تعرف على نص «الوثيقة» التي رفعها الملك سلمان لإنشاء قطار الرياض منذ 16 عاماً    المملكة تفوز بعضوية الهيئة الاستشارية الدولية المعنية بمرونة الكابلات البحرية    وفاة ثلاث فلسطينيات بسبب التدافع للحصول على خبز بوسط غزة    محرز يهدي الأهلي فوزاً على الوحدة في دوري روشن    الحمزي مديرًا للإعلام بإمارة جازان وسها دغريري مديرًا للاتصال المؤسسي    القادسية يتفوق على الخليج    نعيم قاسم: حققنا «نصراً إلهياً» أكبر من انتصارنا في 2006    النصر يكسب ضمك بثنائية رونالدو ويخسر سيماكان    الجيش السوري يستعيد السيطرة على مواقع بريفي حلب وإدلب    "مكافحة المخدرات" تضبط أكثر من (2.4) مليون قرص من مادة الإمفيتامين المخدر بمنطقة الرياض    ابن مشيعل يحصل على درجة الدكتوراة    السعودية تتسلّم مواطنًا مطلوبًا دوليًا في قضايا فساد مالي وإداري من روسيا الاتحادية    خطيب المسجد النبوي: السجود ملجأ إلى الله وعلاج للقلوب وتفريج للهموم    والد الأديب سهم الدعجاني في ذمة الله    الشؤون الإسلامية تطلق الدورة التأهلية لمنسوبي المساجد    وكيل إمارة جازان للشؤون الأمنية يفتتح البرنامج الدعوي "المخدرات عدو التنمية"    خطيب المسجد الحرام: أعظمِ أعمالِ البِرِّ أن يترُكَ العبدُ خلفَه ذُرّيَّة صالحة مباركة    المياه الوطنية و sirar by stcيتفقان على تعزيز شبكة التكنولوجيا التشغيلية في البنية التحتية لقطاع المياه    وزارة الرياضة تُعلن تفاصيل النسخة السادسة من رالي داكار السعودية 2025    الملحم يعيد المعارك الأدبية بمهاجمة «حياة القصيبي في الإدارة»    مطربة «مغمورة» تستعين بعصابة لخطف زوجها!    طبيب يواجه السجن 582 عاماً    التشكيلي الخزمري: وصلت لما أصبو إليه وأتعمد الرمزية لتعميق الفكرة    تقدمهم عدد من الأمراء ونوابهم.. المصلون يؤدون صلاة الاستسقاء بالمناطق كافة    «كورونا» يُحارب السرطان.. أبحاث تكشف علاجاً واعداً    ساعتك البيولوجية.. كيف يتأقلم جسمك مع تغير الوقت؟    تعزيز حماية المستهلك    هل يمكن للبشر ترجمة لغة غريبة؟ فهم الذكاء الاصطناعي هو المفتاح    انطباع نقدي لقصيدة «بعد حيِّي» للشاعرة منى البدراني    عبدالرحمن الربيعي.. الإتقان والأمانة    رواد التلفزيون السعودي.. ذكرى خالدة    روضة الآمال    الاتحاد السعودي للملاحة الشراعية يستضيف سباق تحدي اليخوت العالمي    العروبة يتغلّب على الفيحاء بهدف في دوري روشن للمحترفين    الرياض يتغلّب على الفتح بثنائية في دوري روشن للمحترفين    مرآة السماء    ذوو الاحتياجات الخاصة    اكتشافات النفط والغاز عززت موثوقية إمدادات المملكة لاستقرار الاقتصاد العالمي    فصل التوائم.. البداية والمسيرة    «متلازمة الغروب» لدى كبار السن    رسائل «أوريشنيك» الفرط صوتية    وكالة الطاقة الذرية: إيران تخطط لتوسيع تخصيب اليورانيوم بمنشأتي نطنز وفوردو    بالله نحسدك على ايش؟!    كابوس نيشيمورا !    "راديو مدل بيست" توسع نطاق بثها وتصل إلى أبها    إنصاف الهيئات الدولية للمسلمين وقاية من الإرهاب    «COP16».. رؤية عالمية لمكافحة التصحر وتدهور الأراضي    حملة توعوية بجدة عن التهاب المفاصل الفقارية المحوري    أمير تبوك يستقبل المواطن مطير الضيوفي الذي تنازل عن قاتل ابنه    وزير الخارجية يصل الكويت للمشاركة في الدورة ال 162 للمجلس الوزاري التحضيري للمجلس الأعلى الخليجي    إنسانية عبدالعزيز بن سلمان    أمير حائل يعقد لقاءً مع قافلة شباب الغد    أكدت رفضها القاطع للإبادة الجماعية بحق الفلسطينيين.. السعودية تدعو لحظر جميع أسلحة الدمار الشامل    محمد بن عبدالرحمن يشرّف حفل سفارة عُمان    رئيس مجلس الشيوخ في باكستان يصل المدينة المنورة    أمير تبوك يقف على المراحل النهائية لمشروع مبنى مجلس المنطقة    هيئة تطوير محمية الإمام تركي بن عبدالله الملكية ترصد ممارسات صيد جائر بالمحمية    هنآ رئيس الأوروغواي الشرقية.. خادم الحرمين الشريفين وولي العهد يعزيان القيادة الكويتية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



طريقي الى الشيوعية
نشر في الحياة يوم 02 - 03 - 2010

عندما سمعت بالشيوعية للمرة الأولى، بدا صيتها يرادف الألم للألم. ففي قريتنا، كان يُضرب المثل بأنيس البيطار، فيقال إنه سيق الى الزنازين مراراً وعُذّب وأهين، فضلاً عن تعرّضه للجوع والفاقة.
والسمعة هذه بدت أقوى من سمعة الإلحاد التي لم تعد تستوقف كثيرين، وإذا استوقفتهم، فمن دون زخم تعبيري. ذاك أن الحدّة حيال الملاحدة انحسرت مع جيل الأجداد، أؤلئك الذين عاصر شبابُهم ثورةَ أكتوبر الروسية. فالخوري نقولا كان من هؤلاء، ومنهم كانت المعلّمتان"كفى"وپ"فلمينا"اللتان تولّتا التعليم في"مدرسة الدير"، هديّة روسيا القيصرية لسكان قريتنا الأرثوذكس.
في جيل أبنائهم اختلف الأمر، فكان أبي ما أن يؤتى على ذكر الشيوعية حتى يسمّي أنيس البيطار ثم يُغمض عينيه متعاطفاً ويجعل يهزّ يديه في إشارة مبالغة الى عذابه الأليم. والظن كاد يذهب، بأبي والآخرين، الى أن أنيس ربما وجد ما يستهويه في البؤس هذا، وإلا فلماذا كرر التجربة مراراً، عائداً الى سجن خرج لتوّه منه؟
لقد لاح شيء غامض ومجانيّ في سلوك شيوعيّنا الذي لم يصفه أحد بأنه يهوى الألم. صحيحٌ أن عقدة ستوكهولم والنزعة المازوشية ما كانتا مما يستخدمه أهل القرية في تأويل عالمهم وأشيائه. إلا أنهم درجوا على إلصاق بعض عوارض المازوشية بأتباع"شهود يهوه"ممن آثروا الموت على نقل الدم من جسد آخر، والذين إذا أهنتَ أحدهم ابتسم، وإذا ضربتَه على الأيمن أعطاك الأيسر.
فأنيس ذو حضور اجتماعي سويّ وهو، كما كان يقال، خيّاط جيّد غير أنه يترك متجره الصغير مُغلقاً لأشهر، فينفضّ عنه زبائنه، من أجل أن ينام في زنزانة. ذاك أن أحداً لا يترك سترته معلّقة المصير في دكّان مغلق، ومن يريد الزواج لن يجعل بذلة عرسه رهينة الظرف النضاليّ لأنيس البيطار.
وفي تعقّلهم سلوكه عبر وعي غائم، تراءى لهم مثل واحد من تلامذة المسيح. فالشيوعي، ولو لم يكن كأتباع"شهود يهوه"، بقي يُدهشهم غضّ نظره عن الكرامة، وهي ما هي في الأرياف، في سبيل قضية محيّرة كمكافحة مشروع أيزنهاور. لكنهم، في ما كانوا يستطردون في الشيوعية، راحوا ينسبون الى حاملها رغبةً في الكسل والتبطّل لم يستشعروا تناقضها مع ولهه المفترض بالتعذيب. ففي روايات العبوديّة، التاريخي منها والأسطوري، يمكث عمل السخرة بديلاً"سلساً"من إنزال العنف الجسماني بالعبد، فيما الأخير لا يواجه الجَلد إلا حين يُتهم بالتباطؤ في أداء السخرة.
