النازل من إحدى هضاب بيروت قاصداً الساحة العريضة المشرّعة على البحر، والمستوية وإياه على مستوى واحد، قبيل ظهر الأربعاء في 16 شباط فبراير، التقى في الطرق المفضية الى ساحة البرج - الشهداء وربما ساحة رفيق الحريري على ألسنة الناس إن لم يكن رسمياً، قريباً، نازلين مثله من صنف قلما عرفه. ففي الطرق الساكتة والهامسة، على غير المعتاد، لم يبق إلا المشاة. والمشاة هؤلاء يتقاطرون، على غير عجلة، من بوابات المباني، ومن الطرق الفرعية، وييممون صوب الساحة التي يقوم على زاويتها والشريان الواصل بين ضفتي الساحة، مسجد جامع نسب الى الرسول الأمين، وكان سمي"الأعظم"في زمن مساجد القبائل وقيام بيت الوالي او الحاكم بجوار مسجده. والمتقاطرون هؤلاء ارادوا بلوغ مدفن رفيق الحريري، في صحن المسجد الأعظم، وحدهم، من غير السير في موكب التشييع الكبير والمركزي الذي كان بيت الرجل، أو دارته، منطلقه وأوله. وكانت الجماعات المجتمعة والهيئات مادته وقوامه. فاجتمع الجمع المشيِّع في الساحة الكبيرة من موكب تقدمه اعيان المشيعين، وراء جثمان"الشيخ دولة الرئيس"، ومن"مواكب"لا تحصى او روافد افراد وجماعات صغيرة وقليلة ارادت بلوغ الساحة من غير التقيد بالموكب المركزي. وحين صبت الجماعات الصغيرة هذه، وصب من جاؤوا افراداً، في الجمع الأعظم، لم يبدُ الجمع الأعظم من طينة مختلفة، على رغم جماعاته وهيئاته وكتله. فعلى خلاف تظاهرات حاشدة سابقة، يرجع بعضها الى حزيران يونيو 1967، غلبت على الجمع الكبير حرية أو سجية لا عهد للتظاهرات الحاشدة والمنظمة، والمركزية طبعاً، بها. فالمشيعون والمشيعات لا يصح فيهم وفيهن لا وصفهم بالمتظاهرين، ولا قصرهم على التذكير والذكورة. وليس مرد الأمر الى كثرة الصبايا والسيدات في جمهور التشييع، وحدها. فكثرتهن، أو حصتهن الظاهرة، ما كان لها ان تُرى لولا صدور المجتمعين، وصدور اجتماعهم في التشييع عن اختيار احتكم فيه المشيِّع والمشيعة الى نفسه ورغبته. فبرزت النسوة، من مراتب السن والعمر كلها، في وسط جمع لحمتُه من اصحابه ورغباتهم وإراداتهم وآرائهم، وليست اللحمة من جماعات وأجسام اهلية وسياسية سابقة الجمع واجتماع المجتمعين المشيعين. ويُرى هذا في لباس"القوم"، على ما سماهم نجل الصريع اللبناني. وهم لم يكونوا قوماً إلا على معنى غير مألوف. فالمشيعون والمشيعات لبسوا لباس ألبسة احوالهم وأعمارهم ومواردهم من غير تستر ولا تزويق. فجاء مشيعون شبان بشعورهم المجدولة او الناتئة والمتفرقة من غير مستحضرات التفريق والنتوء، وبستراتهم على قمصانهم اللصيقة، وبوجوه فتية ساهمة. وجاء مكتهلون بربطات العنق، والبذلات المكوية، والقمصان المتناغمة الألوان. ووقفت نسوة لابسات الأسود، تتدلى على صدورهن، وعلى كنزاتهن الخفيفة اوشحة بيضاء ناصعة، وقفن على الأرصفة، متباعدات او قريبات، يقرب بينهن، على تفرق بعضهن، احمرار الجفون وشحوب الوجنات ووميض الحدقات المكتوم او الحاد. واللواتي وضعن المناديل، على انواعها وصنوف ربطها، على رؤوسهن، بعضهن لبسن العباءات وبعضهن لبسن البنطلون، واختلطن بالناس وتفرقن فيهم. فشأنهن شأن كثيرات وكثيرين آذنت وجوههم المغضنة، وثيابهم المتعبة والمرتخية، بوطأة الحال عليهن وعليهم. وعلى نحو شهود العمائم، وأصنافها، على اصحابها ومشاربهم، شهدت"سراويل"الجينز وستراته ومراتب الخصر منه، على سن المشيعات والمشيعين، وعلى منابتهم. وعلى حين تجمع مشيعون ومشيعات أسراً وعائلات"نواتية"، أو حلقات اصدقاء وصفوف، او تحت اعلام حزبية، بقي آخرون فرادى او كالفرادى، من غير ان"يضيعوا"في جمع من غير لحمة واحدة، لا اجتماعية