد ضخمة يتحدث عنها الفلسطينيون، على أنها بديهية قائمة. 2- كان يجب على النواب أن يدركوا أن الفصل بين انتمائهم التنظيمي والانتماء الوطني أمر مهم لإتاحة الفرصة لممارسة دورهم الرقابي. لكن لا تزال أمام المجلس التشريعي ثلاث سنوات أخرى في إمكانه خلالها أن يتجاوز الهفوات التي وقع فيها خلال العام الأول، من خلال تطبيقه برنامجاً إصلاحياً رقابياً شفافاً، لا سيما في ظل حكومة الوحدة الوطنية، حيث تستريح"حماس"نسبياً من حملة الضغوط التي تمارس عليها، وبالتالي تتفرغ ولو - جزئياً - لمعالجة ملفات الفساد العالقة، التي تنتظر نواباً أقسموا بأن يحموا مصالح الوطن والشعب، وعلى رأسها الحفاظ على المال العام، وتأمين حياة كريمة له. لكنّ هناك شكوكاً كبيرة تحيط بإمكان هذه الاستفاقة، ليس بالضرورة لإشكال متأصل في نواب"حماس"، أو رغبة بالتغطية على فاسدين بعينهم، بل بسبب تعقيدات سياسية تجعل من الصعوبة بمكان السير في برنامج مكافحة الفساد طويلاً إلى الأمام. فالمصالحة بين"فتح"وپ"حماس"التي عبر عنها"اتفاق مكة"، ستجعل من الصعوبة على أي منهما فتح ملفات للطرف الآخر، تحت حجة"التوافق الوطني"، وهو ذاته منطق الترضيات، وعفا الله عما سلف، وكأن هذا التوافق يمنح غطاء وشرعية لفاسدين يعلم القاصي والداني أنهم فاسدون بامتياز. وهنا يجب أن يبرز الدور الرقابي للبرلمان من خلال ما ورد سابقاً عن فصل دقيق بين الانتماء التنظيمي والوطني. إن منطق الابتزاز الذي سيمارسه المجتمع الدولي مرة أخرى على حكومة الوحدة سيجعل النظام السياسي الفلسطيني برمته، حكومة ورئاسة وبرلماناً وفصائل، مصطفين خلف بعضهم بعضاً لمحاولة كسر هذا الحصار، وبالتالي سيكون مرفوضاً من مكونات أساسية في ذلك النظام تفعيل الأداء الرقابي للبرلمان، وكأن رفع الحصار يتعارض مع مكافحة الفساد، علماً أن كليهما مكمل للآخر، وليس العكس. ومع ذلك، فلا بد من يقظة برلمانية فلسطينية تعود لتمسك بزمام المبادرة، وتفعّل أداءها الرقابي. أما إذا بقي الوضع على حاله، فإن تقويماً متزناً وموضوعياً لتجربة"حماس"البرلمانية سيجد طريقه إلى صندوق الاقتراع بعد ثلاث سنوات بنتائج لن تسر بالتأكيد أصحاب برنامج التغيير والإصلاح. عدنان أبو عامر - باحث فلسطيني - بريد الكتروني