وعلى العموم، لم يكن الشيوعيون أمراً سهلاً إدراكه. فهم لا يندفعون وراء حماسة لعائلة أو قوميّة أو ديانة، ولا تستثيرهم أنَفَة يتعاقب الضرب والأذيّة على انتهاكها. أما حبّهم روسيا، التي تنكّرت لأرثوذكسيّتها، فيضيف جرعةً طفيفة الى غرائبيّة الغرائب الأخرى. وربما خفّف عليهم نعمان، وهو من جيل أنيس البيطار، تعقيد اللوحة، غير أنه، من جهة ثانية، زادها تعقيداً. فنعمان شيوعي في حالة فولكلورية تقرّبه من"الرفيق سجعان"كما صنعه المسرحيّ اللبنانيّ جلال خوري. فهو ظن أن الشيوعيين وحدهم المسيحيون الصادقون، وان روسيا تتبع التعاليم الحقيقية للأرثوذكسية، وإن كانت أيضاً تتبع التعاليم الحقيقية للإسلام وكل ما هو صالح وحقّ. وقد عاش عازباً"عائلته الشيوعية"، على ما كان يوصف، اعتاش على ما زرعه من خضار قليلة في حديقة بيته الصغير المتداعي قبل أن يبيعه الى جيرانه. بيد أن التبادل التجاري معه، في حدود الخسّ والبقدونس، توسّطته الصراعات الدولية والخلافات الإيديولوجية على أنواعها. ذاك أنه حين يأتي الموسم واعداً، يصف البذار بأنه من موسكو أو عاصمة أخرى من عواصم حلف وارسو. أما متى فسد الموسم، فالمعنى أنه خُدع مجدداً واستورد بذوراً فاسدة من الامبرياليين.
لكن نعمان، مع هذا، تمتع بقوّة رآها أهل القرية مُلغزة. فهو حين كان يسهر في أحد البيوت، والساهرون الآخرون يحادثونه بقدر من مداعبة يشوبها استخفاف، كان يضحك ضحكة القائلين: أغفر لهم يا أبتاه لأنهم لا يدرون ماذا يفعلون. وذات مرّة كشف، وهو ينتحي كعادته أقصى الغرفة، ما يقصد. فقد أخذه شيء من التوتر وهو يُخبر مُجالسيه الأميركيي الهوى، كما كان يصنّفهم، أن هافانا تسقط في تلك اللحظة عينها وباتيستا يولّي الإدبار بينما هم في غيّهم يقهقهون.
ولهم تراءى الرفيق المسنّ مثل الإذاعات، يردّد أسماء عواصم كبوخارست وصوفيا، أو أشخاص كخروتشوف وبولغانين، مما يأتيهم من الراديو فيظنونه كلمات بلا معانٍ. وأنا لم يُتح لي أن أعرف نعمان في حقبته الستالينية إلا أن من يكبرونني سنّاً أخبروني أنه ما أن شتم خروتشوفُ"أبا الشعوب"حتى نزع صورته عن حائط بيته وأحلّ محلها صورة الزعيم الجديد، قريباً من صورة لينين الثابتة. أما أسماؤه الغريبة، في نظر أهل القرية، فكان الناصريان عبد الكريم وعلي طالب يفهمان بعضها تبعاً للتحالف بين الاتحاد السوفياتي وعبد الناصر عهدذاك. فقد شاركا نعمان فرحته بغاغارين حين سبق الأميركان الى القمر، وهو ما فعلناه جميعاً كلٌ بطريقته. وقد أتاح له السبق ذاك أن يذكّرنا ب"سبوتنيك"التي كانت، قبل سنوات قليلة، افتتحت الصعود الى الفضاء الخارجي.