ولا مذهبية دينية ولا بلدية جغرافية ولا عمرية ولا ثقافية. والحزن على الرجل لم يحمل المشيعين والمشيعات على عصبية واحدة ومستوية ونازعة الى المجانسة والشبه، لا لباساً ولا سمتاً أو سيماءً ولا قولاً او هتافاً. فالعبارة عن الحزن لم تكن صياحة ولا صداحة، على خلاف زعم بعض الصحف. ولم تدعُ الحزانى الى إشهار آية واحدة عن مشاعرهم المتباينة، على الأرجح، مقدار تباين المشيعين والمشيعات. فالأصوات، شأن الوجوه، نمّت بالخسارة والفقد والانتباه والإنكار فوق ما نمت بالغضب والتهمة والثورة. ولعل هذا كذلك كان سبباً في ليونة أو لين اللحمة التي ربطت المشيعين والمشيعات بعضهم ببعض، وشدتهم بعضهم الى بعض، وسبباً في ضعف التعصب الذي ظهر على الجمع العريض. ولما همّ مشيّع مكتهل بهتاف يندد ب"الدولة الديكتاتورية"و"قاطعة الرؤوس"، على قول بيان مجلس المطارنة، رجاه آخر بترك الهتاف في حضرة الجثمان الماثل. فأجابه من يهمّ بالهتاف:"انه استفتاء"، ولكنه لم يلح وترك ما كان يهم فيه. والجمع المشيِّع كان مشرع المداخل والمخارج، يسع من شاء دخوله والخروج منه من غير حاجز او حائل، ومتى شاء. وبينما كان الموكب المنظم والطويل يبلغ رأسه بوابة الجامع الكبير، ويقترب الجثمان المحمول من المدفن، كانت روافد كثيرة تغادر الساحة وجوار الجامع الى طرق فرعية خلفهما، وتلتقي روافد اخرى مثلها تيمم وجه المدفن. وحين رسا الجثمان في مينائه، وأقبل عليه جمع محموم - وقد يكون هذا وقت الحمى الوحيد - كان ناس كثر يولون وجههم الجهة الجنوبية من الساحة، وظهرهم المدفن المتلاطم لبعض الوقت. ووسع آخرين، واقفين على الأرصفة، الانتقالَ من الرصيف الى الجهة المقابلة، وتخلُّلَ الموكب ورافده الكبير، من غير تدافع، ولا إعمال الكوعين والمنكبين والصدر. وخرج المنتقل ومتخلل الموكب الى الجهة الأخرى من غير ان يطأ قدميه احد، او يلحق بنطلونه غبار. ولم تكن هذه حاله وحده. فلم يقصف غصن صغير من اغصان الشجرات الفتية والضعيفة المزروعة في بعض مواضع الساحة. وحين انفض جمع المشيعين والمشيعات، وكان الانفضاض مثل الانضواء بطيئاً ومتفرقاً وعلى سجية الجمهور وأفراده وأبعاضه، لم يخلف الجمهور ما تخلفه الحشود المرصوصة وراءها من علاماتها: لم يخلف اوراقاً مبعثرة وممزقة، ولا قناني البلاستيك التي شرب ماءها، ولا"التعبئة"المعدنية الملونة والمهصورة. فهو جمعٌ من غير بقايا ولا نفيات او نفايات، على نحو ما هو جمع من غير عصبية حادة وصاحبة ضغينة. ولا يقتصر هذا على جمع المشيعين والمشيعات في اليوم العتيد. فعلى مثال قريب من التشييع، وقبله وغداته، قصد ناس كثر الحفرة التي خلفها الاغتيال، وجعلوا منها مزاراً: اضاؤوا الشموع، ووضعوا الورود والزهور، وردة وردة وزهرة وزهرة، ووقفوا وألقوا نظرة على المكان، وبعضهم صلى وكلهم سكتوا، وأخلوا مكانهم لمن وقف وراءهم وانتظر دوره. وتالي يوم التشييع، جاء ناس كثر، على شاكلة المشيعين و"الزائرين"أعماراً وأحوالاً ولباساً وجمعاً وتفرقاً، الى المدفن، ووقفوا، وحنوا الرؤوس، وقرأوا، وغادروا على السمت نفسه. وربما الفرق الظاهر هو ارتداء معظمهم ومعظمهن فالنسوة يفقن الرجال عدداً الأسود والنظارات في يوم ربيعي على رغم انتصاف شباط. وأحسب ان تشييع رفيق الحريري جاء على مثال سيرة الرجل العام والخاص رجل الحياة الخاصة، حين اجتمعت روافد حياته الكثيرة ساعة مصرعه شأن سائر الناس حين يلقون وجه ربهم. فاشتراك"الشباب"، الشبان والفتيات الشابات، واشتراك النسوة اشتراكاً عريضاً، صبغا التشييع بصبغتهما. فتخلص التشييع من السياسة العربية العصبية، ولحمتها المختصرة