الساعة الآن هي للهجوم الأميركي. الولاياتالمتحدة الأميركية القلقة من إخفاقاتها العسكرية والسياسية - على جبهتين رئيستين في ما بات يعرف في قاموس السياسة الأميركية ب "الحرب على الإرهاب"، إذ تواجه مقاومتين قويتين في أفغانستانوالعراق، تحاول أن تأخذ زمام المبادرة من خلال الانتقال الى الهجوم المضاد عبر تمديد استراتيجيتها لمقاومة التحركات الايرانية في الشرق الأوسط. وتحدد واشنطن أكثر فأكثر معركتها بوصفها معركة شاملة، إذ تجد دعماً كاملاً من اسرائيل، وهي تريد مهاجمة المتطرفين طالبان في افغانستان، و"القاعدة"في العراق، اضافة الى"حزب الله". ورأى الرئيس الأميركي ان "المتطرفين على اختلاف مذاهبهم وجهان للتهديد الاستبدادي والشمولي نفسه". ان الرئيس لا يزال مصمماً على المضي قدماً في خوض استراتيجيته الهجومية، يكشف عن ذلك مشروع الموازنة التي عرضها للعام المالي 2008، التي بلغت رقماً قياسياً هو 2.9 تريليون دولار، إذ قال بوش انه سيسعى الى طلب مبلغ اضافي هو 235 بليون دولار في العامين الماليين 2007 و2008 تخصص للانفاق العسكري و"الحرب على الارهاب"التي تخوضها الولاياتالمتحدة. وتشمل خطة الموازنة، التي جاءت في أربعة مجلدات خضراء كبيرة، طلب مبلغ 141.7 بليون دولار مخصصات طارئة لتمويل"الحرب على الارهاب"في العام المالي 2008 الذي يبدأ في الأول من تشرين الأول اكتوبر، كما تشتمل كذلك على مبلغ 93.4 بليون دولار كمخصصات اضافية لعام 2007 لدعم العمليات العسكرية في الخارج. وتهدف"الاستراتيجية الجديدة"الى ممارسة الضغوطات المتعددة الأشكال على ايران"لقلب الآفاق التي يعتقد الايرانيون أنهم لا يهزمون فيها"حسب قول ديبلوماسي أميركي. وحسب صحيفة"واشنطن بوست"، الشعور السائد لدى الادارة الأميركية هو ان"الايرانيين لا يستجيبون لمطالب المجتمع الدولي إلا تحت الضغط، لا عندما يشعرون أنهم أقوياء". ويعتقد بعض المحللين ان ادارة الرئيس بوش قررت تصعيد المواجهة ضد ايران، وأنها تنفذ سلسلة خطوات حتى تحقق هدفين: أولاً تجييش الشارعين العربي والاسلامي مذهبياً ضد ايران عبر تضخيم وتهويل خطر التمدد الايراني. وثانياً، استدراج طهران الى حرب مع الغرب والدول الاقليمية. وكان بول روبرتس مساعد وزير الخزانة الأميركية في عهد رونالد ريغان، قال في مقال له الاسبوع الماضي ان المحافظين الجدد والقيادة الاسرائيلية يخططون لإشعال حرب مع ايران يجد الكونغرس الاميركي نفسه مضطراً للموافقة عليها، معرباً عن اعتقاده ان ايران تستدرج حالياً لشن هجوم على قوات اميركية يكون له تأثير على الشعب الاميركي مشابه لهجوم اليابان على بيرل هاربر في الحرب العالمية الثانية، الذي دخلت اميركا الحرب على أثره. الموقف المتشدد الجديد للرئيس جورج بوش حيال ايران وحشده العسكري في الخليج يعيدان الى الأذهان بعض مظاهر قرع طبول الحرب التي سبقت الغزو الاميركي للعراق عام 2003. وكما حدث آنذاك، فإن ادارة بوش تعلن الآن عن مزاعم بشأن ايران من دون ان تقدم أدلة. وتقول ادارة بوش ان ايران ترسل اسلحة الى العراق، الا أنها لا تقدم أية أدلة على أن هذه الشحنات تأتي من ايران، وهناك ايضاً كلام بشأن وقوف عملاء للاستخبارات الايرانية وراء خطف وإعدام خمسة جنود اميركيين أخيراً. وبنظر ادارة بوش، فإن ايران هي دولة"محور الشر"التي ينبغي وقف طموحاتها النووية. والرئيس الايراني محمود أحمدي نجاد حل الآن محل صدام حسين