قرابة سبعين مليون ريال سعودي (نحو عشرين مليون دولار) كان رقم المبيعات التي حققها معرض الرياض الدولي للكتاب في دورته الجديدة، والذي انطلق بشعار: «الحوار... ثقافة وسلوك»، واستمرت أنشطته مدة عشرة أيام، وشارك فيه ما يزيد على تسعمئة دار نشر عربية وسعودية وأجنبية، عرضت مئتين وخمسين ألف عنوان، فضلاً عن أكثر من مليون كتاب إلكتروني. ملايين الدولارات أدخلت السعادة إلى قلوب الناشرين، الذين لا يفوتون، مهما كانت الأسباب، المشاركة في هذا المعرض، الذي أضحى علامة فارقة في تاريخ النشر العربي، فهو يعوض خسائرهم التي توالت منذ اندلاع ثورات الربيع العربي، كما أشبعت نهم القارئ السعودي إلى جديد الكتب بأنواعها، التي لا توجد في المكتبات السعودية إلا نادراً. طوال عشرة أيام تحوّل مركز المعارض الدولية إلى كرنفال يومي، يشارك في فعالياته سعوديات وسعوديون باختلاف فئاتهم العمرية وتعدد اهتماماتهم. كرست هذه المبيعات الهائلة معرض الرياض الأول عربياً بلا منازع، وواحداً من أكثر المعارض استقطاباً للزوار في العالم، وفق مسؤولتين من معرض فرانكفورت الدولي زارتا المعرض، الذي عبر عن قوة شرائية تزيد العام تلو العام. وبصرف النظر عن كون السعوديون يقرأون هذه الأعداد الكبيرة من الكتب التي يقبلون على اقتنائها بشراهة لافتة، وهو السؤال الذي ما برح يطرحه كتّاب سعوديون على أنفسهم في مقالات وتحقيقات صحافية، نظراً للإقبال منقطع النظير على الكتاب، فإن معرض الرياض تحوّل إلى عرس ثقافي واحتفال سنوي بالكتاب وردّ الاعتبار له، بتعبير أحد المثقفين، هذا الكتاب المنبوذ عربياً، بخاصة الأدبي والفكري، كما راح يشكل، أي المعرض، ما يشبه المختبر لقبول بعض الأفكار الجديدة أو رفضها، إضافة إلى أن طبيعة العلاقة بين المجتمع وبين بعض المؤسسات الرسمية، مثل «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر»، واختصارها «الهيئة» أو «الشرطة الدينية» في بعض الخطابات، تتجلى أكثر ما تتجلى في المعرض، حيث اختلاط الرجال بالنساء والأسرة بالأفراد. ولئن دأبت «الهيئة» على تقديم نفسها في الدورات الماضية بصفتها وصية على الزوار، وأفرادها ينهرون هذا الشاب ويأمرون تلك المرأة بتغطية وجهها، فإن الدورة الجديدة شهدت تحولاً جديراً بالتأمل، إذ خطت «الهيئة» خطوة جديدة لم تخطر في بال أحد، إذ راحت تدعو الكتّاب والمثقفين إلى زيارة جناحها في المعرض، وتقدم لهم الحلوى وتحثهم على كتابة كلمة في دفتر أعد للزوار. وجه ايجابي وجه جديد أظهرته «الهيئة» لم يألفه كثر ولم يستوعبه البعض حتى الآن، ودفع إلى التساؤل: هل تم تقليم أظافر «الهيئة»؟ لم يجب أحد بعد على هذا التساؤل، لكن المعرض تخلص من التوتر الذين كان يشيعه مرأى أفراد «الهيئة» في الدورات السابقة وهم يجوبون الممرات والردهات، منقضين على فرائسهم من النساء والشباب العزل. لعل هذا السلوك من رجال «الهيئة» هو الجديد الإيجابي الذي حملته دورة هذا العام، فالقوة الشرائية الضخمة وتحقيق المعرض مبيعات هائلة (عشرين مليوناً زيادة عن العام الماضي) لا يمكن اعتباره جديداً من وجهة نظر كتاب ومثقفين طالما اعتبروا المعرض سوقاً لبيع الكتب وليس شيئاً آخر، أي أن معرض الرياض للكتاب يفتقد للمسة ثقافية، عبر صياغة برنامج ثقافي لا يستوعب بعض ملامح الحراك الثقافي والأدبي السعودي فقط، إنما أيضاً يقدم المعرض بصفته منصة لعدد من التجارب الثقافية في الوطن العربي والعالم، كما يحصل في معارض عربية وخليجية أخرى، مثل معرض أبو ظبي مثلاً، فالبرنامج الثقافي لهذا العام خلا تماماً من أي ندوة أدبية، كما لم تدع إدارة المعرض أسماء عربية، الأمر الذي جعله فقيراً جداً من هذه الناحية. واستبق مثقفون المعرض بمطالب تؤكد على الملمح الثقافي للمعرض، مشددين على وجوب الاهتمام به، حتى لا يتحول