والعدائية. ومزج التشييع الاجتماع المجتمع، وفئاته وأبوابه وفروعه الكثيرة والمتباينة، بالوقت والظرف السياسيين. فلم يغلِّب المعنى السياسي العصبي، وهذا ينزع الى التوحيد والإذابة، على تنوع المجتمع ومنازعه وأحواله وجماعاته وأفراده. فبدا هتاف مثل"بالروح والدم/ نفديك يا حريري"، او".../ ... يا بهاء"نجل الراحل. أو".../ ... يا وليد جنبلاط، نابياً عن الموضوع والوقت. ولم يحمل احد الناس على التوسل بالشموع والورود والزهور والزيارة الى"غراوند زيرو"حفرة البرجين التوأمين بنيويورك بعد هجوم 11 ايلول/ سبتمبر 2001 عليهما، على ما سمى بعضهم الموضع الذي اغتيل فيه رفيق الحريري، كما لم يشر عليهم احد لا بلباسهم ولا سمتهم ولا طريقة توافدهم الى التشييع. ولكن اجتماع سيرة الراحل من روافدها لم يكن اتفاقاً، ولا كانت الروافد مصادفة. فالرجل ارادها واختارها، وجمعها على ترتيب رتبه هو. فرجل الأعمال، مقاول البناء والعقارات، تحول الى رجل مال ومصارف ومحفظات بورصة وتجارة طاقة، ودخل الإعلام من باب السياسة. ودخل السياسة من باب العون الاجتماعي وكفالة الضعفاء"وأهل الصفّة". ودخلها من باب المفاوضة الإقليمية على وقف النار في الحروب الملبننة، وعلى إنهاء هذه الحروب، قبل المفاوضة على رؤساء الجمهورية المتعاقبين، وعلى الانتخابات النيابية. وفي احواله هذه كلها لم يقدم السياسة والأعمال على ما هو في نفسه، وعلى الصور التي تصورت بها نفسه، على قول صاحبنا. فقدّم التعليم والمدارس على سائر ابواب العون في وقت اول ولمس وتراً لبنانياً في الأهل حساساً وقوي التجاوب. وتوليه تعبيد الطرق وشقها، ووصل البلاد والأحياء بعضها ببعض، استعاد داعياً لبنانياً آخر ملحاً هو داعي كسر عزلة"الأطراف". ونصبُه الإنماء والإعمار لازمة توجّه الى مثال لبناني عريق هو مثال الطبقات الوسطى، والرغبة في الانضمام إليها والانخراط فيها، على شروطها وآلاتها ومنها الحاسوب و"الإنترنت". ومال في حياته الخاصة والعامة، وفي مرافق إعلامه، الى عصرنة تميل الى الأضواء وتنزع إليها من غير تحفظ، شأن الجيل الذي بلغ العاشرة عند تولي رفيق الحريري وزارته الأولى. وسايرت"المدينة المنخفضة"، مدينة"سوليدير"والأسواق والوسط، النازع هذا. فجاءت مرتع الشبان والشابات والطبقات الوسطى المهنية، ومعرض ازيائهم وأزيائهن، ومأكلهم ومأكلهن. فمحاور الرؤساء وأعضاء مجلس الإدارات والأمناء العامين ومندوبي"الصناديق"، كان معاصر"العالم"، وبين دفتيه محمد خاتمي وحسن روحاني وآغازاده وحسن نصر الله وولفنسن وباسكال لامي وحكام المصارف المركزية، الى صحافيي"كافيه دو ليتوال"ببيروت ومعوزي الطريق الجديدة ومحلة المنلا وقرى طرابلس والضنية... وتنوعت علاقاته بالناس مقدار تنوع مواقعه وأدواره. فهو وزير اول على رأس إدارات الدولة ومرافقها، ورئيس في حلقة"رؤساء"متنافسين. بل ذهب اباتي عام الى وصفه ب"الخليفة". وهو مقاول على رأس شركات تتولى البناء والترميم والهندسة. وهو نائب عن ناخبين يحاسبونه ويحاسبهم، و"مدير"مدارس، ومانح منح، وباعث بعوث، ومتصدق كريم اليد، ورأس جماعات مالية ومصرفية وتجارية. وهو رأس أسرة وعائلة، و"سيد"بيت ودارة، ووالد وشقيق وابن عم، وهو"مثقف"، على ما جادل مخرج شريط سينمائي طلبه وموله. وعن هذه العلاقات نشأت جماعات كان له شأن في نشأتها واستوائها ودوامها. وهو إذا تراخى في سياسة هذه الجماعات احياناً، لم يعمد مختاراً الى قسرها، اي قسر اللبنانيين، على ما تكره ويكرهون. فكان ما كانه من غير تعصب ولا كبر أو انتشاء وازدراء. فشيعه"امثاله"، على وجوه الشبه الكثيرة التي كانت بينه وبيننا.