باعتباره"الخصم الرهيب"الأول لبوش في الشرق الأوسط. وجهود بوش لحشد تأييد الرأي العام وراء خطه المتزايد في التشدد إزاء ايران جعلت العديد من أعضاء الكونغرس وبعض المسؤولين والخبراء في عالم الاستخبارات والدفاع يتساءلون عما إذا كان ذلك تمهيداً لعمل عسكري. ويصر بوش على أنه ليست لديه أية خطط لغزو ايران، وأن كل ما يسعى إليه هو فقط حماية الجنود الاميركيين في العراق. ولكن في الأيام الأخيرة رفع بوش الوجود البحري الاميركي في الخليج الى أعلى مستوى له منذ عام 2003، عندما أمر مجموعة ضاربة ثانية من حاملة طائرات وسفنها بالتوجه الى الخليج. كما أكدت الادارة الأميركية ان بوش أجاز للجيش الأميركي قتل أو أسر العملاء الايرانيين الذين يدبرون هجمات ضد قوات اميركية. وزودت الادارة الاميركية دولاً عربية مجاورة لايران بصواريخ باتريوت المضادة للصواريخ. وفي الوقت ذاته، أوقفت وزارة الدفاع الاميركية بيع قطع غيار لمقاتلات"اف 14"التي أحالتها الوزارة حديثاً الى التقاعد، بهدف منع نقل قطع الغيار هذه الى ايران التي تملك عدداً من هذه المقاتلات. ويرى منتقدو الادارة الاميركية ان البيت الأبيض يبالغ في علاقة ايران بالهجمات التي تقع داخل العراق من أجل تبرير هجوم عسكري محتمل في المستقبل، تماماً كما تلاعبت بالمعلومات الاستخباراتية لدعم قضيتها في الفترة السابقة على غزو عام 2003. وقال مايكل اوهالف، المحلل في شؤون السياسة الخارجية لدى مؤسسة بروكينغز ومستشار مجموعة الدراسات بشأن العراق، مشيراً الى بوش"مرة أخرى، يبدو مقتنعاً بأنه على حق، ويقاتل ضد قوى شريرة، ويعرض هذه الرؤية التبسيطية للعالم. انه يفعل ما يعتقد أنه التصميم الذي يتوجب عليه أن يظهره". القاسم المشترك بين ايرانوالعراق ان ادارة الرئيس بوش ذات القناعات الايديولوجية الراسخة، اعتبرتهما دولتين ذات نظامي حكم مرفوضين وعدوانيين، ويشكلان خطراً مباشراً على مصالحها الاستراتيجية. ففي الحالة العراقية، كان للرئيس السابق صدام حسين طموح نووي، وكان يسعى لبناء قوة عسكرية ضاربة في منطقة الشرق الأوسط، لكن اسرائيل تنبهت بسرعة للأمر، ونفذ الطيران الاسرائيلي عملية قصف تدميرية للمنشآت النووية العراقية يوم الأحد 7 حزيران يونيو 1981. هل ايرن اليوم أكثر تهديداً من العراق بالأمس؟ لطالما كانت ايران كذلك. في ما يتعلق بالطموحات الاقليمية، كان العراق قزماً مقارنة بايران. وعبر غزو بغداد في 2003، اختار الأميركيون الدولة الأضعف وليس الدولة الأكثر طموحاً أو الأكثر انتشاراً للأسلحة النووية. أما ايران، فقد اعتمدت اسلوباً مختلفاً عن العراق، إذ نجحت لفترة طويلة في المناورة مع المفاوضين الغربيين الدوليين. واضافة الى ذلك، النظام الديني في ايران يتمتع بشعبية أكبر من التأييد الذي كان يحظى به النظام العراقي، ذو القاعدة العائلية والعشائرية. ولعبت ايران بذكاء في ملف العراق، وهي اليوم المستفيد الأكبر من الغزو الأميركي للعراق، حيث أن لمناصريها الغالبية في البرلمان العراقي. وناورت مجدداً في ملفها النووي مستغلة اختلاف أولويات واشنطن ودول الاتحاد الأوروبي وموسكو إزاءها واستفادت ايضاً من قنوات اتصال غير مباشرة مع واشنطن ومن بعض علاقاتها الاقليمية في المنطقة. يعتبر التيار المتشدد في ايران ان مسألة انتشار أسلحة الدمار الشامل لم تكن في الحقيقة سوى ذريعة كاذبة، استخدمتها الولاياتالمتحدة الأميركية لغزو العراق. والحل