لكنها شراكة لم تُعمّر طويلاً حيث انفجر النزاع في العراق، إثر ما عُرف ب"انتفاضة الموصل"، بين القوميين العرب والشيوعيين. وراح الأولون يتحدثون عن الأخيرين كمجرمين قتلةً أقدموا على تصفية الضبّاط الناصريين والبعثيين، وهو ما لم يكن له، لدى عموم أهل القرية، صدى. فهم يعرفون أنيس ونعمان ولا يقوون بتاتاً على تخيّلهما يمارسان السحل في شوارع المدن، ناهيك عن وقوع الصراع الشيوعي - القومي العربي خارج اهتمامهم أصلاً.
أما أنا فاختلفت تجربتي. ذاك أن سليمان، إبن أخ نعمان الذي اعتمد أهل القرية عليه لتصليح ساعاتهم، كان معروفاً بنزقه وحدّة طباعه. وسليمان، الذي تبع عمّه في الحزب والعقيدة، كان يتمنى في 1958، وأنا في السابعة، لو يكون لديه ولد وطنيّ مثلي، يكره شمعون كما أكرهه.
بيد أنه ما أن مرّت سنة وجدّت أحداث العراق، حتى تردّت العلاقة بين سليمان وبيني. فعندما حاذيتُ دكّانه واتهمته بأنه"فاشي"، وهي الكلمة التي لم أفهم معناها وكان البعثيون يستخدمونها ضد الشيوعيين، والعكس بالعكس، ابتسم لي ودعاني الى الاقتراب منه. فحين فعلتُ لكمني على وجهي لكمةً لم أتوقّعها.
وترتّبت على فعلة سليمان ذيول في القرية، فقصده شبّان أرادوا الانتقام لي، وكان ما كان مما يُعدّ حاشية تافهة في هوامش الصراع المتعدّد الساحات بين الحزبين. ولسنوات بعدذاك، ظلت الشيوعية تُقاس بوصفها مرادف الاتحاد السوفياتي الذي نحبّه بقرارٍ تمليه مصلحة العرب، من غير أن نحبّه فعلاً.
وفي الغضون تلك، زار خالي الصين فعاد إلينا بصورة جمعته بشوآن لاي، وبعدد من العبارات التي كانت تملك دلالة خاصة في عكّار، خصوصاً منها"الأرض لمن يفلحها". لكن الصين ظلت شيئاً آخر لا يردّ الى الشيوعية كما تفعل روسيا. والحال أنها بقيت تتصل بالغامض والغريب أكثر مما تطاول السياسة بالمعنى الذي نألف أو نتكهّن. فهي، لعالمنا الأبرشيّ، محض وجوه صفراء وبشر هائلي العدد قبل أن تكون موقعاً سياسياً أو موقفاً معتقدياً. أما ما كان يرشح من أقوال قادتها فعزّز الإيكزوتيكيّة هذه، حيث الحِكَم كثيرة فيما تنظيم توزيع الأرزّ، أو إبادة الجراد، يدخلان في صغائر البلد وكبائره. ونحن لم نعِ تماماً ما إذا كان علينا أن نفكّر أو نضحك حين نُمي إلينا، والله أعلم، أن ماو تسي تونغ قال مرةً لعبد الناصر: خذوا سكاكينكم، أنتم العرب، وسيروا بملايينكم باتجاه إسرائيل، ولتقتلْ منكم ما شاءت، فالانتصار لكم في النهاية.
على النحو هذا استمرت الحال حتى أواخر الستينات التي ظلّت بالنسبة إليّ، مسكونة بالبعث والناصريّة، لا تجمعها نسبةٌ بستينات الغرب وشبيبته. وكدت أضمّ صوتي الصغير، بعد 1967، الى أصوات الكثيرين ممن اتهموا السوفيات بالتسبّب في هزيمتنا لأنهم قالوا لعبد الناصر أن لا يكون البادىء بالقتال. بيد أن"ربيع براغ"، في العام التالي، بثّ شيئاً من التوازن إذ كافحنا الخرافة السابقة بخرافة جديدة. فقد ساد بيننا الرأي القائل إن الصهيونيّة حرّكت المتظاهرين في تشيكوسلوفاكيا انتقاماً من موسكو على تأييدها العرب. وكان ل"حرب الاستنزاف"على الجبهة المصرية - الاسرائيلية، والدعم الروسي لعبد الناصر، أن منحا الخرافة لسانها الفصيح.