فعلاً إلى مجرد سوق لبيع الكتب وشرائها، وهي الصورة الحاضرة في أذهان الكثير. وقال الناقد سعد البازعي إن القضايا التي يستدعيها معرض الكتاب كثيرة، «لعل في طليعتها مشكلات الكتاب العربي نفسه وما يُفرض عليه من قيود وما يعانيه من قرصنة وضياع حقوق وسوء توزيع». ولفت إلى أن الكتاب العربي بحاجة إلى ربيع كتاب «ولكن من نوع خاص، ربيع يخرج به من الحاجة الدائمة كما يبدو إلى معرض كتاب ليصل بسهولة لكي يباع ويتخطى بعض قيود الرقابة». وأوضح الروائي عواض العصيمي أن وصف معرض الرياض ب «الدولي» لا يدل على حقيقة الوصف إلا في حدود ضيقة. وأكد أن ما ينقص المعرض «هو أن ينتقل من كونه مكتبة لبيع الكتب إلى مشروع استراتيجي لصنع الثقافة المحلية على أحدث مستوى ممكن ومن دون قيود». واعتبر الناقد محمد العباس أن وزارة الثقافة تعاني التخبط «نتيجة عدم وجود مستشار ثقافي يعي متطلبات الثقافة والمرحلة، إذ يبدو معرض الكتاب مثالاً حياً وصادماً لسوء التخطيط والارتباك». في حين قال الشاعر مسفر الغامدي إن «المعرض لا يزال يدور في الفلك المادي الاستهلاكي (البيع والشراء)، فكل الدلائل تشير إلى ذلك... لا الأسماء ولا المحاور ولا الندوات ولا الأمسيات ولا القناة الثقافية ببثها المباشر قادرة على إقناعنا بعكس ذلك، طالما هي مجرد ديكورات لتجميل المعرض، ولإضفاء طابع ثقافي على نشاط يكاد مضاداً للثقافة». لكن مع ذلك، يبقى المعرض تظاهرة لافتة، تؤمّه يومياً عشرات الآلاف من الزوار، ينفقون أموالاً طائلة على الكتاب. وبينما تراجع الطلب على الرواية، السعودية منها تحديداً، حققت كتب الوهابية وجماعة الإخوان المسلمين والدين والتدين انتشاراً واسعاً بين دور نشر بارزة في معرض الرياض الدولي للكتاب في دورته الثامنة، مثل الشبكة العربية للدراسات والنشر، ودار «التنوير» اللبنانية، التي حضرت من خلال إصدارات جديدة ومهمة، ودار جداول و «مدارك»، والمركز الثقافي العربي و «أزمنة» وغيرها، ووجدت هذه الكتب إقبالاً من الزوار على اختلاف مشاربهم، إلى جانب كتب أخرى متنوعة. وغابت دور النشر السورية هذا العام، وكان وزير الثقافة والإعلام الدكتور عبدالعزيز خوجة أوضح أن دور النشر السورية لن تشارك في المعرض، «بسبب العلاقات بين البلدين، وهو ما يدفع الوزارة لاتخاذ إجراءات معينة». كما يستمر منع دار الجمل من المشاركة في هذه الدورة أيضاً. جائزة ولجنة تحكيم مجهولة لم تنجُ جائزة وزارة الثقافة لكتّاب العام من الانتقادات، ومن اعتبارها جزءاً من التخبط والعشوائية اللذين يسِمَان المعرض كل عام. الجائزة تمنح ل10 كتّاب، وقدرها 100 ألف ريال (حوالى 26 ألف دولار) لكل فائز في حفلة افتتاح المعرض، إضافة إلى 100 ألف أخرى للناشر الذي أصدر الكتاب الفائز (وحتى الآن لم يتسلم أي ناشر جائزته على رغم مرور دورتين على الجائزة). وسبب انتقاد الجائزة أنها بلا شروط ولا معايير واضحة، كما أن لجنة التحكيم فيها تكاد تكون مجهولة، إضافة إلى أمور أخرى، منها أن الكتب المرشحة لهذه الدورة -وعددها أكثر من 300- لم تُرسل إلى لجنة التحكيم إلا قبل انطلاق المعرض بثلاثة أسابيع، فكيف يمكن أعضاء لجنة التحكيم -مهما كان عددهم- قراءة كل هذه الكتب والمفاضلة بينها في وقت وجيز؟ يبدو أن لجنة التحكيم لم يعرف أحد حتى الآن ممن تشكلت، والأمر نفسه يسري على لجنة التحكيم في الدورة الماضية، إذ اعتمدت على الأسماء المعروفة، بغض النظر عن قيمة الكتاب، لتخرج من هذا المأزق، وهو ما دفع الكاتب عبدالله بن بخيت إلى اعتبار فوز كتاب «مختلف» للكاتبة هناء حجازي -الذي عده مميزاً- مع كتب أخرى أقل قيمة أمراً معيباً. ويرى عبدالله بن بخيت، الذي يعد أحد الروائيين المميزين، أن معظم من فازوا بالجائزة، وبينهم عبده خال ومحمد جبر الحربي ويوسف المحيميد وعبدالله باخشوين وصالح