هذه تمثل حرب العراق عنصراً حاسماً في قرار التشدد الايراني. وقد أثرت الأكاذيب الاميركية سلباً على صدقية التنديد بمخاطر انتشار أسلحة الدمار الشامل. والأدهى من ذلك هو أن كوريا الشمالية واصلت باطمئنان وثقة مساعيها لامتلاك ترسانة نووية، في الوقت الذي توشك فيه ايران على امتلاك ترسانتها الخاصة. الحقيقة ان طهران لاحظت ان العراق الذي كان يصرح تكراراً بأنه لا يمتلك اسلحة دمار شامل وقبل بعمليات التفتيش الدولية، قد شنت عليه حرب. في حين أن كوريا الشمالية التي سلكت نهجاً معاكساً نعمت بالسلام. فاستنتج النظام الايراني ان سبيله الأفضل للحفاظ على نظام حكمه هو امتلاك ترسانة نووية وليس احترام التزاماته بشأن الحد من انتشار السلاح النووي. هذا فضلاً عن أن الولاياتالمتحدة المتورطة في المستنقع العراقي ستكون أقل قدرة على المناورة في ممارسة الضغوط على طهران. لذلك وجد الايرانيون في الظروف المحيطة ما يحثهم على التمرد. الادارة الأميركية بقيادة جورج بوش تحضر جدياً لاستخدام القوة العسكرية لإجبار نظام الملالي للعدول عن برنامجه النووي. والمسألة مطروحة بقوة في واشنطن كما يستنتج من سلسلة من المقالات المنشورة من قبل مجموعة من الخبراء المهمين في هذا المجال. في المواجهة العسكرية الاميركية - الايرانية المحتملة، يبقى الميزان العسكري مائلاً بدرجة واضحة لمصلحة واشنطن، ولا يمكن لايران أن تصمد عسكرياً، نظراً للاختلاف الجذري للبلدين اللذين يعيشان في عصرين مختلفين: عصر ايران الذي يعود الى مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وعصر اميركا المتفوق على جميع الصعد تكنولوجياً نووياً، وعسكرياً، واقتصادياً. فعلى الرغم من قدرة طهران على إلحاق الأذى بقواعد واشنطن في الخليج وباسرائيل، الا ان هذا"الأذى"سيفوق بالتأكيد الضرر الاستراتيجي المترتب على حيازة طهران للسلاح النووي. وعلى رغم ذلك فإن هناك إدراكاً اميركياً ان أي اجراء عنيف من عقوبات أو ضربات عسكرية سيؤجل البرنامج النووي الايراني ويؤخر تنفيذه ولن يهدمه تماماً ولكنه سيزيد من شرعية النظام الايراني ومن التفاف الشعب الايراني حوله، وهو ما يعني أن تحقق واشنطن هدفاً مرحلياً بتدمير المفاعلات النووية الايرانية وهو أمر مشكوك فيه عسكرياً مقابل التضحية بالهدف الرئيسي في الاطاحة تماماً بالنظام الايراني. ويبدو أن التصور الأميركي الحالي لمواجهة ايران توسع ليس لضرب أو قصف مفاعلات ايران النووية فقط، بل ان ادارة الرئيس الاميركي جورج بوش مالت نحو تغيير يبدو جدياً في التعامل مع الملف الايراني. فبحسب"واشنطن بوست"و"هآرتس"تعتزم واشنطن انتهاج سياسة من شأنها تصعيد التوتر في المنطقة من خلال ممارسة ضغوط متزايدة على طهران، تستهدف"اسقاط"النظام الايراني. وبحسب الصحيفة الأميركية، فقد انتصر الفريق المؤيد لإسقاط النظام في ايران، داخل ادارة بوش. ان ادارة الرئيس بوش لها هدف في ايران: تغيير النظام. وبدأت في تحرير مبلغ بنحو 85 مليون دولار لهذا الغرض. ولا شك ان هذا ليس إلا بداية. وفي سبيل الوصول الى تحقيق هدفها، لن تتوانى الادارة الأميركية عن استخدام كل الوسائل التي تمتلكها. فالعقوبات التي تطالب مجلس الأمن بفرضها على ايران، لا تستهدف فقط وقف، أو أيضاً تعطيل، البرنامج النووي الايراني، انما وظيفتها تكمن في زعزعة النظام، والإسهام في اسقاطه. ويدخل الخيار العسكري المثار لضرب المنشآت