المسألة اليهودية
في تلك الغضون، بدا يوسف، على عادته، سبّاقاً في قراءة كتب ماركسية حرّضنا اطّلاعُه عليها على الاطّلاع. وبعد أشهر قليلة سادها صدّ تلك الأفكار ونفور منها غبيّان، شرعت أستسلم لها. لكن أكثر ما بدأ يدكّ دفاعي ما قرأناه يومذاك عن المسألة اليهودية. فقد جعلت أنتبه الى أن"اليهود"لم يصنعوا اسرائيل لمجرّد أنهم يهود، وأن ثمة أسباباً تقيم في التاريخ هي بمثابة علّة للمعلول. ولئن استبدّ بنا الإصرار على تمييز"اليهود"عن"الصهاينة"، والتفريق بين"يهود"و"يهود"، بقيت دهشتي عظيمة بالتأويل السببي والمنطقي بوصفه الحد الأدنى لفهم العالم عقلانياً. وبعد خطابيّة الوعي القوميّ على أنواعه، لاحت الماركسيّة منظومة متجانسة متماسكة تأسر الوافد اليها من تجارب ضعيفة الصلة بالعقل والتنوير. وكان لهذا خطر لم نكن قادرين يومذاك على حسبانه. فوقوع السحر التحليلي على بيئة لم تعرف إلا الأديان والقوميات وبضعة حِكَم ريفيّة، بدا قادراً على ترييف ثقافتنا الأوروبية الضئيلة وتديينها أكثر من قدرتها هي على تشذيب خردة التصوّرات التي حملناها. وفاقم المشكلة أن العنصر الشاب، بالحماسة الإيمانيّة التي يتّصف بها، هو الذي"يستورد"الماركسيّة مُسبغاً عليها حرارة اليقين، فيما الأخيرة الشكل الوحيد الذي وصلنا، بفعل الترجمة، من ثقافة غربيّة زُمّت لدينا الى كتاتيب وكراريس، واختُصرت أحياناً تلخيصاتٍ و"قوانين".
والحقبة هذه من عمري، وأعمار بضعة أصدقاء، كان نُصبها بيت سيسيليا، والدة يوسف. فالمنزل الذي لا أبواب له، كان المكان الذي يُستعرَض فيه آخر ما يُقرأ وما يُفكّر، كما تُعلن الإنحيازات والأهواء فيما تعلو الأصوات هارجةً مارجة. وبسخائها وقدرةٍ لديها غير عاديّة على الحضْن والاستقبال، كانت سيسيليا صديقتنا جميعاً، تواكب تحوّلاتنا بما لا يخلو من تواطؤ مع هذا ضدّ ذاك، ومن رموز وإشارات ولعب يجعل الطفلة غير العابئة تتخلّل الأمّ التي تكتوي بهمومها. وبطريقته، ذهب يوسف الى أن أمّه غيّرت، في الانتقال من القوميّة الى الماركسيّة، قاموس شتائمها. فبعد أن كان"الخائن"أو"العميل"مرادفها للسيّء واللعين، بات"البورجوازيّ"الوصفَ الذي تعتمده لزمننا البروليتاريّ. وظلّت الحماسة للمقاومة الفلسطينيّة الجسر الأقوى الذي يربط بالأفكار، مثلما يوفّر لها مختبرها. وفي منطقتي، في الشمال، بدا القرب من مخيّم نهر البارد سبباً خفيّاً في تمتين ربط كهذا. فأخبار المعاناة التي أنزلها رجال الدرك بأهل المخيّم، كانت كثيرة التداول في بيتنا، كما شكّلت أحد أسباب الإدانة لكميل شمعون ومن بعده فؤاد شهاب. أما في المرحلة التالية، فغدت فلسطين"رافعة"ما هو تقدمي وما هو ثوري، مع أن نعتاً كهذا لم يكن أميناً، ولو تأخّر اكتشاف سرّه. ذاك أن السبب الفعليّ الذي جذب أمثالنا الى الماركسيّة لم يكن الا تطلّب"الكرامة"التي تحضّ على تحرير فلسطين ومقارعة الغرب"الامبريالي"، بعدما أخفقت العروبيّات التقليديّة في إنجاز المهمّة تلك. فلو كان الأمر ممكناً بالأفكار الرجعيّة لساقتنا أقدامنا، قبل الرؤوس، الى الأفكار تلك، ولابتهجنا بها ابتهاجاً عميماً.
