النجاح الذي حققه معرض الرياض الدولي للكتاب، الذي اختتم قبل أيام، فاجأ اللجنة المنظمة نفسها، وقلب كل التوقعات. فالأيام العشرة، صنعت حركة ثقافية لا مثيل لها من قبل، وحولت العاصمة السعودية مدينة للثقافة بامتياز، جاعلة منها قبلة المثقفين والباحثين عن الكتاب، وهم توافدوا من أنحاء البلاد. وبدا جلياً أن المعرض، جسد جو الانفتاح الذي بدأت تشهده السعودية في الآونة الأخيرة، ورأى فيه بعض المثقفين"وجهاً من وجوه الإصلاح السياسي"، فالرقابة كانت مرنة جداً، ولم تصادر سوى عناوين قليلة، ومعظم أيام المعرض، كانت للعائلات، أي للرجال والنساء معاً، وهذا ما لم يعتده السعوديون في الدورات السابقة. ولئن غابت قضايا المجتمع السعودي الثقافية والفكرية عن البرنامج المصاحب للمعرض، فإنها حضرت عبر كتب كثيرة، بخاصة الروايات التي حققت مبيعات مرتفعة، وغالبيتها تتطرق إلى مواضيع ساخنة. وكان المعرض في رأي البعض أشبه بإطلالة واسعة على الداخل، مع انفتاحه على الآخر. كانت أصوات كثيرة راهنت على فشل هذه الدورة من المعرض، إن لم يكن على مستوى التنظيم، فمن ناحية النشاطات الثقافية. وما دفع هؤلاء إلى المراهنة هو حداثة عهد وزارة الثقافة والإعلام في التجربة، فهي المرة الأولى التي تنظم فيها معرضاً من هذا القبيل. إضافة إلى أن الوزارة حرصت على النأي عن طرح القضايا التي تثير سجالاً في البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض، كقضايا الإصلاح وما شابهها، وهو ما جعل الرهان قوياً على فشل هذه الدورة. كما أن نجاح الدورة السابقة كان مدوياً، خصوصاً مع النشاطات الثقافية، وبالتالي فإن بلوغ نجاح مماثل بدا أمراً مستحيلاً. لكن الإقبال الكبير من الجنسين بدد تلك التوقعات، وكتب النجاح للمعرض. هكذا تغلبت وزارة الثقافة على تحديات البداية، وأحرزت نجاحاً جعل من المعرض تظاهرة ثقافية فريدة. شاركت في هذه الدورة نحو 600 دار نشر عربية وأجنبية، وعُرض نحو 200 ألف عنوان جديد. وهناك دور شاركت للمرة الأولى، مثل"الآداب"وپ"رياض الريّس"وپ"أزمنة"وپ"توبقال". وزار المعرض يومياً نحو خمسين ألفاً، خلال فترتي قبل الظهر والمساء، وحققت دور النشر - طبقاً لمسؤوليها - مبيعات عالية، لم تتهيأ لها في أي دورة سابقة. ولعل النجاح الحقيقي للمعرض تمثَّل في تغيير صورة المجتمع السعودي، التي ترسخت عنه كمجتمع استهلاكي أساساً، تأتي الثقافة في آخر اهتماماته. فالدورة هذه أكدت رغبة فعلية لدى السعوديين في القراءة واقتناء الكتب، على اختلاف موضوعاتها وتعدد اتجاهاتها. وهذا ما عبر عنه زوار المعرض من الجاليات الأجنبية، إذ رأوا فيه"تغيراً في صورة السعوديين". وإذا كان بضعة ناشرين سجلوا ملاحظات حول التنظيم، مثل وضع الأجنحة السعودية في الواجهة،"التي كان ينبغي أن تحظى بها دور النشر العربية"، وتقسيم المعرض بحسب البلدان لا القضايا والاهتمامات، فإن معظم الناشرين اعتبروا معرض الرياض