زياد، حصلوا عليها «من باب الإخوانية والمجاملة»، وقال في مقالة له: «أول مرة نسمع أن الكتب تُمنح جائزة بأثر رجعي. في الوقت نفسه أحتاج أن أكون بارعاً في مادة الرياضيات لأعرف عدد الكتب التي فازت هذا العام. يبدو أن عدد الكتب التي تمنح هذه الجائزة تزداد سنوياً». وأضاف ساخراً: «بناء على هذا المعدل المتصاعد أتوقع بعد أربع سنوات أن ستفوز كل الكتب المعروضة في معرض الكتاب، أما بعد ثماني سنوات فستفوز كل الكتب المطبوعة باللغة العربية، ولا أظن أن القائمين على الجائزة يفكرون في منح الجائزة أبعد من ثماني سنوات، خشية أن تفوز الكتب المطبوعة باللغة الصينية». «المغرب» ضيف الشرف حلّ المغرب ضيف شرف لمعرض الرياض الدولي للكتاب في اللحظة الأخيرة. على الأرجح كان المغرب منقذاً، فهو وإن لم يتلق الدعوة إلا متأخراً جداً قبل ثلاثة أسابيع من انطلاق المعرض، لكنه لبى الدعوة وعبَّر عن سعادته بها، على رغم أنه أيضاً ضيف شرف على معرض مكتبة الإسكندرية في آخر الشهر الجاري نفسه. وكان معرض الرياض أعلن منذ حوالى شهرين أن فرنسا هي ضيف الشرف، ثم تردد أنه إسبانيا، قبل أن يحسم المعرض أمره ويعلن أن المغرب ضيف شرف. واختار المغرب نخبة مهمة من الأسماء، ضمت روائيين ونقاداً ومفكرين. وقال مدير معرض الدارالبيضاء الأديب حسن وزاني، إنهم كانوا في سباق مع الزمن «لإنجاز مشاركة ناجحة تليق بالمغرب». واعتبر وزاني أن السعودية «شريك في كل شيء»، وأشار إلى أن الشعور بالتقدير الثقافي والأدبي والفكري متبادل». وعلى صعيد البرنامج الثقافي لضيف الشرف، لم تخلُ ندوة «التأملات الروائية» من لحظات كشف لبعض المناطق في العلاقة بين الروائي والسياسي، إذ قال الميلودي شغموم: «اكتشفنا أننا أغبياء، لأن السياسي استخدم الروائيين من جيل السبعينات ليصل بنا إلى الحداثة السياسية أكبر من الإنسان والوطن». وذكر أن «الروائيين المغاربة من جيل السبعينات واجهتهم مشكلة اللغة وتعددها آنذاك»، مضيفاً أن «التعدد هو إثراء وإفقار في آن». ولفت إلى أنه ينتمي إلى جيل التجريب في كتابة الرواية. ومن جهة أخرى، أعاد عبدالفتاح الحجمري طرح بعض التساؤلات التي كان المفكر عبدالله العروي طرحها في كتابه عن الأيديولوجيا، في محاولة لمقاربة الرواية وكتابتها في المغرب، كما تطرق جمال بوطيب إلى ما أسماه بأعراف الكتابة الروائية. وفي ندوة أخرى، قدّم محمد مفتاح تعريفاً للنقد، مؤكداً على ضرورة «أن يكون علم النقد علم بحت مثل علم الهندسة والطب». واستعرض سعيد بنكراد التجربة النقدية في المغرب ومظاهرها، والتي من أبرزها البنيوية والنقد الروائي والسرد. وتطرق بنكراد إلى تعداد رهانات التحديث في المغرب. وقال: «إنها رهانات متداخلة، إذ يشكل الرهان المنهجي فيه حجر الزاوية، كما هيمنت الوظيفة التحليلية على الخطاب الإبداعي بحيث ينطلق من النصوص إلى النسق الثقافي». وبدأ الدكتور شرف الدين في ورقته بسؤال: «هل النقد هو ناتج حداثة مغربية أو هو عامل من العوامل، أي هل هو علة أم معلول». وقال إن النقد الأدبي المغربي «يدين في مضمونه إلى الحداثة في الدول العربية، وليست الحداثة مغربية فقط». كما تطرق شرف الدين إلى نظريات عدة في النقد لعدد من الإعلام في المغرب. وضمن البرنامج الثقافي لضيف الشرف قرأ ثلاثة من الشعراء وهم: عبدالكريم الطبال، وصلاح الوديع، وأمينة المريني قصائد تفاعل معها الحضور. وتحدث كل من عبدالسلام بنعبد العالي ومحمد المصباحي ومحمد جبرون عن الفكر العربي الإسلامي في المغرب المعاصر. وكانت الفاعليات الثقافية المغربية عوضت الغياب التام لأي ملمح ثقافي في برنامج المعرض، وإن لم يتم استثمار وجود بعض الأسماء المهمة التي قد لا تتاح فرصة دعوتها ثانية إلى المعرض، في عقد لقاءات مفتوحة معها حول تجربتها في الكتاب، وهمومها الثقافية الأخرى.