ووسط تعاطف عام وغامض يترجّح بين الجبهتين الشعبية الديموقراطية لتحرير فلسطين، وكانت نشأت لتوّها، اندلعتْ حرب الأردن وغادرتُ للدراسة في بريطانيا حيث انفتحت لماركسيتي اليافعة آفاق أوسع. فهناك تعرّفت الى فالح العراقي الذي كان مدخلي الى معرفة بها أكثر جديّة وأشدّ نظريّةً ونأياً، في الوقت عينه، عن السياسة. فعبره عرفت بعضاً من أدورنو ولوكاش وغرامشي وألثوسير، ومن خلال كراهيّته تروتسكي قرأت تروتسكي. وإذ سحرتني كتابات الأخير وبضعة أعمالٍ مما تركه ماركس وروزا لوكسمبورغ، رحت أعاني مصاعب جديّة لا أقرّ بها لدى قراءة لينين. فهو ربما كان أحد أصحاب النصوص الأكثر إضجاراً في تاريخ الكتابة، بعمليّته الأداتيّة وضعف الكتابيّة لديه. حتى رواية نيكولاي شيرنيشفسكي"ما العمل؟"التي استوحاها ليضع كتابه الشهير الذي حمل الاسم نفسه، يصعب أن تستهوي أحداً خلا المتأثّر بها. وبدت قراءة ستالين وماو أرحب نسبيّاً. فهما كان قارىءٌ مثلي لا يراهما آيتين فكريتين على ما رُسم لينين، فاستدعت"قوانين"الأول و"حِكَم"الثاني معاملةً تفضيليّة أُعطيت لها تبعاً لقيمة صاحبيهما، والأهمّ أنها أتاحت شيئاً من السخرية لا يسمح بها التعامل مع المقدّس فلاديمير إليتش.
وكان لتأريخ إسحق دويتشر الثورةَ الروسيّة ورجالاتها سحر مميّز. ففضلاً عن معرفته المدهشة وكتابته الأنيقة، وفّر لنا، بنقلنا الى جوار لينين وتروتسكي وستالين وبوخارين، استعادةً للأسلاف الصالحين وأيّامهم الملحميّة. ذاك أن المؤمن يستهويه دوماً أن يسترجع قدّيسيه وطورهم بوصفه عصراً ذهبيّاً، يعيش التفاصيل التي عاشوها ويمرّ، إن تسنّى له، المرور في الطرقات التي مرّوا فيها، أو الجلوس على كراسٍ جلسوا عليها. فإذا لم يستطع لمس أثوابهم لامس سِيَرهم بشعور حميم فيه وجدٌ، وأحياناً توحّد صوفيّ، ودائماً سعيٌ الى تأسيس الحياة على شرعيّة حياتهم، والأفكار على شرعيّة أفكارهم. ولما كان طموح المؤمن حيال ذاته يقف عند التحوّل نسخة ثانية أو ثالثة، إذ النسخة الأصليّة لا تتكرر، غدت أناجيل الرُسُل، قديمها وجديدها، شرطاً لازماً للقياس والمقارنة.
لكن القراءات العسكريّة التي راجت يومذاك للفيتنامي جياب وغيفارا، فضلاً عن ماو، تسبّبت بصعوبة تشبه الصعوبة اللينينيّة. فإزاء نصوص كتلك غالبني شعور بانعدام القيمة الاستعماليّة لدلتا الميكونغ وسلسلة جبال الأندس والعالم البرّي الذي تضافرت المخيّلة والحاجة على استبعاده وفرزه عن الفلاحين ممن أعرف. وأميل الآن الى الظنّ أن سبباً آخر وسّع المسافة تلك مصدره ضعف التقليد اليدويّ في حياتي وحياة من شابهني أو تربّى تربيتي. وهذا، في آخر المطاف، ما أسكن الأفكار أرضاً والأعمال، العنفيّ منها وغير العنفيّ، أرضاً أخرى.
