إلتقوا كلهم عند حسن وندى. حسن وندى، يشرعان ابواب منزلهما لعزاء الأصدقاء. عزاء غير الرسميين. من مشارب لبنان، ومن انحاء العالم. من باريسولندنوالقاهرة ودبي وصنعاء ونيويورك. اصدقاء الشتُات اللبناني القديم والجديد. تدفعهم الحاجة الى تقاسم الحزن والعزاء. موت عزيز وأنت في الغربة صعب. تصبح الغربة في هذه اللحظة غربتين. الحِداد مع الذين أحبوه كما أحببته أقل قساوة. يلتقون عند حسن وندى. تغيرت وجوههم. الزمن! الزمن! الحزن مفجّر الذاكرة. 20 سنة 30 سنة... فواصل بين الآن وبين"آخر مرة...". غبْطة الحب المشترك تحلّ علينا كلنا. نتسامى على تناقضاتنا الجذرية. مشاكسة سياسية، بين المزح والجد... لا تجد آذاناً. الكل ممتلئ بروح التسامح الفياضة التي خلّفها جوزيف ويشيعها الآن حازم. حازم، سيد الحزن النبيل، المفجوع قدر فجيعتنا مرتين... منكبّ على التخفيف من أحزاننا. يعزّينا، يحضُننا، ويرْبت على كتفينا. يسأل عما يقلقنا. ينتبه الى الأضعف من بيننا. افكر بأن الحزن لحظة تجل لطبائعنا. من كان منا من قماشة طيبة، تولّد من حزنه إصغاء لأحزان الغير. وثْبة حنان تجاهه. حرص على حماية أحزانه من حزنه. يا للرقة والجمال! هكذا هو حازم. اشعر بأنني لا استطيع البكاء امامه. قد احمّله المزيد. في الليل، الى المطار، الى حيث سيصل الجثمان من لندن. ضؤ قمر مكتمل ورائحة هواء لا يخطئان. المزيد من الاصدقاء. زهير يضرب ألََماً على سيارة الموتى"إجا جاء ابو الزوز! إجا ابو الزوز!". دموع الرجال عزيزة، ولكنها حارقة. تضفي على وجوههم جمالا من النوع الذي يبْكيك. من المطار الى المطرانية حيث يسجى جثمان جوزيف. الرجال من بين الاصدقاء يريدون الاستمرار بالسهر عند حسن وندى. النساء، وبجموح عارم، يرغبن بالسهر في المطرانية بالقرب من الجثمان. نذهب الى المطرانية مع بعض الرجال. ثم بكاء مثل الشلال. السهر حول الجثمان والبكاء. بكاء حسيني. بكاء حوّل نوال وضحى ونجاة الى شخصيات ماركيزية. غزارة شتاء روايات غابرييل غارسيا ماركيز. بكاء مثل بئر احزان. محوره النعش المُحاط بالشموع. وتلمّس دؤوب للنعش... الرجال اكثر قدرة على التجريد."عندما علمت برحيله، صار جوزيف هنا... في عقلي". قال حسن مشيراً الى رأسه، رداً على دعوتنا له بالذهاب معنا الى المطرانية."لم يَعُد للجثمان معنى"، اضاف. النساء لا. النساء أكثر اقتراباً، او طلباً للإقتراب من الأشياء الملموسة. يتعاملن مع الموت كما هيأتهن له أمهن الطبيعة. الصلاة على روحه في اليوم التالي. ثم الرحلة الاخيرة، الوداع. جنازة لا تشبه غيرها من الجنازات. صعلوك يشيعه صعاليك وصعاليك سابقين ومتصعلكين. وجهاء، نواب وزراء سابقون... لا يتصدّرون. بالكاد نلمس مشاركتهم. ونخبة من التنوّع الفريد. كلٌ اتى بصفة الصديق. ليس مدفوعاً بغير حزنه. ما هو هذا الشيء الذي يجعلنا لا نصدق فعلاً رحيله؟ ما هو هذا الشيء الذي اضفى على المشيعين والمشيعات غبْطة لا تشبه الغبطات؟ غبطة الحزن على صعلوك شاهق هوى؟ ما الذي يجعلنا نمشي في الجنازة وكأننا نتدثر جميعنا بروحه؟ أهي قوة روحه؟ روح جوزيف الشغوفة؟ ام كثافة وجوده السابق على رحيله والباقية في دنيانا كالشحنة الغيبية الى ما بعد رحيله؟ أم قدرته السحرية على صنع المعاني؟ حتى من خلف التراب؟ موت العزيز لحظة تجلّي. تتبدّد معها القشور. تأخذك الى الاعماق. تقترب فيها من مغزى الوجود. معانٍ تفيض عن اللحظة. تتسامى بها. تتسامح تسامح الصعلوك الذي لا يعرف ان يبيع ولا ان يشتري. ماذا تريد من معانٍ أكثر من تولّي الحزب الشيوعي اللبناني لوجيستية السهر على الجثمان في المطرانية وتشييعه الى مثواه الاخير؟ الاعلام الشيوعية الحمراء، والشباب ذو الكوفية والقبعة الغيفارية ..."جوزيف على علمي لم يكن عضواً في الحزب الشيوعي اللبناني"يقول حازم في نهاية التشييع، بشيء من الخفَر والاستحياء: كأنه لا يريد إحراج من تولّى الحزن الاخير على صديق عمره. لا احد يعرف تماماً كواليس قصة الحزب الشيوعي. كثيرون غيره حاولوا"مصادرة"جوزيف إثر ورود نبأ وفاته في لندن. وحسن الظن هنا واجب. فجوزيف هكذا هو: ملتقى التناقضات. أي، كما يكون كبار الصعاليك، وطنه نقطة التقائنا. وهذا نوع من المعاني، وحده جوزيف قادر على توليدها... اما الصور فلا تسأل! الكنيسة ومدخلها يمتلآن بالورود الحمر والزهور البيض. الكنيسة عابقة بعطرها، وأوراق الورود الحمر ستنثر بعد دقائق على الجثمان. الغالبية لا تعرف طقوس الصلاة. نستعين ببعضنا لكي لا نخرج عن احترامها، ونندمج في القيام والقعود. معاً... صلاة من كل الاديان في كنيسة مطرانية الروم الكاثوليك الرحبة عن روح جوزيف. فكرة ما، احساس ما في الداخل يمْلي عليك الأناقة والخشوع. في نهاية التشييع، تجلس ضحى على طرف احد القبور، وتأبى التحرك من مكانها. بكاؤها الاغريقي لا يفارقني. أحاول التخفيف عنها بكلمات بلهاء."العقل"أقول."وما علاقة العقل بكل هذا؟"تنْتفض... وهي لا تزيح نظرها عن الشاهد وعلى رخامه الابيض نقش قول لإبن عربي"كل شوق يسكن باللقاء لا يعوّل عليه". حياة الصعاليك شوق دائم، وربما رحيلهم ايضاً. اؤجل حزني برهة. ينشغل بالي. ضحى، حبيبتي، جوزيف رحل... مات... خلاص. الوقت الآن للتفكير كيف نعود فنجتمع حول روحه... "كأنني مررتُ بالقرب من لبنان"، أقول لنفسي وانا عائدة الى القاهرة. كأنني حلمت بأربعة ايام من الحزن البديع. انا ايضاً يجب ان اصدق ان ملك الصعاليك قد رَحل.