النووية الايرانية في هذا السياق. ورأى خبراء ومحللون استراتيجيون ان الموقف المتشدد الذي تتخذه ادارة بوش من ايران حالياً، مترافقاً مع بناء حشد عسكري في الخليج، يعيد الى الأذهان بعض مظاهر قرع طبول الحرب التي سبقت الغزو الأميركي للعراق في ربيع 2003. في هذا السياق، قال القائد الأعلى السابق لقوات حلف شمال الأطلسي الجنرال الأميركي ويزلي كلارك ان مصدر قلقه هو أن التوتر المتزايد بين الولاياتالمتحدة والجمهورية الاسلامية قد يصل الى نقطة اللاعودة. وأضاف:"على الايرانيين أن يأخذوا بجدية تامة احتمال شن هجمات جوية وصاروخية، الى جانب عمليات أخرى تستهدف منشآتهم النووية وجميع عناصر قوتهم العسكرية الأخرى". الى جانب ذلك، توقع خبراء اسرائيليون في دراسة نشرها"معهد أبحاث الأمن القومي"في جامعة تل ابيب، أن تسعى ايران الى اتباع سياسة تعتيم نووي كالتي تتبعها اسرائيل حيال قدرتها النووية. ورأى الخبراء انه في حال تصرفت ايران"بشكل منطقي وليس بدوافع دينية وايديولوجية فقط"فإنه يمكن تفهم رغبتها بحيازة سلاح نووي على أنها نابعة من اعتبارات"دفاعية ورادعة ضد العراق في الماضي والولاياتالمتحدة اليوم"اضافة الى سعيها لتحقيق هيمنة اقليمية وتعزيز مكانة النظام الايراني. وأضاف الخبراء انه"يمكن الافتراض انه في المستقبل ايضاً ستفضل ايران الحفاظ على هذا السلاح كورقة مساومة أخيرة وأن القضاء على اسرائيل لا يعتبر مصلحة مهمة ولا تحتم استخدام هذا السلاح لتنفيذها". العديد من المحللين الغربيين يعتقدون ان ادارة الرئيس بوش لن تعقد أي"صفقة كبيرة"مع ايران تهدف الى تقاسم النفوذ معها في العراق أو في منطقة الخليج، أو تفويض ايران ان تلعب في الساحة العراقية دوراً مماثلاً للدور السوري السابق الذي كان مهيمناً على لبنان، لأن ذلك سيؤدي الى تقوية الدور الايراني في المنطقة مما يهدد موازين القوى حالياً ويتعارض مع المصالح الحيوية والاستراتيجية الأميركية والغربية. ان أي تسوية مهما كانت جزئية سواء بتأجيل الملف النووي، وبالإمهال في العراق أو التمكين من تشكيل حكومة وحدة وطنية بالعراق، سيخدم في المحصلة النهائية ايران. ففي هذه الحالة، ايران هي الباقية في المنطقة، والنووي عندها قد اتخذ مساره ولو طال الأمر سنة أو سنتين. ومعنى ذلك ان التنازل الايراني الموقت، لن يشكل خسارة لايران في المدى المتوسط والطويل. من هذا المنطلق لن تتساهل ادارة بوش مع ايران في شأن برنامجها النووي في مقابل تعاونها معها في العراق، بحيث تسمح لها بتخصيب اليورانيوم في أراضيها مما يفتح الباب أمام احتمال امتلاك الايرانيين السلاح النووي في مستقبل قريب. فالتهديد الذي سيشكله السلاح النووي الايراني سيدفع الدول العربية الأخرى وعلى رأسها مصر والسعودية والجزائر الى الدخول في سباق للحصول عليه. كما ان مضي ايران في مشروعها النووي لا بد ان يعزز مكانتها الاقليمية ويقوي من نفوذها، ومن نفوذ حلفائها في المنطقة مثل سورية و"حزب الله"الذي قد يلجأ الى توسيع نطاق عملياته ويشعر أنه بات يملك قدرة أكبر للحركة. كما أن ذلك لا بد أن يزيد من نفوذ ايران في العراق بصورة خاصة. ومن وجهة النظر الاميركية فإن الخلاف مع ايران يتعدى برنامجها النووي، إذ انه من الصعب ايجاد أرضية مشتركة مع حكومة تعتقد ان اسرائيل يجب أن تزول وتساند"حزب الله"والمنظمات الفلسطينية الأخرى المصممة على تحطيم مسار السلام. * كاتب تونسي