لكن أكثر ما فاجأني، هناك في بريطانيا، الوجود الكثيف لناشطين وناشطات يهود في المناسبات التي تخص القضية الفلسطينية. فما كانت لندن تشهد تظاهرة تنديد باسرائيل او ب"الرجعية العربية"الا كان شبّان وشابّات من"ماتزبن"في عدادها. وتعرّفت، كذلك، على رفاق من حركتي"النضال المستمر"و"النضال الشيوعي"الايطاليتين، فضلاً عن بضعة يساريين بريطانيين في منظمة"الإشتراكيين الأمميين"التروتسكية. الا انني غالباً ما كنت أنكمش عن النقاط البرنامجيّة المختلَف عليها بينهم لشعورٍ تغلب عليه بقايا انتهازية قوميّة. فما يُحسب حسابه، كائناً ما كان معنى"الأمميّة"الأصيل، كسبهم جميعاً الى الموضوع الفلسطيني، لا الدخول في متاهات نزاعاتهم وشقاقهم. كذلك لم يسترع انتباهي الوضع البريطانيّ نفسه، وإن شدّني الانشقاق الذي طرأ على"الجيش الجمهوري الايرلندي"وفرز"الرسميين"المتمسّكين بالماركسيّة والموقف الجذري حيال ممارسة العنف. ففي إيرلندا وقضاياها كانت قضايانا تلوح أكثر مما في شؤون انكلترا ذاتها. ولدى قراءة ماركس عن إيرلندا، حضرتْ إلفة لم تستحضرها قراءة رفيقه إنغلز عن الطبقة العاملة الانكليزيّة في كونها الصناعيّ المبكر.
وفي موازاة انتقائيّتي في تلقّي"العلم الطبقيّ"، شكّلت"فلسطين الحرّة"الإطار الذي تنتظم بموجبه تحركات الدعم للفدائيين الفلسطينيين وتنظيم نشاطات التظاهر في لندن إبان الأحداث الساخنة. واستهوتني، في مناخ كهذا، فكرةٌ يصعب أن تتجانس مع ما كنتُ أظنّه، لم تكن غريبة عن الطروحات الفلسطينية-الاسرائيلية المستجدّة حول الدولة الديموقراطية-العلمانية ولا عن مناخ يساري بريطاني مناهض للمسألة القوميّة. فالشرق الأوسط الكبير الذي يوفّر أكبر رقعة ممكنة لمواجهة الامبرياليّة، ولاحقاً لبناء الاشتراكيّة، هو وحده ما يمهّد لحلّ المسألة الفلسطينيّة خارج الضيق والتزمّت الشوفينيين لشعوب المنطقة. ذاك أننا لم نُرد أن نحرّر فلسطين لذاتها، ولا من أجل ردّها الى الملاّك الزراعيين الحسينيين والنشاشيبيين. ففلسطين، كما انتقيناها وأوصينا عليها، مدخل الى تحرير منطقة بكاملها بقدر ما هي إشراك للمنطقة، عرضاً وطولاً، في التحرير. وهي، كما كنا نقول، جدليّة لا تصنعها إلا الطبقة العاملة وحلفاؤها ولا يستفيد منها إلا هؤلاء، لا فضل لعربيّهم على يهوديّهم ولتركيّهم على إيرانيّهم.
والحقّ أن الأفكار، على تضارُبها أحياناً، استهوتني دوماً أكثر مما جذبني النضال. فكنتُ مثل مُشاهد فيلم سينمائيّ ينفعل أكثر مما ينفعل الممثّل، وبصدق قد يتعدّى صدقه، إلا أنه يشاهد ولا يمثّل. فأنا لا نشطتُ في جامعة ولا حرّضت في مصنع ولم أُسَق مرةً الى سجن ولا اشتبكت مع أحد بالأيدي. فكان أعلى درجات النضال التظاهرة في شوارع لندن، تسير مؤدّبة عموماً وتطلق هتافات انكليزيّة مضجرة وغير موقّعة فيما يحيط بها رجال الشرطة من الجانبين، هادئين مراقبين. حتى الاجتماعات القليلة التي حضرتُ أصابني معظمها بالملل، وانتابني برم مما تراءى لي تكراراً للبديهي أو نقاشاً في ما لا يغني ولا يسمن. وإلى يومنا لا أزال أنفر من"السياسة"حين تنحصر في حلقة، أو حين يسودها نقاش في الشأن العام بوصفه كشفاً للمستور وتعاملاً مع الأحاجي أو تمريناً على التآمر.
