جارنا الحلاق بدأ منذ فترة يهتم بالتاريخ. هو الآن عجوز تقريباً، وكان التاريخ منذ ترك المدرسة الثانوية - والمدرسة ككل بالتالي - بعيداً تماماً من اهتماماته، حتى راح يكتشفه من طريق المسلسلات السورية أولاً، ثم غير السورية بعد ذلك. منذ ذلك الحين أحب التاريخ كثيراً، لكن حبه انحصر في التاريخ العربي المجيد، ليظل تاريخ العالم خارج حساباته. ولكن منذ فترة حلق لديه استاذ جامعي قال في ما قال انه يعتبر التاريخ استاذه الاكبر، واننا كي نعرف ماذا يحصل في عالم اليوم، علينا ان نعود الى الثلث الاول من القرن العشرين حين صعدت الفاشيات. وهكذا راح الجار يشتري كتب تاريخ قديمة تتحدث عن تلك المرحلة. وذات يوم خيل اليه انه وصل الى غايته حين قرأ ل"المرحوم"غوبلز وزير دعاية هتلر وثقافته، جملة أطربته كثيراً، رفع صوته كثيراً حين نقلها الينا ذات جلسة. الجملة هي كما نقلها الجار:"اكذب اكذب اكذب فقد تجد اخيراً من يصدقك". ومنذ تلك اللحظة صارت الجملة لازمة يرددها الجار الحلاق في كل لحظة يصغي فيها من على شاشة جهاز التلفزيون الدائر في دكانه باستمرار، الى تصريحات سياسية يدلي بها زعماء او اشباه زعماء، او حتى أفراد من ذلك الصنف المسمى"محللين سياسيين"والذين لم يعرف الجار من عيَّنهم في هذه الوظيفة، بل لم يفهم حتى ما هي الوظيفة، طالما انه حاول كثيراً ان يفهم ما يقولون فعجز. اذاً أمضى الجار الشهور الاخيرة وهو يردد الجملة، وقد اسقط من حسابه فصيلة المحللين، ليبقي الزعماء يسرحون ويمرحون بين كلماته ودعاباته، حيث يصرخ بين الحين والآخر مبتسماً لاعناً في الوقت نفسه: اكذب... اكذب، قبل ان يضيف بأقصى درجات الحسرة والسخرية:... فستجد دائماً من يصدقك في النهاية! الحقيقة اننا كنا اعتدنا على خوض جارنا في الامر بهذه الطريقة بحيث صار الامر جزءاً من فولكلور الحي. ولكن فجأة، منذ ايام، وفي جلسة مع الحلاق نظر الينا بغتة، بشيء من المكر وشيء من الحذر وقال:"... هل تعرفون؟ لقد اجريت تعديلاً جذرياً على عبارة غوبلز...". ولما نظرنا اليه في تساؤل عن ذلك التعديل، استطرد في انتصار:... قبل ايام سمعت شخصاً اثق به يقول ان المحطات التلفزيونية لا يصدقها في الحقيقة إلا زبائنها الذين تعبر عنهم، بحيث من المستحيل على أي محطة ان تكسب زبوناً جديداً"واذ صمت هنا سأله واحد من الحاضرين:"فما علاقة هذا الواقع، الصحيح على أي حال، بعبارة غوبلز؟"، فما كان من صاحبنا إلا ان وسع من دائرة ابتسامته وقال بشيء من اللامبالاة المدروسة:"العلاقة وثيقة، ذلك اننا اذا نظرنا الى واقع الحال، يجب ان تكون العبارة:"اكذب اكذب اكذب... فإن لديك من يصدقك منذ البداية". وقهقه ثم انكب يعمل بصمت ذي دلالة على رأس زبونه قبل ان يتمتم بضع كلمات أخرى لم نفهمها.