متفوقاً على المعارض الدولية في العالم العربي، من حيث القوة الشرائية ومرونة الرقابة، مشيرين إلى أن المعرض يشهد تطوراً واضحاً، وأنه في كل سنة يتقدم إلى الأمام. كان الإقبال في المعرض كبيراً على الكتب والروايات السعودية، مثل:"البحريات"لأميمة الخميس، وپ"الآخرون"لصبا الحرز، وپ"مدن الملح"لعبدالرحمن منيف، وپ"الجنية"لغازي القصيبي، وپ"المكون اليهودي في الحضارة الغربية"لسعد البازعي، وپ"الكنز التركي"لسيف الإسلام بن سعود، وسواها من عناوين. وشهدت الترجمات أيضا طلباً متزايداً، روايات ودواوين شعرية وكتباً نقدية، مثل"الغابة النروجية"لهاروكي موراكامي، وپ"بيوغرافيا الجوع"لإميلي نوتومب، وپ"عربة المجانين"لليسكانوا المركز الثقافي العربي، وپ"حياة الصورة وموتها"لريجيس دوبريه أفريقيا الشرق، وپ"حارس القطيع"وپ"رباعيات"لفرناندو بيسو، وپ"على الطريق"لجاك كرواك، وپ"حياة باي"يان مارتل دار الجمل، وپ"حرائق السؤال"حوارات مع بورخيس وإيكو وداريل وروب غرييه، ترجمة محمد صوف، وپ"نادي البهجة والحظ"لآمي تان، و"فنانة الجسد"لدون ديللو، وپ"في ضيافة هنري ميلر"لباسكال فريبوس دار أزمنة. وحفل البرنامج الثقافي، الذي أقيم على هامش المعرض، بعدد من النشاطات، تركزت على الاهتمام بالكتاب وقضاياه نشراً وتصميماً وتوزيعاً وتحديات. ومن أبرز المشاركين وزير الثقافة اللبناني السابق غسان سلامة، والمستشرق الألماني شتيفان فايدر، وأكمل الدين إحسان أوغلي، ومحمد جنجار، وابراهيم المعلم، و زياد الدريس، وحميد العواضي، وباربرة ميشيلاك، وحسن ياغي وحسن إدلبي وأحمد اللباد وسواهم. ومن أبرز عناوين الندوات والمحاضرات: الثقافة العربية والدولة العثمانية، طرائف الكتب والمجلات، بين الثقافة والسياسية، حقوق الإنسان... حوار عن بعد، إهداءات الكتب، الكتاب المستعمل، تجربة الإصدار الأول، أغلفة الكتب، النشر الإلكتروني... صراع مع الورق،"اليونيسكو"والكتاب، حقوق الملكية الفكرية، إصدارات غربية الإسلام بعد 11 أيلول سبتمبر، والعالم العربي والقراءة... وكرّمت وزارة الثقافة شعراء قدامى، في لفتة رأى فيها المثقفون دليلاً إيجابياً على حقبة يميزها تقدير المؤسسة الرسمية للأدباء والمثقفين، والاعتراف بما قدموا من أدوار مهمة. ولم يشأ المعرض الرهان على نجوم وأسماء لامعة في برنامجه الثقافي، فقدم أسماء شابة من المثقفين والمثقفات، إما للمشاركة، أو في إدارة الندوات. وإذا كانت المعارض السابقة شهدت شبه غياب للمرأة، فإن الدورة الأخيرة نجحت أيضاً في إعطاء فرصة كبيرة للنساء، ليس فقط كزائرات أو مشاركات في البرنامج الثقافي في مختلف ندواته ومحاوره، إنما أيضاً في حفلة الافتتاح، إذ قرأت الشاعرة فوزية أبو خالد، كلمة المثقفين السعوديين، واعتبرت فيها المعرض"بارقة غيث في ثقافة المساواة وثقافة التساقي مع الثقافات الأخرى وثقافة تعدد الأطياف بتحاورها والتقائها على أرضية المشترك الوطني والإنساني