أذكر انني في وقت ما من عام 1997 كتبت مقالاً في "الحياة" الغراء تحت هذا العنوان. وكنت أقصد آنذاك: لماذا لا نحاور اخواننا الفلسطينيين من شخصيات الأحزاب السياسية العربية في اسرائيل؟ وقلت في حينه: انهم اخوتنا وأهلونا، وهم أكثر معرفة في شؤون التعامل مع الاسرائيليين. كما نستطيع الاستفادة من خبراتهم السياسية في شأن التفاوض مع الاسرائيليين حول السلام. المقال آنذاك أثار نقمة احدى "الجهات" المعنية فصدر قرار بنقلي من عملي الى وظيفة ثانوية. ولم تكد تمر بضعة شهور حتى بدأ بعض المسؤولين لدينا بمحاورة من دعوت الى محاورتهم من أمثال عزمي بشارة وإجكز الطيبي وغيرهما. وكلنا يذكر ان بشارة زار سورية أكثر من مرة، واستُقبل أحسن استقبالاً، وأثارت زياراته المتكررة نقمة السلطات الاسرائيلية، ولكنه لم يُنقل الى أي مكان لأنه يتمتح بحصانة، ولأن في اسرائيل صحفاً ورأياً عاماً قد يعارض أية عقوبة لمواطن اسرائيلي عربي لا تستند الى منطق مقبول. اليوم أتساءل مرة أخرى: لماذا لا نحاورهم؟ وأنا أعني هذه المرة تحديداً مجموعة من الانتيليغنتسيا الاسرائيلية من علماء الاجتماع والتاريخ والسياسة، ممن باتوا يمثلون تياراً مهماً في الوسط الأكاديمي الاسرائيلي يدعى "ما بعد الصهيونية". وقمت أخيراً بترجمة كتاب يتناول آراء بعض أبرز ممثلي هذا التيار، بعنوان "تحدي ما بعد الصهيونية" - بدائل للسياسات الاسرائيلية المتشددة. الكتاب صدر أخيراً في لندن، وشارك في اعداده خمسة من المفكرين الاجتماعيين والسياسيين الأكاديميين، واثنان من المفكرين الأكاديميين العرب، وهما أسعد غانم، والمرحوم ادوارد سعيد. أما الاسرائيليون فهم معروفون بالنسبة الى من يتابعون المناقشات الفكرية والأكاديمية في اسرائيل، وأذكر منهم: حنه هيرزوغ، وايفرايم نيمني، وايلان بابيه وغيرهم. قد يقول قائل: وكيف نفاوض هؤلاء، والحكومة الاسرائيلية تعارض السلام، بل تقطع الطريق على أية عملية سلام، على رغم تأكيد سورية مراراً رغبتها في استئناف المفاوضات وعملية السلام؟! وأقول ان مفاوضة هؤلاء مفيدة في جميع الأحوال، وان تأتي من طرف بعض مثقفينا، بعيداً من ديماغوجية دعاة محاربة التطبيع، سيؤكد رغبة سورية في السلام من جهة، ويحرج حكومة اسرائيل ان هي وضعت العراقيل أو منعت مثل هذا اللقاء بين أكاديميين سوريين واسرائيليين لا يُشغلون مناصب رسمية. أما مكان اللقاء فمن الممكن أن يكون في أي بلد عربي أو أجنبي يُتفق عليه. جماعة "ما بعد الصهيونية" تتعرض في اسرائيل لهجوم شديد من جانب اليمين الصهيوني المتطرف العلماني والديني معاً، حتى ان ليمور ليفنات، وزيرة التربية في حكومة شارون، قالت انها ستشن من موقعها، في وزارة التربية، "حرباً صليبية" من أجل إعادة التفكير "ما بعد الصهيوني" الى مكانه الصحيح! إن تيار "ما بعد الصهيونية" يطرح بكل بساطة وجرأة ما إذا كان ينبغي على اسرائيل أن تكون دولة يهودية أو دولة ديموقراطية؟! ويُعالج هذا التيار التناقضات الفعلية الكامنة في النضال من أجل تحقيق هذين الهدفين في وقت واحد. الجدل ينسف ما يدعى "السوسيولوجيا وعلم السياسة معاً" من أجل تأمين الدعم الفكري والأكاديمي للرواية الرسمية الصهيونية. الادعاء الخلافي في صلب المناقشات "ما بعد الصهيونية" ان اسرائيل ينبغي أن تطور نوعاً من الهوية المدنية يتجه نحو القيم الكونية للديموقراطية الليبرالية. ولا ينبغي ان تتميز فيها أية عرقية وجودياً أو سلوكياً. وهذا الادعاء يرفضه الصهاينة الذين يجادلون، على العكس، بأن اسرائيل دولة يهودية عرقية وجدت لتحل الوضع القومي غير الطبيعي للشعب اليهودي، وأنها ستخسر سبب وجودها اذا تخلت عن هذه المهمة. ويرد أنصار "ما بعد الصهيونية" على هذه الحجة: كيف يمكن أن يتوافق هذا الهدف مع الديموقراطية الليبرالية؟! ويؤكدون ان على اسرائيل آجلاً أم عاجلاً أن تختار ما بين أن تكون دولة ديموقراطية، أم دولة يهودية؟! إذ لا يمكن أن تكون الاثنتين معاً. وتؤكد جماعة "ما بعد الصهيونية" ان معظم الديموقراطيات الليبرالية قد انتقلت الى حد كبير نحو أشكال مدنية و"ما بعد قومية" لهوية الدولة، وانه على رغم انهيار يوغوسلافيا السابقة فإن الدولة متعددة الأعراق