أثناء فترة خدمتي مديراً للمركز الأكاديمي الإسرائيلي في القاهرة، وفي زياراتي المتعددة لمصر قبل تلك الفترة وبعدها، ربطتني علاقات صداقة بعدد كبير من المثقفين المصريين ودارت بيننا نقاشات وحوارات متعمقة حول مختلف أبعاد الصراع العربي - الإسرائيلي. كان بعض من حاورتهم من المؤيدين المخلصين لضرورة رعاية السلام المصري - الإسرائيلي وتعميقه. أما البعض الآخر فساهم في مقاومة المعارضة المصرية لتطبيع العلاقات المصرية - الإسرائيلية، لكنه لم يتورع عن إجراء الحوار المستمر معي. فكان هناك أيضاً من تحاوروا معي في جو من الصداقة والصراحة المتناهيتين، وذلك قبل ان أتولى إدارة المركز الأكاديمي، غير انهم قطعوا اتصالهم بي بعد ان توليت المنصب، لكن الحوار في ما بيننا استمر عبر قنوات غير مباشرة. أود أن أقدم في ما يلي ما قل ودل من آراء ثلاثة من الذين حاورتهم، وكذلك مقولة لواحدة من المثقفات المصريات التي لم تتح لي حتى الآن فرصة محاورتها، لكن نظرتها الى الوضع الذي نعيشه في المرحلة الراهنة جديرة بالاهتمام. أول من أذكر بعض كلماته هو المرحوم تحسين بشير، الديبلوماسي المخضرم المقرب الى الرئيس الراحل أنور السادات، ومن ابرز المتحمسين للسلام مع إسرائيل. عدد بشير، في حوار دار بيننا، ثلاثة أخطاء مميزة في التصور الإسرائيلي للسلام: أولاً، اعتقاد إسرائيل بأنه من الممكن التوصل الى سلام مع دولة عربية واحدة أو اثنتين، بدلاً من السعي الى سلام شامل مع العالم العربي بأسره، او على الأقل مع الدول العربية التي احتلت إسرائيل أجزاء من أراضيها أثناء حرب 1967. ثانياً، الخلط بين"السلام"وپ"الحب"، وإحساس إسرائيل بأن السلام مع الدول العربية التي لا تعانقها وتغدق عليها الحب يعتبر سلاماً منقوصاً. ثالثاً، وهو الأهم، اعتقاد إسرائيل بأن اتفاق السلام هو بمثابة علبة شوكولاتة بونبونيرة والتي بمجرد ان تفتحها وتزيح غطاءها الشفاف ستحصل على سلام جاهز مكتمل لا تشوبه شائبة. والسلام في تصور تحسين بشير مثل الشتلة الضعيفة التي يجب رعايتها وريها وتسميدها وحمايتها من العواصف والحشرات الضارة والسماح لها بالنمو في شكل طبيعي. المتحدث الثاني كان محمد سيد احمد، المفكر الماركسي اللامع والذي توافق هذه الأيام الذكرى السنوية الأولى على رحيله. كان سيد احمد من معارضي اتفاقية كامب ديفيد لأنه اعتبرها اتفاقاً منفرداً يترك الشعب الفلسطيني ليواجه مصيره. مع ذلك فهو لم يمتنع يوماً عن مقابلتي بودّ كبير ومناقشتي في مختلف الإشكاليات السياسية والفكرية. وكثيراً ما أكد في لقاءاتنا ان إقامة دولة فلسطينية ذات سيادة بحدود 1967 الى جانب دولة إسرائيل وبحسن الجوار معها لهي بمثابة افضل بطاقة تأمين لضمان استمرارية وجود إسرائيل وازدهارها في منطقتنا. أما المتحدث الثالث فهو زعيم مصري معارض لن اذكر اسمه لأسباب مفهومة. قال لي عام 1993، قبل سبع سنوات من الانسحاب الإسرائيلي الأحادي الجانب من الأراضي اللبنانية، ان مصلحة إسرائيل تقتضي الانسحاب من لبنان، وبهذه الطريقة"ستسحب إسرائيل البساط من تحت أقدام الاستراتيجية السورية". وبالفعل قامت إسرائيل بذلك عام 2000، لكن بعد فترة تأخير طويلة وبعد ان دفعت ثمناً دموياً باهظاً جراء بقائها في لبنان. يبدو لي ان نصيحة ذلك السياسي تصلح أيضاً على الساحة الفلسطينية. فكلما أسرعت إسرائيل في إنهاء احتلالها للأراضي الفلسطينية واحترامها لحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره فإنها ستسحب البساط من تحت أقدام"الاستراتيجية الإقليمية الإيرانية". أما المتحدثة الرابعة فهي الصحافية المصرية الشهيرة أمينة النقاش، مديرة تحرير صحيفة"الأهالي"، لسان حال"حزب التجمع"المعارض. لم يحدث أن التقينا من قبل، وأشك في أن يدور بيننا حوار قريباً، نظراً للظروف الراهنة. غير انني أتابع باهتمام وتقدير تعليقاتها على أحداث المنطقة، وكذلك دعوتها للإصلاح الديموقراطي في وطنها. وقد حذرت النقاش في مقال لها نشرته أخيراً على خلفية إحدى زيارات وزيرة الخارجية الاميركية كوندوليزا رايس الى المنطقة من السعي لإقامة محور من الدول العربية والإسلامية"المعتدلة"في مواجهة الدول العربية والإسلامية"المتطرفة"، وأشارت الى ان إضعاف"المتطرفين"لا يعني بالضرورة تقوية"المعتدلين". وعلى المعتدلين ان يدركوا أن القضاء على"الصقور"عادة ما يضعف"الحمائم"العربية في مواجهة إسرائيل. واعتقد، على غرار ما تقوله أمينة، ان ليس من مصلحة إسرائيل السعي الى إقامة أحلاف إقليمية"للمعتدلين"ضد"المتطرفين"بوحي من الولاياتالمتحدة وإسرائيل. ان ذلك من شأنه ان يؤدي الى تقوية المتطرفين وزعزعة ما تبقى من الاستقرار الإقليمي، بدلاً من العمل على تثبيته. اعتقد أن في أقوال أولئك المثقفين المصريين وأمثالهم مقداراً كبيراً من الحكمة والمنطق. فهل يوجد في الطرف الإسرائيلي من ينصت الى هذه الأصوات؟