غير أن أستاذة علم الاجتماع الكنديّة علّمتني درساً لم أفقهْ، إلا في وقت متأخّر، معناه. فقد ردّت لي ورقة المسابقة مليئة بالدوائر الحمراء التي خطّها قلمها حول تعابير استخدمتُها. فحول"خط التاريخ"وضعت دائرة وكتبت على هامشها:"هل خطّ التاريخ في جيبك؟"، وحول"بروليتاريا"وضعت دائرة أخرى وكتبت:"كلمة عامّة لم تعد صالحة للاستعمال"، وهكذا دواليك. وإذ احتججت واندفعنا في مهاترة هادئة الشكل عاصفة المضمون، سألتني:"ماذا تفعلون لو وقفت ضدّكم أغلبيّة الشعب؟"، فقلت:"نحاول إقناعها بعد أن نعزل الفئات المستفيدة من الوضع القائم". وإذ أصرّت وكررت سؤالها:"وماذا إن لم تقتنع؟"، أجبت بشيء من الحسم الذي يغالب التلعثم:"نصفّيها". هنا أدارت وجهها عني وتوقّف السجال. وما لم تقله المدرّسة الكنديّة قاله مايك البولندي الذي استأجرتُ منه غرفتي قبل أن أزيّنها بملصقات ضخمة الحجم لماركس وإنغلز ولينين. فقد روى مايك المناهض للشيوعيّة على حدّة معهودة في البولنديين، أن والدته في وارسو لم تذق لسنوات طويلة الشاي مع السكّر. فقد كانت تتزوّد شاياً في أحد الأعوام تبعاً لما تقتضيه الخطّة المركزيّة، وتتزوّد سكّراً في السنة التالية، بحيث استحال جمعهما على طاولتها.
إلا أن أمميّة الماركسيّة وثقافيّتها ظلّتا تلطّفان القسوة المقيمة في نظاميّتها الكليّة. وفي ترجمة لبنانيّة بحتة، لم يغب قدر من التمييز بين الشيوعيّة كمذهب محليّ يضرب جذره في تربة مسيحيّة فلاحيّة، متيحاً لنعمان النطق باسمه والتعبير عنه، وبين الماركسيّة كضرب من تعالٍ مزدوج، في المكان الأوسع كما في الأفكار الأعقد. فالشيوعيّة بدت مساوِمة لمجرّد اشتغالها في السياسات القائمة، لكنها بدت أيضاً غير مُنزّهة عن أزجال القرى وعن نوع من ولاء ديني للاتحاد السوفياتي، فيما رموزها المعبودة، كفرج الله الحلو، وأدباؤها المسلّم لهم، كرئيف خوري، يصدرون عن هوى يصالح الوقائع اللبنانيّة هو غير الذي أصدر عنه.
ومثل أيّ نظام، كان للماركسية تلك طقوسها، كتدخين سيجارة"الجيتان"التي تصفّر الأصابع وتنشر رائحتها في المكان كلّه، واحتساء القهوة السوداء الكثيفة التي تكلّف المعدة الضعيفة التحمّل الهموم الثقيلة لمعذّبي الأرض، وطبعاً قراءة"الغارديان"دون سائر"صحف النوعيّة"البريطانيّة. وبعد طول اقتصار على قراءة الشعر العربي، والنظم فيه، شرعت أتعرّف على الشعر الأجنبي واليساري المترجم الى الانكليزية، فاطّلعت على ما تيسّر من أراغون ونيرودا وحكمت، وتوقّفت عن كتابة الشعر التي تيقّنت تدريجاً من أنها ليست مهنتي. وفي أحد أيّام صيف 1973، اشتريت عدداً من"الغارديان"في طريقي الى مطار هيثرو عائداً الى بيروت، فكان الخبر الصاعق عن إطاحة سلفادور أليندي في تشيلي. إذاً، فعلتْها البورجوازيّة والجيش والولايات المتحدة مجدداً، فكأن أنيس البيطار، بشيء من التداعي الحرّ، سيق مرّةً أخرى الى الزنزانة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.