هي القاعدة وليست الاستثناء. ان خيار اسرائيل هو ما بين عرقية خلاصية صهيونية جديدة، وبين ديموقراطية ليبرالية ما بعد صهيونية. كذلك يتوجه الجدل "ما بعد الصهيوني" الى قضايا الهوية، والنزاع الفلسطيني - الاسرائيلي، وعلاقة اسرائيل بالشتات اليهودي. ويشعر بعض المراقبين الدوليين من جراء المأساة الفلسطينية التي لا تنتهي ان "ما بعد الصهيونية" باتت مطلوبة. ويرى بعضهم ان ظهور ثقافة "ما بعد الصهيونية" والرأي العام المؤيد لها هو تطور يحظى بترحيب كبير في السنوات الأخيرة. ويعترف بيري اندرسون، احد المفكرين الأوروبيين المعروفين بالانجازات الفكرية البارزة لبيني موريس، وآفي شليم، وغيرشون شافير، وباروخ كيميرلينغ، وتوم سيغيف وآخرين. وهناك من يتهم "ما بعد الصهيونيين" بأنهم أُسود في التحليل، وحملان في الواقع. وما يجعلهم حملاناً ان الرأي العام السائد في ظل حركة يمينية متطرفة في شكل عامل ضغط هائل على مثل هذه الأصوات العاقلة والخافتة معاً. أما المرحوم ادوارد سعيد فقد وجد في إيلان بابيه، الذي التقى به عام 1998 في باريس، رجلاً لامعاً ومعادياً للمعتقدات القديمة البالية. كما أظهر ادوارد سعيد بما توصل اليه كان من زئيف ستيرنيل وبني موريس. وينتقد رفاقه الفلسطينيين والعرب لعدم اعطائهم الاهتمام الكافي للطريقة التي يطرح بها موريس ورفاقه الدليل الدقيق والدامغ على "النكبة" وحرمان الفلسطينيين من بيوتهم وقراهم، ويبدي اعجاباً بثقافة ستيرنهيل وهجومه الشديد على الأساطير المكونة للصهيونية الاشتراكية، داعياً الى ترجمة كتبهم الى العربية. ورأى سعيد ان على الفلسطينيين أيضاً أن ينضموا الى استكشاف نقدي مماثل لأساطيرهم وأفكارهم القومية. ورأى ان اعتراضات "ما بعد الصهيونيين" يجب أن تطرح بثقة ضمن حوار اسرائيلي - فلسطيني نزيه. وأشاد برد فعل هؤلاء المفكرين على لاأخلاقية الأفعال الناجمة عن الاستيطان الصهيوني في فلسطين. ويرى نيري ليفنيه، احد المفكرين الاسرائيليين، ان من الضروري استخدام عبارة "ما بعد الصهيونية"، ودمجها في مشروع ديموقراطي قوي يغرسها ببطء بمعنى لا يكتنفه الغموض. ثمة حملة مدبرة، كما يقول افرايم نيمني، لتشويه سمعة أي واحد يفكر بطريقة مختلفة عن التيار السائد في المجتمع الاسرائيلي، وبخاصة اذا كانت هذه الأفكار تتحدث عن شرعية دولة فلسطينية. بكلمة موجزة تشويه أي شيء يمكن أن يوصف بأنه "ما بعد صهيوني" حتى بات هذا الوصف سمة سيئة لأي واحد يريد أن يفكر في طريقة مختلفة في اسرائيل. ظهر "ما بعد الصهيونية" وسط الطبقات المتوسطة الاسرائيلية، وهي أقل اهتماماً بالأساطير التاريخية، وأكثر التزاماً بالحقوق المدنية من الالتزام بالقومية العرقية. "ما بعد الصهيونية"، كما يقول بابيه، مرحلة انتقالية خارج الصهيونية. ولكن من غير الواضح الى أين يتجه، لأن من الضروري أن يتحدد ذلك المستقبل في نقاش مشترك مع الفلسطينيين. وتفهم حنه هيرزوغ "ما بعد الصهيونية" على انها انقطاع عن الصهيونية وليس كشكل من المعاداة لها. أي انها مرحلة انتهت وهي تبحث عن مجتمع اكثر مساواة في اسرائيل. المسائل التي تثيرها "ما بعد الصهيونية"، على رغم ما يكتنفها من بعض الغموض، أمام المجتمع الاسرائيلي المعاصر ستبقى حاسمة بالنسبة الى مستقبل هذا النظام. ولعل المأزق الذي أوصل شارون البلاد اليه يجعل كثيراً من القوى المعتدلة وقوى يسار الوسط تعيد تفكيرها في مواقفها. ان مشروع "ما بعد الصهيونية" ظاهرة مهمة يمكن أن تحوّل الصهيونية من مشروع دولة - أمة مختلطة الأعراق الى مشروع ذي خصائص أكثر تنوعاً... الى مشروع ليبرالي ديموقراطي ما بعد حداثي. تحدي "ما بعد الصهيونية" ينسف حقيقة الصهيونية. ان الدولة - الأمة اليهودية لم تعد الحل الملائم من أجل اليهود. اليهود في مطلع القرن الحادي والعشرين، بوصفهم يهوداً، هم أكثر تعرضاً للخطر الجسدي في اسرائيل أكثر من أي وقت مضى. قد يكون مفهوم "ما بعد الصهيونية" لم يستقر ضمن مشروع واضح. انهم حتى الآن جماعة صغيرة من المفكرين تفكر في طريقة مختلفة عن التيار السائد. إذاً لماذا لا نفكر معهم؟ لماذا لا نحاورهم اذا كنا نريد العيش في سلام في هذه المنطقة من العالم؟"! * كاتب سوري.